واذر دموع العين فيهـــــا دماً عـــــلى ضـــريح السيد الباقر
عـــــلى إمــــام ما جرى ذكره في خــاطري إلا جرى ناظري
عـــــلـي إمام لم يـــــدع رزؤه صبراً لجــلد في الورى صابر
على إمام هـــدَّ ركــــن الهدى مصابه بالقاصـــم الفـــــاقـــر
وبدر تم في الـــثرى غائـــــب ونحر علم في الثرى غـــــائـر...1.
يقول ابن منظور: التبقر: التوسع في العلم والمال، وكان يقال لمحمد
بن علي بن الحسين بن علي الباقر (رضوان الله عليهم)، لأنه بقر العلم
وعرف أصله، واستنبط فرعه وتبقر في العلم..2..
ويقول الفيروز آبادي: والباقر محمد بن علي بن الحسين لتبحره في
العلم.. 3.
وقال ابن حجر: وارث علي بن الحسين من ولده، عبادة وعلماً وزهادة:
أبو جعفر محمد الباقر، سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وآثار مخبآتها
ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم
واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة،
ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، صفا قلبه،
وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله
من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات
كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة وكفاه شرفاً أن ابن
المديني روى عن جابر أنه قال له ـ وهو صغير: رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) يسلم عليك فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً عنده
والحسين في حجره، وهو يداعبه فقال: يا جابر يولد له مولود اسمه علي إذا
كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده ثم يولد له
مولود اسمه محمد فإن أدركته يا جابر فأقرأه مني السلام. 4.
وقال سبط ابن الجوزي:
روى عنه الأئمة: أبو حنيفة وغيره، قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة:
(لقيت محمد الباقر؟ فقال: نعم، وسألته يوماً فقلت له: أأراد الله
المعاصي؟ فقال: أفيعصى قهراً؟ قال أبو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم
منه. وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر
لقد رأيت الحكم عنده كأنه مغلوب ويعني بالحكم الحكم بن عيينة، وكان
عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه...
قال شمس الدين محمد بن طولون: أبو جعفر محمد بن زين العابدين بن
الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الملقّب بالباقر، وهو والد
جعفر الصادق رضي الله عنهما، كان الباقر عالماً، سيداً كبيراً، وإنما
قيل له الباقر لأنه تبقّر في العلم، أي توسّع، والتبقير التوسيع، وفيه
يقول الشاعر:
يا باقر العلم لأهل التقى***وخير من لبّى على الأجبُل.. 5.
قال علي بن محمد بن أحمد المالكي ـ المعروف بابن الصباغ ـ: وكان
محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) مع ما هو عليه من العلم والفضل
والسؤدد والرياسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، ومشهور
الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله 6.
الإسم: محمد (ع)ـ اللقب: الباقر.الكنية: أبو جعفر.اسم الأب: علي بن
الحسين (ع).أسم الأم: فاطمة بنت الحسن (ع).الولادة: 1 رجب 57 ه أو 3
صفر. الشهادة: 7 ذو الحجة 114ه. مدة الإمامة: 19 سنة. القاتل: هشام بن
عبد الملك. مكان الدفن: البقيع.
تزوج الامام الباقر (عليه السلام) من أم فروة بنت القاسم بن محمد بن
أبي بكر فأنجب منها الامام الصادق وعبد الله، وأم حكيم بنت أسيد بن
المغيرة الثقفية فأنجب منها ابراهيم وعبيد الله وله ثلاثة أولاد اخرون
هم: علي وأم سلمة وزينب من بعض إمائه (عليه السلام).
وعاش الإمام الباقر (عليه السلام) مع جده الإمام الحسين (عليه
السلام) حوالى ثلاث سنوات ونيف وشهد في نهايتها فاجعة كربلاء. ثم قضى
مع أبيه السجاد (عليه السلام) ثمان وثلاثين سنة يرتع في حقل أبيه الذي
زرعه بالقيم العليا وأنبت فيه ثمار أسلوبه المتفرّد في حمل الرسالة
المعطاء في نهجها وتربيتها المثلى للبشرية.
واجتمعت فيه صفات ومزايا فريدة، فكان الإمام الصادق (عليه السلام)
يقول: "كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه وأنه ليذكر الله (عز وجل)
وأكل معه الطعام ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله عن ذكر الله... وكان
يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس".
كما كان له شرف الحصول على لقب "الباقر" من جدّه المصطفى (صلى الله
عليه واله وسلم) كما في رواية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله
الأنصاري حيث يقول: "قال لي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):
"يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين (عليه السلام) يقال له محمد
يبقر العلم بقرا (يشقه شقا) فإذا لقيته فأقرءه مني السلام" فلما كَبُر
سنّ جابر وخاف الموت جعل يقول: يا باقر يا باقر أين أنت، حتى راه فوقع
عليه يقبّل يديه ورجليه ويقول: بأبي وأمي شبيه رسول الله (ص) إن أباك
يقرؤك السلام.
قال له الأبرش الكلبي: أنت ابن رسول الله حقاً. ثم صار إلى هشام
فقال: دَعُونا منكم يا بني أمية، إن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء
والأرض، فهذا ولد رسول الله 7.
كتب عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة: ابعث إليّ محمد بن علي
مقيّداً.
فكتب إليه العامل: ليس كتابي هذا خلافاً عليك يا أمير المؤمنين، ولا
ردّاً لأمرك، ولكن رأيت أن اُراجعك في الكتاب نصيحة لك، وشفقة عليك.
إنّ الرجل الذي أردته ليس اليوم على وجه الأرض أعفّ منه ولا أزهد ولا
أورع منه، وإنّه من أعلم الناس، وأرقّ الناس، وأشدّ الناس اجتهاداً
وعبادة، وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له فـ (إن الله لا يغيّر ما بقوم
حتى يغيّروا ما بأنفسهم). فَسُرّ عبد الملك بما أنهى إليه الوالي وعلم
أنّه قد نصحه8.
قال الحكم بن عتيبة في قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين):
كان والله محمد بن علي منهم9.
في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) كانت الحياة الثقافية في مرحلة
جمود من قبل الحكم والسياسة الاموية وبسبب ابتعاد الناس عن الأخلاق
النبيلة والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، فقد كانت السياسة الأموية
العامل الأكبر في إثارة الخلافات العشائرية، وتقسيم المجتمع إلى نزاري
وقحطاني، يريدون بذلك أن ينسوه الإسلام رسالة الوحدة والعزة؛ وان
اكرمكم عند الله اتقاكم.وهذه الخلافات ولدة فتنة جاهلية بين القبائل
فكما شاد الأخطل الشاعر النصراني، بمآثر الدولة الأموية والحكام
الأمويين قام الكميت بن زيد، شاعر العلويين، فأشاد بمناقب قومه من مضر
وفضلهم على القحطانيين ,فكان ذلك احد اسباب زعزعة السياسة الأموية
والإطاحة بالحكم الأموي. قام الكميت بدور خطير جداً فقد أجج نار الفتنة
بين اليمنية والنزارية، وهما من أهم القبائل العربية عدداً ونفوذاً،
بالإضافة إلى كونهما من أعظم المؤيدين للحكم الأموي.
ومما قاله الكميت في مدح قومه وهجاء القحطانيين هذه القصيدة
المعروفة التي سارت على كل لسان:
تشير إليـــــــــه أيــــــدي المهتدينا لنـــــــا قمر السماء وكل
نـــــــــجم....
وأسكـنـــــــهم بمـــــــــــكة قاطنينا وجــــــــدت الله إذ سمى
نــــــــزاراً
وللنــــــــاس القـــــــفا ولنا الجبينا لنا جعــــــــل المكارم
خالصـــــــات
فوالــخ من فحول الأعجمينــــا وما خربت هجــــــــائن من نــــزار
مطـــهــــــــمة فيلفوا مبلغيــنــا10.. وما حملوا الحميــــــــر
على عتاق
وبــالآبــــــــاء سمينا البنيــنــا11. بني الأعمام إنكحنا
الأيـــــــــامــــى
أثر هذا الشعر تأثيراً عظيماً في قلوب القوم وأثار الحفائظ بين
القبيلتين فشاع البغض والعداء بينهما، فانبرى للدفاع عنهم دعبل الخزاعي
بلغت القصيدة التي رد بها على الكميت ستمائة بيت ومما جاء فيها:
كفـــــاك اللــــــوم مر الأربعينا أفيــــقي من ملامك يا
ظعـــــينا
يشيـــــبن الـــــذوائب والقرونا ألم تحـــــزنك أحداث
اللـــــيالي
لقد حييــــت عـــــــــنا يا مدينا أحي الغـــــر من سروات قوقي
وكنتم بـــــالأعـــــــاجم فأخرينا فإن يك آل إســـــرائيل
منـــــكم
مسخــــن مع القرود الخاسئينا فلا تنس الخنازيـــــر اللواتـــي
ولــــكـــــــــــنا لنصرتنا هجينا وما طلب الكميـــــت طلاب وتر
إلــــى نـــــــصر النبوة فأخرينا لقد علمت نزار أن قـــــومــــي
وهكذا اتسع العداء بينما شمل سكان القرى والبادية. فالعصبية القبلية
أفسدت قلوبهم وعرى الوحدة بين القبيلتين والأسرتين تمزق وانهار. وهذا
ما دعا محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية التعصب للنزاريين، مما سبب
انحراف اليمانيين عن بني أمية وانضمامهم إلى الدعوة العباسية إبان
تحركها ضد الحكم الأموي. وبذلك انهارت الدولة الأموية. يقول أحمد أمين
في هذا المجال (وقتلت بعده، الدولة الأموية بقليل). 12.
وعلى اثر التنازعات القبلية عمت الفتن والاضطرابات مما اذى الى
فقدان الامن وثورات دامية كل ذلك بسبب سياسة الاموية الخاطئة التي كان
همها تحقيق أهدافها الخاصة ومآربها الشخصية بعيداً عن مصالح شعوبها
العامة. وبعد ذلك ظهرت احزاب سياسية كل منها يسعى لتحقيق غاياته ونشر
مبادئه التي تتعارض مع الأحزاب الأخرى. سار معظم هذه الأحزاب في
منعطفات خاصة مستخدمة بذلك جميع الطرق الدبلوماسية دون أن تعنى بمصلحة
الأمة. وقد حدث صراع حزبي عنيف ساده القلق والقسوة والاضطراب. وهذه
الاحزاب هي ـ 1.الحزب الاموي المتبقين منهم 2. الحزب الزبيري 3.الخوارج
4.الشيعة وكان لسانهم الناطق في عصر الإمام الباقر (عليه السلام) عدة
شعراء مخلصين منهم كثير عزة والسيد الحميري والكميت بن زيد الأسدي يقول
كثير:
ولاة الــــــحــــــق أربــــــعة سواء ألا إن
الأئــــــــــــــمة من قريــــش
هــم الأســــــباط ليـــس بهم خفاء علـــــــــي والــــثلاثة من
بنـــــــيه
وســـــــــــبط غيَّبــــــــته كـــربلاء فـــــــــــــسبط ســبط
إيمـــــان وبرٍّ
يقــــــــــــود الخيــل يقدمها اللواء وسبــــــــط لا
تـــــــراه العين حــيّ
يرضون عنده عسل ومــاء 13. تغــــــيب لا يُـــــــــرى فيهم
زمــاناً
غير أن هناك من الشعراء من قد ضحوا تضحية كبرى في سبيل تشيعهم لآل
البيت، فلم يرضوا بمجرد العاطفة نحوهم وإظهار الأسى لما حل بهم، وإنما
خاصموا من خاصمهم وشهروا عليهم سلاح القول ألسنة حداداً مع مجادلة
ومحاجة وفي مقدمة هؤلاء الشعراء، الكميت بن زيد الأسدي الذي يهاجم بني
أمية بكل جرأة وعنف فيقول:
وإن خفت المهنــــــد والقـــــــطيعا فـــــــــقل لبــــني أمية
حيث حــلوا
واشـــــــــبع مـــــن بـحوركم أجيعا أجـــــــــــــاع الله من
أشبـــــعتموه
يـــكـــــون حياً لأمته ربيــعاً 14. بمرض بالســــــــياسة
هـــــاشمـي
وكان الكميت علوي المذهب يدافع بكل قواه عن الفكر الشيعي بأعظم
الحجج وأوضح الدليل. فهو يعارض الحزب الحاكم المتمثل في الحكام
الأمويين المنحرفين عن الخط الإسلامي الصحيح والمبتدعين في الدين غير
الملتزمين بما جاء في الكتاب العزيز، السافكين دماء المسلمين فيقول
فيهم:
أزلَّوا بها أتــــــــباعهم ثـــــم أوصـلوا لهــــــــم كـل عام
بدعة يحـــــــــدثونها
كتـاب ولا وحـــــــــي مـــــن الله منزل كما ابتدع الرهبـــــــان
ما لم يجيء ب
ويحـــرم طلع الـــــــنخلة المتــــــــهدل تــــــــحل دمـاء
المسلمين لديــــــــــهم
عليــــــــهم وهــــــل إلا عليك المعوّل؟ فيــــــا ربِّ هــل إلا
بك النصر نبتـــغي
وفوق حملته على الأمويين يعمد إلى الانتصار لأهل البيت عن طريق
المناظرة والمحاجة والإقناع، وكأنه متأثر بالمعتزلة تأثراً بالغاً.
ونراه يسفه حق بني أمية في الخلافة ويقرر حق الهاشميين فيها فيقول:
ومــا ورثتهـــــــم ذاك أم ولا أب 15.. وقـــــــالوا ورثناها
أبانا وأمـــــــــــــنا
سفاهاً وحق الهـــــــاشميـــــين أوجب يرون لـــــــهم فضلاً على
الناس واجباً
بــــــه دان شرقــــــي لكـــــــم ومغرِّب ولكن مواريـــــــث ابن
آمــــــــنة الذي
وتـعتب لو كنا عـــــــلى الحــــق نعتب وتستخلف الأمـــــــوات
غيرك كلـــــهم
لقد شركت فيه بـــكيـــلٌ وأرحب16. يقولون لم يـــــــورث، ولولا
تــــــراثه
وكـــــــــــــــندة والحيـــان بكر وتغلب وعك ولخم
والســــــــكون وحــــــــمير
والحق يقال أن الكميت كان المحامي الذلق المتمكن بالحجة المفخمة وهو
كما قال شوقي ضيف: (طرفة نفيسة من طرف العصر الأموي ولون أدبي جديد في
تاريخ الأدب العربي) 17.
بعض من اعمال الامام الباقر (عليه السلام) في
عصره..
يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حليته: هو الحاضر الذاكر، الخاشع
الصابر، أبو جعفر محمد بن علي الباقر، كان من سلالة النبوة، وممن جمع
حسب الدين والأبوة، تكلم في العوارض والخطرات، وسفح الدموع والعبرات،
ونهى عن المراء والخصوما18>
فقد بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) فضل العالم وقدّمه على العابد،
لأن العلم الحقيقي يجعل الإنسان على وعي كامل بالحقائق والتصورات
وبالأحداث والمواقف، فلا يختلط عليه أمر بأمر ولا موقف بموقف فيكون
قادراً على التمييز والتشخيص، وإصابة الواقع في جميع مجالاته، قال (عليه
السلام): (عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد)19.
كان للإمام الباقر (عليه السلام) دور كبير في توسيع المؤسسات
الثقافية، فقد أسس عدة مدارس في أهم الأمصار الإسلامية:
مدرسة المدينة: وكان يشرف عليها مباشرة، وينتقي منها الفقهاء
ليواصلوا حمل العلم ونشره.
مدرسة الكوفة: وكان يشرف عليها من تتلمذ على يديه، وتخرّج من مدرسته،
وقد أثمرت هذه المدرسة في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وإرجاع
الناس إليهم، حتى اعترف الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك بهذه الحقيقة،
فقد أشار إلى الإمام (عليه السلام) قائلاً: هذا المفتون به أهل
العراق20.
ولذا أمر الأمويون بمنع أهل العراق من الالتقاء بالإمام (عليه
السلام)21.
مدرسة قم: وكان يشرف عليها بعض من تتلّمذ على يدي الإمام (عليه
السلام)، وهي متفرعة من مدرسة الكوفة.
وتأثرت بمدرسة الكوفة وقم مدارس أُخرى في الشرق الإسلامي، كمدرسة
الري وخراسان22.
وهنالك مدارس جوّالة كان يؤسسها طلابه أينما حلّوا وهي محدودة بحدود
عدد الأفراد المشرفين وبمقدار الاستجابة لهم من قبل الناس.
والمؤسسات الثقافية كان لها دور كبير في تخريج الفقهاء والمبلغين من
مختلف الأمصار.
وكانت أساليب الإمام التثقيفية متنوعة، بعضها ذو طابع فردي والآخر
ذو طابع جماعي. كما كان التثقيف يتم عن طريق التدريس، وأُخرى عن طريق
الرسائل والوصايا.
ولم يكن تثقيفه وتعليمه مقتصراً على الفقه والأصول أو العلوم
الدينية بشكل خاص، بل كان شاملاً لجميع العلوم المعروفة آنذاك23.
بإيجاز من علوم الامام بحوث ألقاها على العلماء في الجامع النبوي
1. العلوم الفقهية...بين الامام ان روايات الأئمة الطاهرين (عليهم
السلام) في عالم التشريع والأحكام الفقهية لا تتناول آراءهم الخاصة
وإنما هي امتداد لأقوال الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال (عليه
السلام): (والله يا جابر لو كنا نحدث الناس برأينا لكنا من الهالكين،
ولكنا نحدثهم بآثار عندنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يتوارثها
كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم…)24.
2.الحديث الشريف وهي تعد المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن
الكريم. فالكتاب تولى العناوين والعموميات والحديث اختص بشرح العموميات
وتقييد المطلقات، وبيان ناسخه من منسوخه، ومجمله من مبنيه، كما يعرض
لأحكام الفقه من العبادات والمعاملات، وإعطاء القواعد الكلية التي
يتمسك بها الفقهاء في استنباطهم الحكم الشرعي. ويؤكد على فهمه والوقوف
على معطياته. وقد جعل المقياس في فضل الراوي فهمه للحديث ومعرفة
مضامينه. روي عن الإمام الصادق عن أبيه قال:
(أعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي
الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات
الإيمان.. إني نظرت في كتاب لعلي فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ
وقدره، معرفته الله تعالى يحاسب الناس على قدر ما أتاهم من العقول في
دار الدنيا..)25.
وأحاديث الإمام الباقر عن جديه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على قسمين: الأولى مرسلة،
والثانية مسندة.
فالمرسلة: ينسب فيها الإمام الحديث رأساً إلى النبي (صلّى الله عليه
وآله) أو الإمام (عليه السلام) دون أن يذكر رجال السند. قال (عليه
السلام):
(إذا حرفت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه
الحسين الشهيد، عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) عن جبرائيل عن الله عز وجل..)26.
والمسندة: هي التي يذكر فيها سنده عن آبائه الطاهرين عن رسول الله (صلّى
الله عليه وآله). وسواء أكانت روايته مرسلة أم مسندة فهي حجة بلا خلاف.
أ ـ أحاديث الفقه 27:
روى الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) أنه قال: (فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة، وأفضل
دينكم الورع). وايضا ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم). وايضا (الإيمان
معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان).
ب ـ الأحاديث الاجتماعية:
قال (عليه السلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (رأس العقل
بعد الإيمان بالله عز وجل التحبب إلى الناس) وايضا ألا إن شرار أمتي
الذين يكرمون مخافة شرهم، ألا وإن من أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني)
وايضا (صنفان من أمتي إذا صلــحا صلحت أمتـــي، وإذا فسدا فـــسدت أمتي،
قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء..). وايضا (من واسى
الفقير، وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقاً)28.. وايضا (إنكم لن
تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)29... وايضا (مجالسة أهل الدين
شرف الدنيا والآخرة)29.
استشهاد الامام الباقر (عليه السلام)30..
دسم السم بالإمام من قبل هشام 30 وقيل هو ابراهيم بن الوليد 30.
أما الأسباب التي أدت بالاُمويين الى اغتيال الإمام (عليه السلام)
فهي:
1 ـ سمو شخصية الإمام الباقر (عليه السلام): لقد كان الإمام أبو
جعفر (عليه السلام) أسمى شخصية في العالم الإسلامي فقد أجمع المسلمون
على تعظيمه، والاعتراف له بالفضل، وكان مقصد العلماء من جميع البلاد
الإسلامية.
لقد ملك الإمام (عليه السلام) عواطف الناس واستأثر بإكبارهم
وتقديرهم لأنه العلم البارز في الاسرة النبوية، وقد أثارت منزلته
الاجتماعية غيظ الاُمويين وحقدهم فأجمعوا على اغتياله للتخلص منه.
2 ـ أحداث دمشق:
لا يستبعد الباحثون والمؤرخون أن تكون أحداث دمشق سبباً من الأسباب
التي دعت الاُمويين الى اغتياله (عليه السلام) وذلك لما يلي:
أ ـ تفوق الإمام في الرمي على بني اُمية وغيرهم حينما دعاه هشام الى
الرمي ظاناً بأنه سوف يفشل في رميه فلا يصيب الهدف فيتخذ ذلك وسيلة
للحط من شأنه والسخرية به أمام أهل الشام. ولمّا رمى الإمام وأصاب
الهدف عدة مرات بصورة مذهلة لم يعهد لها نظير في عمليات الرمي في
العالم، ذهل الطاغية هشام، وأخذ يتميز غيظاً، وضاقت عليه الأرض بما
رحبت، وصمم منذ ذاك الوقت على اغتياله.
ب ـ مناظرته مع هشام في شؤون الإمامة، وتفوق الإمام عليه حتى بان
عليه العجز ممّا أدّى ذلك الى حقده عليه.
ج ـ مناظرته مع عالم النصارى، وتغلبه عليه حتى اعترف بالعجز عن
مجاراته أمام حشد كبير منهم معترفاً بفضل الإمام وتفوّقه العلمي في
أمّة محمد (صلى الله عليه وآله)، وقد أصبحت تلك القضية بجميع تفاصيلها
الحديث الشاغل لجماهير أهل الشام31. ويكفي هذا الصيت العلمي أيضاً أن
يكون من عوامل الحقد على الإمام(عليه السلام) والتخطيط للتخلّص من
وجوده.
ونصّ الإمام أبو جعفر (عليه السلام) على الإمام من بعده قبيل
استشهاده فعيّن الإمام الصادق(عليه السلام) مفخرة هذه الدنيا، ورائد
الفكر والعلم في الإسلام، وجعله مرجعاً عاماً للاُمة من بعده، وأوصى
شيعته بلزوم اتباعه وطاعته.
وكان الإمام أبو جعفر (عليه السلام) يشيد بولده الإمام الصادق (عليه
السلام) بشكل مستمر ويشير الى امامته، فقد روى أبو الصباح الكناني، أنّ
أبا جعفر نظر الى أبي عبدالله يمشي، فقال: ترى هذا؟ هذا من الذين قال
الله عزّ وجلّ: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم
أئمة ونجعلهم الوارثين)32.
كل هذه الاُمور بل وبعضها كان يكفي أن يكون وراء اغتياله (عليه
السلام) على أيدي زمرة جاهلية، افتقرت الى أبسط الصفات الإنسانية،
وحرمت من أبسط المؤهلات القيادية.
وأوصى الإمام محمد الباقر (عليه السلام) الى ولده الإمام جعفر
الصادق (عليه السلام) بعدة وصايا كان من بينها ما يلي:
1 ـ انه قال له: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، فقال له الإمام
الصادق: جُعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل
أحداً33.
2 ـ أوصى ولده الصادق (عليه السلام) أن يكفّنه في قميصه الذي كان
يصلي فيه34. ليكون شاهد صدق عند الله على عظيم عبادته، وطاعته له.
3 ـ إنه أوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى35... ولعل
السبب في ذلك يعود الى أن منى أعظم مركز للتجمع الاسلامي، ووجود
النوادب فيه مما يبعث المسلمين الى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى
على الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من صنوف التنكيل من قبل الامويين
واغتيالهم له، حتى لا يضيع ما جرى عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الاعلام
الاُموي.
وسرى السم في بدن الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، وأثّر فيه تأثيراً
بالغاً، وأخذ يدنو اليه الموت سريعاً، وقد اتجه في ساعاته الأخيرة
بمشاعره وعواطفه نحو الله تعالى، فأخذ يقرأ القرآن الكريم، ويستغفر
الله، فوافاه الأجل المحتوم ولسانه مشغول بذكر الله فارتفعت روحه
العظيمة الى خالقها، تلك الروح التي أضاءت الحياة الفكرية والعلمية في
الإسلام والتي لم يخلق لها نظير في عصره.
وقد انطوت برحيله أروع صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أمدّت
المجتمع الاسلامي بعناصر الوعي والازدهار.
وقام ولده الإمام الصادق (عليه السلام) بتجهيز الجثمان المقدس
فغسّله وكفنه، وهو يذرف أحر الدموع على فقد أبيه الذي ما أظلت على مثله
سماء الدنيا في عصره علماً وفضلاً وحريجة في الدين.
ونقل الجثمان العظيم ـ محفوفاً بإجلال وتكريم بالغين من قبل
الجماهير ـ الى بقيع الغرقد، فحفر له قبراً بجوار الإمام الأعظم أبيه
زين العابدين (عليه السلام) وبجوار عم أبيه الإمام الحسن سيد شاب أهل
الجنة (عليه السلام) وأنزل الإمام الصادق أباه في مقرّه الأخير فواراه
فيه، وقد وارى معه العلم والحلم، والمعروف والبر بالناس.
لقد كان فقد الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من أفجع النكبات التي
مُني بها المسلمون في ذلك العصر، فقد خسروا القائد، والرائد، والموجه
الذي بذل جهداً عظيماً في نشر العلم، وبلورة الوعي الفكري والثقافي بين
المسلمين.
اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، باقِرِ الْعِلْمِ
وَ اِمامِ الْهُدى، وَ قائِدِ اَهْلِ التَّقْوى وَالْمُنْتَجَبِ مِنْ
عِبادِكَ، اَللّـهُمَّ وَ كَما جَعَلْتَهُ عَلَماً لِعِبادِكَ وَ
مَناراً لِبِلادِكَ، وَ مُسْتَوْدَعاً لِحِكْمَتِكَ وَ مُتَرْجِماً
لِوَحْيِكَ، وَاَمَرْتَ بِطاعَتِهِ وَ حَذَّرْتَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ،
فَصَلِّ عَلَيْهِ يا رَبِّ اَفْضَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى اَحَد مِنْ
ذُرِّيَةِ اَنْبِيائِكَ وَ اَصْفِيائِكَ وَرُسُلِكَ وَ اُمَنائِكَ يا
رَبَّ الْعالَمينَ 36.
.................................
المصادر
1. شعر السيد محسن الأمين (رحمه الله).
2. لسان العرب ج4 ص74.
3. القاموس المحيط ج1 ص376.
4. الصواعق المحرقة 120.
5. الأئمة الاثنا عشر 81. وكذلك ورد القول عن ابن
خلكان.
6. الفصول المهمة 201.
7. المناقب: 2 / 286.
8. أئمتنا: 1 / 396، عن أعيان الشيعة: 4 ق2 / 85.
9. كشف الغمة: 212.
10. عتق مطمهة: يراد بها النساء العربيات، مروج
الذهب ج2 ص196.
11. لقد عيرهم بأنهم يزوجون بناتهم للحبش والفرس
فتولد السود والحمر فكان هذا النسل يشبه تلقيح الحمير للخيل العتاق
التي تنتج البغال، مروج الذهب ج2 ص196.
12. ضحى الإسلام ج3 ص206 والمقصود أي بعد الكميت.
وراجع مروج الذهب ج2 ص197.
13. الأغاني ج9 ص14ـ15.
14. الأغاني ج5 ص271.
15. الهاشميات ص36.
16. بكيل وأرحب وعك ولخم قبائل عربية.
17. التطور والتجديد في الشعر الأموي ص317.
18. حلية الأولياء 3 / 180.
19. حلية الأولياء 3| / 192.
20. مختصر تاريخ دمشق: 23 / 79.
21. مختصر تاريخ دمشق 23 / 83.
22. دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة
الصالحة: 1 / 133.
23. الإرشاد: 264.
24. ناسخ التواريخ ج2 ص217.
25. ناسخ التواريخ ج2 219.
26. أعلام الورى ص270.
27. الخصال صفحة 4و5و164.
28. الخصال صفحة 17و15و36و47.
29. أمالي الصدوق ص11 و ص54.
30. ورد في اعلام الهداية الفصل الثاني بحار
الأنوار: 46 / 312.و أخبار الدول: 111.
31. بحار الأنوار: 46/309 ـ 311..
32. اصول الكافي: 1/306.
33. اصول الكافي: 1/306.
34. صفة الصفوة: 2/63، تاريخ ابن الوردي: 1/184،
تاريخ أبي الفداء: 1/214.
35. بحار الأنوار: 11/62.
36. بحار الأنوار (الجامعة لدرر أخبار الأئمة
الأطهار (عليهم السلام)): 91 / 76.. |