وطلقنا القراءة

صالح الطائي

 

يبقى مستوى القراءة في المجتمع أحد أهم المؤشرات على رقي وتجدد ثقافة الشعوب، فالشعب الذي لا يقرأ يحكم على نفسه بالموت ركودا. والغريب أن الشعب العراقي من دون كل شعوب الدنيا قرر الانتحار ركودا بعد أن طلق القراءة بالثلاث ولم يتعب نفسه في البحث عن (محلل) يجيز له إعادتها إلى عصمته، وكأنه ارتاح بفراقها له، ولذا تتكدس الكتب في المكتبات، ولا تجد من يطلبها، ويأكل التراب كتب المكتبات العامة التي لا تجد من يقلبها، أو من يعتني بها.

وهناك عشرات الآراء التي تعزو مقاطعة العراقيين للقراءة إلى أسباب ترتبط غالبا بالوضع السياسي غير المستقر، وبسبب مخلفات الحصار الاقتصادي الذي أنهك المواطن ماديا ومعنويا، ولكنها برأيي لم تصب كبد الحقيقة، فهي تدور حول المشكلة ولا تدخل إلى صميمها، ولذا تعذر علينا إيجاد الحل الحقيقي لهذه المأساة التي باتت تتهددنا بالجهل والأمية، والظاهر أن الحكومات المتعاقبة مرتاحة لهذه النتيجة، ولذا لا تشغل نفسها بالبحث عن حلول مهما كان نوعها.

سقت هذه المقدمة بعد أن وقع في يدي مصادفة كتاب بعنوان "موسكو عاصمة الثلوج" للمرحوم صالح مهدي عماش، الظاهر أنه وضعه بعد أن جرد من صلاحياته الحزبية، وعين سفيرا للعراق في الاتحاد السوفيتي، وهو المنصب الذي شغله للمدة من عام 1971 ولغاية عام 1974. حيث أتاحت له هذه السنوات الإلمام بكثير من المعلومات عن روسيا التي كان يعيش فيها. وبالرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على هذه المعلومات والإحصائيات، فضلا عن تفكك الاتحاد السوفيتي، مما يعني أنها لم تعد صالحة إلا للمقارنة، إلا أني وجدتها ممتعة ومدهشة.

جلب انتباهي في هذا الكتاب حديث السيد عماش عن الثقافة عامة وعن إحدى أعظم المكتبات العالمية، "مكتبة لينين" الأسطورية، وهي من مخلفات العهد القيصري، تأسست عام 1862 باسم "مكتبة رومانتسوف"، وأبدل أسمها عام 1925. وكانت هي و360 ألف مكتبة أخرى، تنتشر في الاتحاد السوفيتي مركز الإشعاع الفكري. وأرى أن العلوم التي حصل عليها المواطنون من هذه المكتبات، وارتفاع درجة الوعي لديهم؛ هي التي أسهمت في تفكيك الإتحاد، فضلا عن البيروسترويكا، والحرب الباردة، والمؤامرات، وأمور أخرى.

ومع أن السيد عماش تحدث في كتابه عن تاريخ فارقنا منذ أربعين عاما إلا أني أراه لا زال جميلا، يصلح أن يكون أنموذجا للبلدان التي تتطلع إلى مستقبل أفضل، ولاسيما حديثه عن مكتبة لينين العظيمة، ربما لأننا لم نمر بمثل هذه الحالة عبر تاريخنا الطويل، وقد لا نصل إليها مستقبلا؛ مع ما يحيط بنا من مشاغل ومؤامرات وتقصير حكومي.

لقد أورد السيد عماش قبل أن يكتب عن المكتبة معلومات قيمة عن الحراك الثقافي في الإتحاد، حيث هناك (134) ألف ناد ودار ثقافة، و(445) مؤسسة ثقافية وفنية ثانوية، و(1144) متحفا و(360) ألف مكتبة تضم (3) مليارات مطبوع متنوع. ونتيجة ذلك كان هناك: 40% من الخريجين من المهندسين. نجح الاتحاد في تدريب (25) مليون أخصائي ذي تحصيل علمي عال أو متوسط في فروع الاقتصاد والثقافة منذ عام 1917 ولغاية 1972، كان من المتوقع في عام 1975 أن يكون واحد من بين كل ثمانية من المواطنين السوفيت حاصل على التعليم العالي أو الثانوي الخاص. وان يبلغ عدد الأطباء أكثر من (840) ألف طبيب بمعدل طبيب واحد لكل (300) مواطن.

أما في حديثه عن مكتبة لينين فيذكر السيد عماش أن الحكومة السوفيتية أتاحت لها من المسببات ما يسمح لها بتقديم أفضل الخدمات، ومنها حرية العمل بدون قيود مالية أو ميزانية محددة، وهو الأمر الذي أطلق يدها حرة للحصول على كل نافع ومفيد. فالحرية وحدها تسمح للإنسان وللمؤسسات أن تؤدي دورها الإبداعي، ولا أدري لماذا لم ينتبه الزعماء السوفيت إلى ما حققته الحرية لهذه المؤسسة للإفادة منه في رفع القيود عن الشعب لكي ينطلق ويبدع، إذ لو كانت المؤسسات الأخرى والحياة العامة في الإتحاد تحظى بمثل هذه الحرية لكان الإتحاد اليوم القوة العظمى التي تمثل المعادل الموضوعي لسطوة القطب الواحد.

ومما يذكره عن المكتبة أن هناك دار نشر كبيرة ألحقت بالمكتبة فأتاحت لها طباعة ونشر آلاف الكتب سنويا، وتوزيعها عبر منافذها في العالم كله. وفي علاقتها مع العالم كانت المكتبة تتعامل مع أربعة آلاف مؤسسة أجنبية، ولديها اشتراكات بأكثر من (14) ألف مجلة ودورية من خارج الاتحاد، وأنا أتحدث هنا عن السنوات التي كان فيها السيدات والسيد عماش سفيرا.

أما المواد الفكرية بكل اللغات، فكانت ترد إلى المكتبة عن طريق الشراء فضلا عن ذلك يلزم القانون السوفيتي كل المؤلفين السوفيت بتسليم المكتبة ثلاث نسخ من أي كتاب يصدر في الاتحاد، حيث كان فيها كتب بمائة لغة من لغات جمهوريات الاتحاد ومائتي لغة عالمية، عبارة عن (27) مليون كتاب منها (10) ملايين كتاب أجنبي،

وتمتاز مكتبة لينين بعدد روادها الكبير جدا الذي يشكل النسبة الأعلى في العالم، حيث يتراوح عدد روادها في الدقيقة الواحدة بين 2600ـ2700 ويبلغ معدل عدد القراء (10) آلاف قارئ يومي، واثنين ونصف مليون سنويا.

ومثل هذه الأعداد الكبيرة من الرواد لابد وأن يكون هناك كادرا متخصصا قادرا على تلبية جميع الطلبات، ولاسيما وأن الاستعارة الخارجية ممنوعة، ولذا زاد عدد العاملين في المكتبة من موظفين ومستخدمين على الثلاثة آلاف عامل، وأكثر من (400) باحث علمي في مختلف العلوم والتخصصات يقدمون خدماتهم للرواد ويجرون البحوث التي تطلبها الدولة منهم.

إن الوضع المزري الذي تمر به أمتنا اليوم يوجب على السياسيين قبل غيرهم أن يفكروا جديا بالثقافة وروادها، وان يفيدوا من تجربة الأمم الأخرى، ويعملوا على تنمية القدرات الفكرية، لأن الفكر والثقافة وحدهما لهما قدرة القضاء على الحركات السياسية والدينية المتطرفة التي تعمل على تدمير بنى الثقافة والفكر وتستقطب الجهلاء والسذج وذوي التحصيل العلمي المتدني.

إن الإرهاب والطائفية لا تحارب بالسلاح وحده وإنما يجب أن يدعم السلاح بمنهج فكري متطور، يصلح خراب النفوس ويحصنها من الانجراف إلى مستنقع الرذيلة السياسية والطائفية.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/تشرين الأول/2014 - 6/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م