الماضي وسؤال المستقبل

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هل يستطيع الماضي ان يقدم جميع الاجوبة للحاضر المعاش من اجل مستقبل افضل؟، لكن ما هو الماضي؟.

المؤرخ البريطاني كيث جينكينز يذهب الى ان الماضي عبارة عن أحداث وقعت، وقد بقيت لها آثار، وتلك الآثار موجودة سواء بحث عنها المؤرخ أم لم يفعل، وعندما يستخدم المؤرخ بعض تلك الآثار لإثبات رأي ما، فإنها تصبح "أدلّة" (تفسيرات). ولا تُسمى بهذا إن لم يستخدمها.

لكن بالمقابل هناك رأي آخر يقول: إن الأثر هو الدليل (التاريخ)، لأنه يفرض نفسه على المؤرخ، فلا يكون أمامه خيار سوى أن يدعه يتحدّث عن نفسه. إذن فمهمة المؤرخ هنا، وبخلاف الرأي الأول، هي التنقيب عن تلك الآثار (الأحداث) في المصادر، وتنسيقها ووضعها أما القارئ، دون تدخّل منه أو محاولة تفسير أو إعادة بناء للأحداث، لأنها قادرة على أن تتحدّث عن نفسها. فالتاريخ هنا يُعتبر هو الماضي، وليس ثمّة فرق بينهما.

لكن الماضي هو في الحقيقة (ماضيان)؛ ماض  نعرفه ونجد شواهده من خبر  أو أثر، أو يُمكن أن نعرفه، وماض  لا نعرفه.

ما هو التاريخ؟

هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم. وهذا التعريف شامل للأبعاد الثلاثة التي هي: البعد المكاني، والبعد الزماني، والبعد الإنساني المتعلق بالأشخاص.

 او هو (تعريف الوقت) كما يذهب الادريسي، او علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله، وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته" كمت يذهب الى ذلك محيي الدين محمد بن سليمان الكافيجي.

هل هناك من فرق بين الماضي والتاريخ؟

يذهب إدوارد كار، إلى أن الفرق موجود.. الدليل (بعكس الأثر) دائماً ما يكون من إنتاج وصناعة المؤرخ. والدليل (التفسير)، هو التاريخ. والأثر (الخبر) هو الماضي. فالتاريخ إذن لم يوجد قبل أن يكون هناك تفسير للأحداث (دليل)؛ وإنما كان هناك فقط آثار الماضي (خبر).

ينبغي الاشارة هنا ان الماضي وحدة زمنية لا يقابل إلا بمايجانسه من وحدات الزمن، كالحاضر، أو المستقبل. وأما التاريخ فأداة ذهنية أو عملية منهجية تستهدف عقلنة الماضي وترتيب صورته، الماضي مادة و( التاريخ ) آلة.

يعيش المسلمون والعرب الماضي والتاريخ في حاضرهم، وتختلف درجة استحضار ذلك في حياتهم عن غيرهم من الامم والشعوب الاخرى، هناك من يرى ان تلك المعيشة ضرورية للمعرفة واستلهام العبر، وهناك من يرى انها قيدا يكبل انطلاقة العرب والمسلمين الى مستقبل افضل، وهناك من يريد القطع مع الماضي برمته، والغاء الذاكرة التاريخية للعرب والمسلمين كشرط ناجز للخروج من النفق المظلم.

 كل اطروحة من الاطروحات الثلاث تحتمل مقدارا من الصحة، الا ان الاطروحة الثالثة قد ذهبت الى مدى ابعد من التعسف والاجحاف بحق الماضي والتاريخ، وقد استفاد منها الكثير من الحكام المستبدين حين اخذوا باعادة كتابة تاريخ جديد لبلدانهم حذفوا منه الكثير واضافوا اليه كثيرا اخر مغايرا، لتبرير ذلك الاستبداد وقمع الاصوات الثائرة ضدهم.

يكتب الدكتور متعب مناف في بحث حمل عنوان (دراسات في العقل العراقي) ان الملوك كانوا ينفردون بكتابة التاريخ لأنهم الوحيدون الذين بمستطاعهم القطع مع الماضي والوصول به إلى مرحلة مفصلية.

وهذه التاريخانية او الترخنة، التي ترتقي إلى مرتبة الضم والابتلاع للعقل الشرقي بعامة ثم الاسلامي فالعراقي، والتسلط المطلق للملوك الحكام الذين كانوا رؤوساً (الرأس الحاكمة) فرضوا عسفهم وظلمهم احياءاً، كما استمر الخوف منهم امواتاً. الملوك الاحياء يطاعون إلى حد التسليم وكأنهم قدر لانهم لم يتركوا اتباعهم من الرعايا ان يجربوا انظمة حكم بديلة، فليس هناك ما يسمى حاضراً تداول السلطة لأن الملك من القصر إلى القبر.

يعزو كثير من الباحثين، ان المآزق الكبيرة التي عاشها حملة شعارات التنوير، والحداثويين العرب، في قراءتهم لواقع المجتمع العربي، عادوا الى الماضي لمساءلته عن سبب الاخفاقات الكثيرة، وكأن الماضي يستطيع ان يقدم الاجوبة لجميع تلك الاسئلة، ويذهب الدكتور متعب مناف في بحثه السابق الذكر الى ان (الجرعة التاريخية كانت مفرطة إلى الحد الذي اضاع فيه جيل توازنه، فقرأ الذاكرة حلماً، وبدلاً من ان يقدم حلولاً افتراضية تخرج به من صعاب الحاضر نحو غد واعد، وقع في شرك قراءة ارتدادية اضطرته إلى حلول تاريخية)

ثم يضيف قائلا:

ان العقل العراقي مثله مثل العقل الشرقي والاسلامي "عقل ذاكرة وليس عقل هوية" فهو نتاج ذاكرته اكثر من ان يكون نتاج مجتمع.

كيف ننتقل بالعقلية العراقية، وهي عقلية الجزع والخوف والرعب الى عقلية الحل؟، ويكون الجواب هو عبر قراءة التاريخ من الحاضر الى الماضي وليس من الماضي الى الحاضر، اي ان القراءة والاستلهام يجب ان يكون مختلفا ومغايرا، لكي نصل الى مستقبل افضل مما يسير اليه حاضرنا وكما تشي به الكثير من الظواهر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13/تشرين الأول/2014 - 18/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م