كل ما يهمني هو أن تتكلم

صالح الطائي

 

ليس بدعا في طباع البشر أن يتكلموا. فبالكلام عاش الإنسان تاريخيا. والكلام نعمة من الله أسبغها وأنعمها على الإنسان؛ هذا الكائن الفريد، لتتكامل به إنسانيته، ويتجوهر به تفرده عن باقي الكائنات الأخرى. ولكننا استعملنا الكلام مثل كل نعم الله الأخرى، سعيا وراء الشر كما استعملناه في طلب الخير.. فهدمنا به بيوتا وقلاعا ومدنا، كما بنيناها به من قبل.. وأعلنا فيه حروبنا، كما أعلنا به سلمنا. وأسسنا لفرقتنا واختلافنا كما أسسنا به من قبل لوحدتنا وألفتنا. ودمرنا به حضارتنا وعلومنا كما بنيناها به من قبل.

بالكلام توحدت الأمم وتفرقت، ونهضت الحضارات وسقطت، وتطورت البشرية وتأخرت. والكلام كائن حي حساس مرهف الشعور يؤثر في بيئته ويتأثر بها، يفرح حين تفرح، ويحزن حين تحزن، ويمرض حين تمرض، ويتعافى حين تتعافى، ويفتقر حين تفتقر، ويغنى حينما يصيبها الغنى. لا في عراقنا وحده ولا عند إخوتنا العرب أو المسلمين فحسب، بل في كل أصقاع الدنيا تجد ثمة علاقة متينة بين الكلام وهيئه المجتمع، وهو ما أكده العالم الفرنسي "دروغايم"، في قوله: "إن أفكار الإنسان ليست حصيلة نشاطاته العقلية الخاصة به فقط، ولكنها حصيلة البيئة الاجتماعية التي هو جزء منها أيضا.(1)

 وتجد ذلك جليا في زمن بطر حضارتنا بعد أن وفدت إلينا خلاصة حضارات العالم ومحتويات خزائن الأباطرة وخيرات الشعوب التي دخلتها جحافل جيوشنا الظافرة، وجميلات نسائهم، حيث تحول كلام الشاعر علي بن الجهم من الاشتباك بين التيس المقارع للخطوب والكلب الوفي إلى سحر جمال عيون المها ومنظر جسر بغداد الآسر. وفي زمن البطر هذا انقسم أهلنا الطيبون في كلامهم ببعض ما يخص الكلام؛ إلى فرق متباينة كل منها تسعى للظفر بحل لغز من الغاز البطر التي استجدت في حياتهم مع ما استجد كموضوعة (خلق الأعمال) التي انقسمنا فيها إلى ثلاث فرق لكل منها رأي كلامي لا يشبه ما لدى غيرها، فقالت الأولى: إنها صادرة عن المخلوق ولا علاقة للخالق بها، وهم المعتزلة. وقالت الثانية: إنها صادرة عن الخالق، وما العبد إلا أداة مسخرة لقدرة الخالق ومشيئته، ولا علاقة للمخلوق بها، وهم الأشاعرة. وقالت الثالثة: لا هذا، ولا ذاك، ولا جبر ولا تفويض، بل هو أمر بين أمرين، وهم الشيعة.

 ولو صمتت هذه الفرق ولم تُدلِ برأيها ما كانت الموضوعة قد وصلت إلى أسماع الناس، وشخصت بين نواظرهم، وبالتالي ما كانوا سيعرفون حقيقة وجهها الأمثل. ولكان اللغط حولها قد اشتد أكثر واثر أكثر. فالصمت قد يثير لغطا وتباينا في الرأي والرؤى بعيدا كل البعد عن جوهر الموضوع واشد أثرا وتأثيرا مما يثيره الكلام. ولذلك دعا المفكرون قومهم إلى عدم السكوت. وأمروهم بالتكلم حتى ولو كان في كلامهم تضاد مع مصلحة القوم العامة، لأن الكلام هو ما يعرض الأفكار أمام أنظار الناس، ويعطيها فرصة التلاقح، والتبلور، والتأثير.

وقد أدركت الأقوام التي تسعى إلى تأسيس ذاتها أن الكلام واحد من الآليات المهمة في السيرورة والبناء. وقد قال الصهيوني (تيودور هرتزل ): "كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية.. لكن لا تصمت ازاء الموضوع.. الحديث عن الشيء ولو بتفاهة، يعرضه على أنظار الناس."(2)

إن حرص الأقوام والأمم على عرض القضايا أمام الأنظار يراد منه تأسيس القواعد والركائز لفهمها ومعرفة أهميتها، وهو رأي سليم جدا، لأن تجارب الحياة أثبتت انه بإمكانك أن تستوعب وتفهم محتويات كتاب مختص في علم العروض مثلا بطريقة أسرع فيما لو كانت لديك فكرة مسبقة عن العروض، أي إذا كانت في عقلك مجموعة أفكار عن علم العروض. وتأسيسا عليه أقول: إن كلامنا في شان معين، مثلا في موضوعة التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي باستمرار ـ رغم كثرة الكلام في هذا الشأن ـ سيرسخ في ذهن المتلقي مجموعة أفكار قد تتيح لصاحبها أن يقتنع بالكلام الجديد الذي سيقال في المستقبل. بما يدفعه إلى البحث عن كلام جديد أو ربما المشاركة بالكلام الدائر، وإبداء الرأي، وطرح المقترحات والحلول؛ التي قد يكون بعضها على مستوى عال من الأهمية والرجاحة، بما يسهم في حل مشاكل عويصة عجزنا عن التوصل لحلها بالطرق النمطية الموروثة.

وقد أحسن "جون لوك" التخمين عندما حاول أن يبرهن على أن جميع معلوماتنا هي نتيجة خبراتنا المبكرة وتأملاتنا التي بدونها تنعدم الأفكار(3) فقط يجب أن لا نتهيب من التكلم، ولا نتخوف من أن يكون كلامنا تافها سطحيا بسيطا غير مؤثر أو غير مقبول، لأنه حتى لو كان كذلك، فانه سيكون محاولة لرفع موضوع ما قد يكون كثير الأهمية إلى مستوى نظر الآخرين، مما يسمح لهم برؤيته وهنا يجب أن لا ننسى أن جميع الأعمال الفكرية العظيمة تبدو بسيطة وبديهية حالما تطرح، كما يرى الباحث "ألان وود"(4)

إن لكل جديد الق يبهر الناس، ويثير حفيظتهم. ولأن الجديد غير مألوف عادة، وثمة من لم يعتد عليه، فهو غالبا ما يقابل بالرفض والانتقاد والاستهجان والاعتراض ولكنه بعد أن يؤسس لنفسه موقعا ثابتا من خلال التكرار، تتغير آراء الناس حوله، مثال ذلك أنه عندما ادخل العالم "ليستر" طرق التعقيم في الجراحة قوبل عمله بسخرية لاذعة حتى من زملائه في المهنة، ثم أصبح فيما بعد مقبولاً من جميع الذين يتعاملون مع الجروح.(5) لذا يجب أن لا نتخوف ولا نيأس من ردود أصحاب الذوق السيئ ذوي الاستجابات الفجّة إذا ما اعترضوا على مشاريعنا الثقافية الداعية إلى التغيير نحو الأصح والأحسن وحتى على أقوالنا المجردة. فهذا الاعتراض لا يعني بالضرورة وجود خلل في هذه المشاريع، أو عدم واقعيتها بقدر ما يدلل على وجود نوايا شريرة مسبقة لدى بعض من يتفيد من ديمومة حالة الخطأ التي نعيشها منذ ما يزيد على العشر سنين. وهو ما أكده الناقد "رتشاردز" في تلميحه إلى: أن الذوق السيئ والاستجابات الفجّة ليست مجرد عيوب ثانوية في الشخصية، وإنما هي في الحقيقة شر أصيل، تنتج عنه نقائص أخرى في الشخصية(6) أو كما يقول الأستاذ البلداوي: "إن الذين يقاومون أي تغيير في نظام حياتهم مهما كان لمجرد أن التغيير الجديد لم يألفوه هم معقدون. وكلما كانت مقاومتهم شديدة كان التعقيد المبتلون به شديدا أيضا"(7).

ومن المجدي القول: إن مجموعة ذكرياتنا تراكمية، وهي قابلة للاسترجاع بسهولة، والخبرات السابقة أيضا يمكن استدعاؤها دائما عند الرغبة في ذلك، وهي مع كل مرة تسترجع تثير فينا نفس الإحساس الذي أصابنا لحظة حدوثها الأول. ونحن لا يمكن أن نتجاوز انعكاساتها إلا إذا أسسنا لثقافة جديدة وذكريات جديدة، تحمل قناعات جديدة، تتراكم فوقها، وتعيق استرجاعها بسهولة.

 ويقينا أن التأسيس الجديد سيجاهد بإستماتة وشجاعة لكي يجد له موقعا في فكرنا الذي عودناه على رفض الحقيقة والتهيب منها، حتى لو كان مصدرها مقبولا لدينا. لقد دعا "كونفشيوس" إلى متابعة الحقيقة، وان لا ننكرها حتى لو كانت صادرة عن شخص لا نرتاح إليه. "لأن الحقيقة جميلة أيا كان مصدرها"(8)

وطبيعي أن الكلام من أهم آليات إدراك الحقائق، ولذا يزداد التعلم طرديا مع ازدياد الكلام المجدي، إذ يرى "ميلر ودولارد" أن هناك ثلاثة عناصر للتعلم هي الباعث، المحرض، الاستجابة.(9)

وفي دراسته متغيرات الموقف لاحظ "ودولارد" أن الباعث إذا كان ضعيفا كانت الاستجابة ضعيفة هي الأخرى، وان هنالك باعثاً متداخلا سببه السلوك التنافسي، وهناك باعث الاشتراك، وباعث التكرار، حيث أن التكرار المحرّض بشكل منتظم يساعد على إبراز السلوك الحشدي.(10)

ومن هنا أقول: إن الاستمرار بإعلان الحقيقة والجهر بها وتكرار ذلك ثم تكرار الأقوال التي سبق وان قيلت في مناسبات أخرى قد يكون أهم البواعث على إبراز الحقيقة أمام أنظار الناس مما يسهم في حشد إدراكهم لمغزاها وغاياتها، إذ يرى عالم النفس "بافلوف": أن الإنسان بالطبع نظام، وككل نظام آخر في الطبيعة، يكون محكوما بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة، ولكن هذا النظام وحيد بين كل الأنظمة التي عرفها في قدرته الهائلة على التنظيم الذاتي والانطباع الأساسي. والأمر الأهم والأكثر ديمومة الذي نحصل عليه من دراسة الفاعلية العصبية العليا بطرائقها، هو المرونة الفائقة لهذه الفاعلية، وقدراتها الكامنة الواسعة، فليس ثمة شيء ثابت غير فعال أو غير ممكن، بل إن كل شيء يمكن انجازه وتغييره إلى ما هو أحسن، شريطة خلق الظروف المناسبة(11)

لذا نحاول من خلال هذه الدراسة أن نخلق ظرفا مناسبا يساعد ويسهم في إذكاء حب الحقيقة بين صفوف شعبنا عسى أن تسهم معرفتنا للحقيقة في إحداث التغيير المطلوب، وهو شيء يمكن انجازه أذا خلصت النوايا.

 إن جل ما نحتاج إليه هو إدراك القيمة العليا لهذه الخصلة العظيمة في طباعنا نحن العراقيين، وبعدها كل خطب سيهون، حتى ولو كان هذا الخطب منظومة خلافية معقدة، توارثتها الأجيال مع مواريثها الأخرى منذ فجر تاريخنا، ولا زالت عالقة في أجوائها. وهذه دعوة لأن نتكلم بصراحة مع بعضنا، وليرفض من لا يريد السماع، فلابد أن نجد من يرغب بالاستماع إلينا.

.......................................

الهوامش

(1) سارجنت و.اي؛ علم نفسك علم النفس، ترجمة باحثة الجومور، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، (د. ت)، ج1 ص 44

(2) أيار، د. فريد؛ دراسات في الإعلام والحرب النفسية، دار الرشيد، وزارة الثقافة والفنون،1979، ص 5

(3) سارجنت، د. و.اي، مصدر سابق، ص 26

(4) البلداوي، عباس مهدي؛ العقدة النفسية والشعور بالنقص، مطبعة الزهراء، بغداد، 1978 ص14

(5) المصدر نفسه، البلداوي

(6) المصدر نفسه، ص7

(7) المصدر نفسه، ص14

(8) المصدر نفسه، ص4

(9) العطية، د. فوزية؛ المدخل إلى دراسة علم النفس الاجتماعي، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، 1992، ص121

(10) المصدر نفسه، العطية، ص122

(11) عاقل، د. فاخر؛ اعرف نفسك دراسة سيكولوجية، دار العلم للملايين، ط4، 1977

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/تشرين الأول/2014 - 16/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م