((ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى: أن
كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون)).
[(سورة الروم: الآية 10).
وهذه الآية:
حقيقة علمية أخرى، لم يكتشفها العلم المادي، ولم يتوصل إليها
العلماء الماديون، ولن يتوصلوا إليها عن طريق المعامل والمختبرات. ولن
يكتشفها غير العلم الكوني الشامل، الذي يدرس الماديات والروحيات معاً،
بمقدار ارتفاعهما في واقع الحياة.
وهي: أن الإنسان مزيج مركب من جميع أخلاط كوننا الصغير – ونشدد على
كلمة: (كوننا) لأننا لا نعرف تفاصيل الأكوان الأخرى – وهي تفرز – في
نهاية دورتها الكمالية – إلى عناصر موجبة يعبر عنها بـ: (العناصر
النورانية)، وإلى عناصر سالبة يعبر عنها بـ: (العناصر الظلمانية).
والأولى تتفتح على مصدر الكون، وتواكب مسيرة الكون، وفي – نهاية
التجربة – تشكل: (الجنة) وكل ما يفرز إليها. والثانية تنغلق عن مصدر
الكون، وتناقض مسيرة الكون، وفي – نهاية التجربة – تشكل: (جهنم) وكل ما
يفرز إليها.
والروحيات الموجبة – كالأسماء، والكلمات، والملائكة، وأرواح
المعصومين من الناس – مخلوقة من العناصر النورانية، أو هي أنوار ذاتها.
والروحيات السالبة – كالشياطين – مخلوقة من العناصر الظلمانية، أو
هي ظلمات ذاتها.
أما الروحيات المتوسطة – كالجن، وأرواح الإنسان، والحيوانات، وسائر
المكلفين – وجميع الماديات، فهي مخلوقة من مزيج من العناصر الموجبة
والسالبة، بنسب مختلفة، بحيث تتطابق الأرواح مع الأجساد.
وهل كانت النسب مختلفة في ابتداء الخليقة، أي: أول ما خلق الله؟
ربما قال قائل: نعم! وأن الله ضحى ببعض المخلوقات – التي جعل فيها
نسبة السالبات أعلى – لمصلحة المجموع، حتى يكون التناقض حاداً،
والامتحان جاداً، لأن التكامل لا يأخذ مداه إلا في جو صراعي متوتر.
ولكن التضحية بالبعض – ولو لمصلحة المجموع – تقبل التفسير
بالمحاباة، وترجيح من غير مرجح، لأنها – في النهاية – لمصلحة بعض على
حساب بعض، ولا يتورط فيها إلا عاجز أو ظالم. وأما القدرة المطلقة، في
العدل المطلق: فلا تلجأ إلى مثل هذا المأزق.
ولعل الصحيح: أن الله – تعالى – ابتدأ الخلقة بخلائق متوازنة،
تتعادل فيها العناصر الموجبة والسالبة، ثم لما طرحت للتجربة – في أول
العوالم – انقسمت على بعضها: فمن عمل الخير أكثر، ارتفعت فيه نسبة
العناصر الموجبة. ومن عمل الشر أكثر، ارتفعت فيه نسبة العناصر السالبة.
والذين عملوا الشر، أصبحوا معصومين من أنبياء وأوصياء، واختلفت
درجاتهم باختلاف مقدار الخير الذي عمله كل واحد منهم.
والذين لم يعملوا الخير، أصبحوا أئمة الكفر، واختلفت دركاتهم
باختلاف مقدار الشر الذي عملوه.
والذين لم يعملوا الخير والشر، وكان خيرهم أكثر، أصبحوا صالحين.
والذين كان شرهم أكثر، أصبحوا فاسقين، وعلم بهذا السابق لا ينافى في
الاختيار. فالله – تعالى – عدل في البدء، والناس – ومثلهم سائر الخلائق
– هم الذين غيروا المعادلات بمحض اختيارهم:
((كان الناس أمة واحدة. فبعث الله النبيين – مبشرين ومنذرين –،
وأنزل – معهم – الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما
اختلف فيه إلا الذين أوتوه، من بعد ما جاءتهم البينات، بغياً بينهم.
فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه – من الحق – بإذنه. والله يهدي
– من يشاء – إلى صراط مستقيم))(1).
والعناصر الموجبة – في كل مخلوق – تشكل رصيد الخير في ذاته، وتنزع
إلى جميع الإيجابيات: ابتداء بالإيمان بالله، ومروراً بالواجبات
وانتهاء بآخر المستحبات.
والعناصر السالبة – في كل مخلوق – تشكل رصيد الشر في ذاته، وتنزع
إلى جميع السلبيات: ابتداء بالكفر بالله، ومروراً بالمحرمات، وانتهاء
بآخر المكروهات.
ومهمة الملائكة، تنشيط العناصر الموجبة في ذات كل مخلوق. ومهمة
الشياطين، تنشيط العناصر السالبة في ذات كل مخلوق. ولعل ذلك هو معنى
الأحاديث، المتواترة معنىً، التي تؤكد: ((أن في قلب كل إنسان لمتان:
لمة الملائكة، ولمة الشياطين...)(2).
وبما أن دلالات العناصر الموجبة والسالبة غامضة، لأنها أشبه بالجنين
– ولذلك: يعبر عنها بـ: (اللاشعور) –: جاء الأنبياء ليجهروا بدلالات
العناصر الموجبة، ويقننوها، ويوظفوها في قنوات واضحة، ثم يسبغوا عليها
الشرعية. وجاء الطواغيت: (شياطين الإنس) ليجهروا بدلالات العناصر
السالبة، ويقننوها، ويوظفوها في قنوات واضحة، ثم يموهوا قبحها الذاتي.
ولذلك: ما بعث الله نبياً إلا وبعث – في الجانب الآخر – طاغوتاً يضاده
ويناده. ولم يرفع الله – على خندق – راية حق (من وصي، أو عالم) إلا
ورفع – على الخندق الآخر – راية باطل (من داعية إلحاد، أو مسول فساد).
أولم يقل الله تعالى: ((وكذلك: جعلنا – لكل نبي – عدواً: شياطين الإنس
والجن، يوحي – بعضهم إلى بعض – زخرف القول غروراً. ولو شاء ربك ما
فعلوه، فذرهم وما يفترون * ولتصغى – إليه – أفئدة الذين لا يؤمنون
بالآخرة، وليرضوه. وليقترفوا ما هم مقترفون))(3).
فالعناصر الداخلية – الموجبة والسالبة – سواء توازنت (وهو قليل إن
وجد) أو اختلفت (وهو كثير إن لم يكن الكل)؛ فإن كلاً منهما يجد
المشجعات والأجواء المناسبة، والله – تعالى – يسهل الأمور لهما معاً،
بل قد يعينهما على حد سواء. وإعانته إياهما، لطف منه عليهما سيان. لأن
مرده إياهما عمل إيجابي يساعدهما على تكاملهما، ولا يغير طبيعة العمل
كيفية توظيفه من قبل الآخرين: ((وهديناه النجدين))(4)، ((كلاً نمد:
هؤلاء... وهؤلاء... من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً))(5).
فالمدد الكوني، من الله تعالى، مستمر لكلتا الجبهتين سواء بسواء،
بواسطة قاعدة كونية هي قاعدة: (تجاذب الأمثال). فالفاعليات الموجبة
تتكتل، كما تتكتل الفاعليات السالبة. فالجبهة الموجبة تلقى الدعم،
بتوارد المفردات الموجبة، المنتشرة في الكون، إليها. والجبهة السالبة
تلقى الدعم، بتوارد المفردات السالبة، المنتشرة في الكون، إليها.
والإنسان مجال رحب خصب لكلا الجانبين: فالعناصر الموجبة، تنسحب على
جميع الناس، بنسب متفاوتة، بمقتضى اختياراتهم في العوالم السابقة. كما
أن العناصر السالبة، تنسحب على جميع الناس، بنسب متفاوتة، بمقتضى
اختياراتهم في العوالم السابقة. ولكن لا يخلو فرد – سوى أئمة الكفر –
من العناصر الإيجابية، كما لا يخلو فرد – سوى المعصومين – من العناصر
السالبة. ويبقى كل فرد بينهما، سيد نفسه وصاحب القرار، فهو يملك
الانضمام إلى أي طرف شاء: فإذا اختار طرف الإيجاب، تلقى الدعم الكافي
من المفردات الموجبة للارتفاع، وبمعدل ارتفاع نسبة العناصر الموجبة
فيه، تنخفض العناصر السالبة فيه، حتى يتخلص – نهائياً – من العناصر
السالبة، ويخلص للعناصر الموجبة، ويبلغ مستوى: (أعلى عليين). وإذا
اختار طرف السلب، تلقى الدعم الكافي من المفردات السالبة للانحدار،
وبمعدل ارتفاع نسبة العناصر السالبة فيه، تنخفض نسبة العناصر الموجبة
فيه، حتى يفرغ – نهائياً – من العناصر الموجبة، ويتفرغ للعناصر
السالبة، ويبلغ مستوى: (أسفل سافلين):
((الله ولي الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور. والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك: أصحاب النار،
هم – فيها – خالدون))(6).
وهكذا... يسير الجانبان في خطين متضادين، حتى يقفل الفرد الموجب على
الإيجاب فلا يبقى للشيطان فيه نصيب، وحتى يقفل الفرد السالب على السلب
فلا يبقى للإيمان فيه نصيب.
إذن: فكل من يأتي إلى هذه الحياة – باستثناء المعصومين – يحمل في
هيولاه عناصر سالبة، وهذه العناصر السالبة تبثُّ ظلمات، وهذه الظلمات
تنعكس عليه شراً، وباختلاف نسبة تلك العناصر تكون نسبة الكفر فيه.
وكل من يأتي إلى هذه الحياة يحمل في هيولاه عناصر موجبة، وهذه
العناصر الموجبة تبث أنواراً، وهذه الأنوار تنعكس عليه خيراً، وباختلاف
نسبة تلك العناصر تكون نسبة الخير فيه.
ونستخلص من كل ذلك: أنه لا يخلو إنسان من الشر – باستثناء المعصومين
–، كما لا يخلو إنسان من الخير. وهكذا... يمكن أن نفهم الأحاديث
الواردة في هذا المجال.
والإنسان يبقى سيد نفسه وصاحب القرار، قبل أن يقفل، فيستطيع التحول
من خط إلى خط:
((ضرب الله مثلاً للذين كفروا: امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت
عبدين من عبادنا الصالحين، فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً،
وقيل: ادخلا النار مع الداخلين))(7).
((وضرب الله مثلاً للذين آمنوا: امرأة فرعون، إذ قالت: رب! ابن لي
عندك بيتاً في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم
الظالمين))(8).
((واتل عليهم: نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها، فأتبعه
الشيطان، فكان من الغاوين))(9).
((ثم)) وبعد العوالم السابقة والتجارب السابقة، بقي السلبيون – من
الأمم السابقة – أصحاب القرار، ولكنهم استهانوا بالمحرمات، فارتكبوا
واحدة منها، وهذه الواحدة مهدت للأخرى، والأخرى للثالثة، وبالتتابع
وصلوا إلى المنزلق، حتى ((كان عاقبة الذين أساءوا السوأى)) وهم يظنون:
أنهم يرتكبون مجرد محرمات، يستطيعون الإقلاع عنها، والتوبة منها متى
شاؤوا، غير شاعرين بأنهم وصلوا إلى نقطة اللاعودة، فانتهوا إلى: ((أن))
كفروا بالله، و((كذبوا بآيات الله))، وربما توغلوا في الكفر: ((وكانوا
يستهزئون)) ليمنعوا غيرهم عن التجاوب معها. فأصبحوا من دعاة الكفر، من
حيث لا يتوقعون الوصول إلى هذه النهاية، لأنهم أنكروا حقيقة واضحة هي:
أن كل من سار على خط وصل – يوماً – إلى نهايته. والطاعة خط ينتهي إلى
الإيمان الخالص، كما أن المعصية خط ينتهي إلى الكفر الخالص.
هذه... سُنَّة الله في الذين خلوا من قبل، وهي... سنة الله في الذين
يأتون من بعد. لأن سنن الله – في الحياة – ثابتة، ترفض التحويل
والتبديل.
* من كتاب خواطري عن القرآن |