شبكة النبأ: هذه ليست المرة الاولى
التي يتعامل فيها الاميركيون مع العراق بشكل غامض ومريب، يدعو الى
التعالي والغطرسة، خلال ما يُعرف بـ "الحرب على الارهاب". فقد سبق وأن
أكدوا بشكل واضح للعراقيين أنهم لن يشركوا أحداً في خططهم وبرامجهم
العملية فيما يتعلق بالعراق، بل حتى في مرحلة التنفيذ التي ربما تتقاطع
مع مصالح وحياة العراقيين انفسهم.. كانت المرة الاولى في التخطيط
والتحضير للاطاحة بنظام صدام، فقبل اندلاع الحرب، كان يجري الحديث عن
كل شيء في صفوف الاحزاب السياسية العراقية التي كانت يومها موزعة على
المهاجر، وهي تجتمع وتتحادث باستمرار مع المسؤولين الاميركيين بمختلف
مستوياتهم، إلا من أمر واحد، وهو طريقة سقوط صدام، ثم البديل عنه..
وكيف عليه الوضع في العاصمة بغداد وعموم العراق في لحظة واحدة من دون
صدام وأجهزته القمعية ومؤسساته الحزبية؟.
وفي المرة الثانية، عندما ظهر عدو جديد للاميركيين بعد صدام، وهو
المدعو "ابو مصعب الزرقاوي" الذي تحول بين ليلة وضحاها الى زعيم تنظيم
القاعدة في العراق، ومنذ ظهوره وانتشار ظاهرته في الاوساط الاجتماعية،
لاسيما في المناطق غير المطمئنة على مصيرها بعد سقوط صدام، أظهر
المسؤولون العراقيون الجدد، وفي أول ظهور لهم، وفي بدايات تشيكل الدولة
الجديدة، عجزهم الكبير على مواجهة هذا الخطر الذي أوقع بالعراقيين فتكاً
وقتلاً مريعاً، ولم تتمكن من ايصال سهم واحد، ولو بالخطأ صوب هذا الشخص
الذي هوّله الاعلام الغربي والعربي على حد سواء، بل تحول الى مصدر رعب
مماثل لما كان يمثله صدام من قبل، وعندما ارادت واشنطن التخلّص من هذا
التنظيم بعد ان تخلصت من زعيمه في قصف جوي، لم تستشر الحكومة العراقية
التي تمخضت عن انتخابات برلمانية بمشاركة جماهيرية واسعة. فكان القرار
بتشكيل ما أطلق عليه بـ "الصحوات" وهي مجاميع من شباب ورجال العشائر
العراقية في الانبار وصلاح الدين ونينوى، وجلّهم من جنود وضباط الجيش
العراقي السابق والناقمين على الحكومة الحالية. وبهذه الصحوات تمكنت من
القضاء على عناصر "القاعدة" وطيّ صفحتها الى الابد.
وقد قالها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي جهاراً، بأن الاميركيين
امتنعوا عن إخباره بتفاصيل تشكيل هذه القوة المسلحة الجديدة، بل يقول:
انه واجه الرفض حتى باعلان اسماء هؤلاء وقادتهم والمناطق التي
يسكنونها. وكان احد ابطال هذه اللعبة الاميركية المتقنة، الجنرال ديفيد
بترايوس الذي دشن خدمته في العراق من مدينة الموصل، حيث أكدت التقارير
حينها بانه أدى مهمته بأحسن ما يكون بكسب ودّ اهالي المدينة، وهم على
الاغلب يشكلون العمود الفقري للمكون السنّي من حيث الكفاءات والقدرات،
حيث فيهم الطيارين والقادة العسكريين والسياسيين.
أما الحرب الجديدة التي تبدو واجهتها جديدة ومثيرة في آن باسم
"الدولة الاسلامية في العراق والشام"، فان الاميركيين يعيدون نفس
السيناريو دون الشعور بأي احراج.. فهم يقولون انهم عازمون على "الحرب
ضد داعش"، فقدموا الدعم العسكري للدولة العراقية، من خلال القصف الجوي
لطائراتها المتطورة التي ما برحت تقصف مواقع لتجمع عناصر هذا التنظيم،
ثم بدأ الكلام عن الحرب البرية، مع مطالبات بهذا الاستحقاق العسكري،
فجاء النفي من الرئيس اوباما بانه لن "يشارك الجيش الاميركي في حرب
برية في العراق"، وفي ظل تأكيدات ومطالبات بهذا الخصوص من قبل رئيس
هيئة الاركان الجنرال مارتن ديمبسي، تصور الجميع وفي مقدمتهم المكون
السني في العراق، بان الموقف الاميركي (الرئاسي) ربما يتغير، بيد أن
التوضيح جاء سريعاً من هذا الجنرال بأن الحرب البرية ليس بالضرورة ان
تكون من قبل جنود اميركان.. إنما من قوات مشتركة من الجيش العراقي
والبيشمركة والمعارضة السورية، فهؤلاء – حسب سيناريو واشنطن- هم من
سيقوم بدور مقاتلة "داعش" في العراق وسوريا.
المحللون والمراقبون الذين يرون تحفزاً وتوثباً كبيراً لدى المكون
السنّي، في شقيه العشائري والسياسي لتحقيق اكبر المكاسب، يعتقدون أن
السيناريو الاميركي بهذا الأداء ربما يدفع الامور الى مزيد من اراقة
الدماء والشحن الطائفي، بدلاً من ان يكون هنالك تقارب وتفاهم بشكل عام
بين المكونين الاساس؛ الشيعة والسنة، وهو ما يرجوه العقلاء والمخلصين
من ابناء الشعب العراقي.
فحتى الآن لم يخف السياسيون والجماعات السنية الاخرى مشاعر الغضب
والانزعاج من أداء الحكومة العراقية في التصدّي للخطر الجديد المتمثل
بـ "داعش"، وذلك بعد الهزائم المنكرة التي مُني بها الجيش العراقي في
الموصل وفي مناطق اخرى، وفي نفس الوقت، اعتماد الحكومة على التشكيلات
العسكرية المليشياوية التي نجدها موفقة في السيطرة على مناطق عديدة، بل
ودحر عناصر "داعش" من عديد المدن والمناطق في العراق، وبات من المؤكد
أنه لولا وجود هذه المليشيات التي تسلحت وتعبئت خلال فترة قياسية،
لكانت "داعش" على ابواب بغداد، بيد ان هذا لا يلغي بأي حال من الاحوال
دور الجيش النظامي المدرب والمتسلح باحدث المعدات، والذي أنفقت الدولة
عليه مليارات الدولارات.
وبالرغم مما يقال عن اعلان المكون السنّي اعلامياً وسياسياً بانه
يريد مقاتلة "داعش"، فانه كل الدلائل تشير الى انه ما يزال الحاضنة
الاولى والاخيرة لهذا التنظيم، وإلا اين تذهب المجاميع المسحلة مع
عجلاتها وحتى ناقلة الجند والاسلحة الثقيلة التي سرقتها من الجيش
العراقي، عندما تنسحب وتتحاشى القتال امام القوى العراقية المسلحة؟،
الجواب كما يرد من المصادر الاعلامية، هو المناطق الغربية المفتوحة على
الصحراء في محافظة الانبار على الحدود السورية او الاردنية.
إلا ان الحقيقية التي يبدو تتوضح اليوم بشكل جلي هي رغبة المكون
السنّي بشكل عام، بالتخلص من هيمنة الحكومة العراقية التي يترأسها
شيعي، وتهيمن عليها كتلة برلمانية قوية وواسعة. وهذا لن يتحقق –
باعتقادهم- إلا من خلال فزاعة "داعش" او الاعتماد على واشنطن مرة اخرى
لتحقيق مصالحهم وفي مقدمتها المشاركة في القرار السياسي والحصول على
الامتيازات ذاتها التي يحصل عليها الآخرون.
فهذا احد شيوخ عشائر الجبور من صلاح الدين يقول: ان "القوات
الاجنبية هي الوحيدة القادرة على تحرير المحافظة من سيطرة الجماعات
المتطرفة وانها الوحيدة التي تستطيع ان تدفع نحو الاستقرار". ويقول
قيادي في الصحوات السابقة لوكالة "شفق نيوز": ان "الصحوات السابقة نجحت
بسبب الدعم المفرط لها من قبل القوات الامريكية لكن السلطات العراقية
تسببت في انهيارها بسبب ضعف الدعم وعدم المبالاة".
في ظل هكذا مشاعر مشحونة بالعداء والبغض الطائفي، ومع وجود اخفاق
وعجز كبير ومريب في المؤسسة العسكرية العراقية، فان آفاق المرحلة
الراهنة التي يفترض ان تحمل انباء عن الحرب الدولية الواسعة ضد "داعش"
لن تبشر بخير للعراقيين – على الاقل-، نعم؛ ربما تحقق مصالح عديد الدول
المشاركة، وفي مقدمتها اميركا وبريطانيا، إلا ان العراقيين سيبقون
يدفعون ثمن التفكك والتمزق والفشل الكبير في التفاهم والتقارب بين
ابناء البلد الواحد. |