في التغيير الذاتي.. النفير العام

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الاوضاع التي تعيشها الامة لاسيما في بقاع تشهد التوتر والاضطراب غير المسبوق، مثل العراق وسوريا، بحاجة الى اكثر من تغيير.. لذا انبرى العلماء والمصلحون والمثقفون لتقديم الحلول والبدائل للخروج من المآزق والازمات الخانقة التي نعيشها، وقد رأى البعض ان يكون التغيير جذرياً فيما رأى الآخر ان يكون على مراحل، ثم هنالك من يعتقد بالمرحلية.. وآخر يدعو الى الشمولية وان يكون التغيير في كل الفصول. كما هنالك من يدعو الى المداهنة والمسايرة للواقع الموجود، وعدم الاصرار على التغيير سواءً على صعيد النفوس والذوات او على صعيد الواقع الاجتماعي، والاعتماد على القول: "انشاء الله سيتغير.."!.

بنفس قوة المشاكل والازمات التي تجرفنا، نلاحظ سرعة الزمن الذي يمر علينا ونحن نغوص في مستنقع هذه الازمات الى درجة اليأس الكامل، والخيبة من كل الخيارات المطروحة. لكن هل هذا كل شيء..؟! طبعاً؛ كلا. لأن التجارب التي هي "علم مستحدث" تضيئ لنا الطريق وتؤكد أن هنالك أقوام سبقونا، مروا بهكذا نكبات وأزمات، لكنهم تجاوزا المرحلة بنجاح وتفوقوا على الفشل من خلال التغيير، لكن بشروط، اهمها؛ ان يكون حقيقياً وشاملاً.

احد علماء الدين المصلحين في ايران شبه علمية التغيير الفاشلة بحوض ماء آسن وعفن، فعندما يُصب عليه الماء النظيف ليس فقط لن يتغير إنما سيفيض وينتشر العفن والفساد الى مناطق اخرى.. بمعنى ان الفشل في التغيير ليس فقط سيبقي الوضع على حاله، إنما يكون سبباً وعاملاً في تكريس الواقع السيئ والمأساوي.

لذا نلاحظ سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- عندما يتحدث عن موضوعات مهمة واساسية مثل التغيير، فانه يلجأ الى تجربة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في تغيير الانسان والمجتمع وصناعة الامة. وفي كتابه "نحو التغيير" يؤكد سماحته بالحرف الواحد: "لايكون التغيير إلا بعد توفر اسبابه ورفع موانعه".

هذا هو تحديداً طريق التغيير الناجح إن اراد الانسان، فالبداية في توفر العوامل والاسباب، ثم ازالة العقبات، ولن يبقى حينئذ سوى النجاح والثمرة اليانعة التي نقطفها.

سماحته يتحدث عن العصبيات الجاهلية التي كلفت انسان الجزيرة العربية الكثير الكثير من الدماء والدمار والمعاناة طيلة سنين مديدة في حروب ضروس لاسباب تافهة. ومعروف أن العصبية من علائمها، وضع غشاوة سميكة على بصيرة الانسان تمنعه من رؤية الحقائق والمعايير، مما تجبره لان يخلق لنفسه حقائق يناضل ويحيى ويموت من اجلها، وايضاً معايير وموازين يتعامل بها مع الآخرين. وهذا ما كافح من اجل ازالته، الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. ولعل من اروع من يستفيد منه سماحته، صورة "النذير العريان"، وهي حالة كانت سائدة في الجاهلية بأن يكون هنالك شخص ينذر عشيرته وقبيلته بخطر داهم وعواقب وخيمة إن لم ينفروا للقتال، وجاءت هذه العبارة في قول النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بأن "أنا النذير العريان". ويذكر اصحاب السِير والمؤرخون أن هذه الحالة تعبير صارخ عن "حالة الانذار القصوى" بحيث كان يسعى هذا النذير لاثارة انتباه الناس اليه بوضعه غير الطبيعي وتخليه عن بعض ملابسهوهو يصبح بالناس بالنفير..!.

ولمن يلاحظ ويتابع تطورات الاوضاع الراهنة، يجدها سياسية وامنية ومخابراتية، فالفتن الطائفية والدسائس والمؤامرات والحروب والتحالفات المشبوهة التي تزهق ارواح المئات يومياً وتشرد الآلاف وتخلق وضعاً انسانياً رهيباً بمعنى الكلمة، لكن لمن يتمعّن في جذور وخلفيات الاوضاع يجدها تعود الى خصال ونزعات انسانية، نمت وترعرعت من قبل الانسان نفسه، في مقدمتها العصبية والحمية التي تعود به – من حيث لا يريد- الى الجاهلية التي طواها الاسلام في بداية عهده الذهبي.

وعندما نسمع بتنظيم يمل اسم "الدولة الاسلامية..." فمعناه السعي لإضفاء طابع الشمولية والاصالة على منهج هو بالحقيقة يتبنى العنف والدموية والتكفير، ويخفي نسخة معدّلة للجاهلية التي حاربها النبي الأكرم، ومن بعده أمير المؤمنين، والأئمة من بعده، عليهم السلام، وما فضحه (تنظيم داعش) امام العالم هو الصنمية في الهيكلية التنظيمة لديه، فافراده الذين يتقاطرون من ارجاء العالم يبايعون قائدهم "على السمع والطاعة"، لذا كل شيء عندهم مباح وجائز، فيقاتلون ويقتلون وهم فرحين مستبشرين!.

ان العوامل التي تمخضت عن ولادة "داعش"، كجماعة وتنظيم، هي نفسها التي تمخضت عن ولادة طاغية مثل "صدام"، وما تزال تخلق شخوص للفساد والانحراف والدمار في هذا المجتمع وذاك، فالصنمية بدلاً عن  القيمية، وعبادة الذات بدلاً عن عبادة جبار السموات والارض وصاحب القوة اللامتناهية، هو الذي يكرس الواقع المرير والسيئ الذي نعيشه، ثم يكرس كل عوامل الدمار والفساد الذي تنتجه "داعش" بارهابها والحكومات والانظمة السياسية بانحرافها وسياساتها الفاشلة.

من هنا يأتي تأكيد سماحة الامام الراحل في كتابه على ان التغيير الحقيقي والشامل يتحقق عندما "نهيأ الأسباب بالابتعاد عن الجاهلية، والنزعات الطائفية، والحروب القبلية، وأنْ نعرف الواجبات الملقاة على عاتقنا، بعد الإنذار الأخير، الذي وُجّه من قبل الرسول الأعظم، بترك التعصب، والتخلي عن العصبيات الجاهلية، والدخول تحت لواء المبادىء الحقة، مبادىء الإسلام الحنيف.. وبعبارة أخرى علينا أن نخطو نحو التغيير إلى الخير والفضيلة والتقوى.

هذا التغيير هو الذي يأخذ بأيدي ابناء الامة الى شاطئ الامان ثم التطلع الى آفاق التطور والتقدم كما حصل في العهود الذهبية الاولى، لا أن نعود الى العهود الجاهلية ونخسر كل الجهود المضنية والتضحيات التي قدمها النبي وأهل بيته، صلوات الله عليهم، وهو تحديداً ما يحذر من سماحة الامام الراحل، ويقول اذا اردنا التغيير الحقيقي علينا البدء بانفسنا، ثم نضع الحديث النبوي الشريف نصب أعيننا "أنا النذير العريان". بمعنى أن المرحلة الراهنة لاتحتمل التأخير او التسويف.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/تشرين الأول/2014 - 16/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م