حزب الدعوة ومتلازمة الحل

د. علي المؤمن

 

وهم التغيير بتغيير الحكومة

 لم يخف كثير من المواطنين تفاؤلهم بمشهد رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي في جلسة مجلس النواب مساء 9 أيلول الجاري؛ وهو يعلن تشكيلته الحكومية، ونجاحه في إيجاد الحلول المرحلية لجمع الفرقاء السياسيين العراقيين في مساحة مشتركة من التوافقات التي أدت الى دخولهم الكابينة الوزارية؛ بالرغم من صعوبة العملية؛ بالنظر للشروط التعجيزية ـ أحيانا ـ التي أراد بعض الفرقاء فرضها على متبنيات الحكومة الجديدة وواقعها وطبيعة تكوينها وعملها؛ وفي مقدمة ذلك حجم تمثيل إتحاد القوى الوطنية؛ الذين يطرح نفسه ممثلاً للمكون العربي السني، وإلغاء القوانين المبدئية التي قامت عليها الدولة العراقية بعد عام 2003، إضافة بعض شروط التحالف الكردستاني ومطالباته الجغرافية والمالية والسياسية.

وهذا يعني إن تفاؤل المواطن العراقي تقابله شكوك السياسيين والمراقبين في قدرة الفرقاء السياسيين على الإستمرار في حالة التوافق المرحلية (نموذج: إعطاء التحالف الكردستاني فرصة ثلاثة أشهر لرئيس الحكومة لتنفيذ مطاليبه)؛ لأن أزمات العراق السياسية والتاريخية لا علاقة لها بالنجاح في تشكيل حكومة جديدة. فستبقى قوى الإتحاد السني تنظر الى رئيس الوزراء الجديد على انه قيادي شيعي إسلامي ينتمي الى حزب الدعوة الذي كان يعمل على إسقاط نظام البعث الطائفي العنصري؛ وبالتالي إسقاط السلطة الطائفية التي تمتد الى مئات السنين، كما سيبقى حضور السيد نوري المالكي قائما أمامها؛ لكون السيد حيدر العبادي ينتمي الى الحزب الذي يقوده السيد نوري المالكي، الذي يتحمل وزر ما أسموه بتهميش السنة؛ وهو مايعني لديهم غياب الشكل وبقاء جميع المضامين الايديولوجية؛ وهي نقطة خلافهم الجوهرية الحقيقية مع عراق ما بعد 2003.

 أما التحالف الكردستاني الذي يمثل المكون الكردي السني؛ فعلى الرغم من سقف مطالبه العالية؛ إلا أن نقطة الخلاف الجوهري المذكورة لاتعنيهم بشيء؛ بل على العكس؛ فقد كانوا ولايزالون يعانون من النظرية الشوفينية التي قامت عليها الدولة العراقية بعد عام 1921؛ وهي نقطة التقاء أساسية بالسيد حيدر العبادي وحزب الدعوة والمكون الشيعي برمته؛ إذ ان خلافاتهم مع الحكومة المركزية ظلت خلافات مطلبية ولا تتعلق بالصدمة التاريخية التي حدثت عام 2003. وإذا ما أخضعنا الخلافات بين الفرقاء السياسيين الشيعة الأعضاء في التحالف الوطني الى مقياس الخلافات الجوهرية مع اتحاد القوى السنية والخلافات المطلبية مع التحالف الكردي، فإن خلافات الكتل الشيعية مع بعضها تصل الى حدودها الدنيا؛ بإعتبارها خلافات ترتبط بجانب الصلاحيات والممارسات.

 من هنا؛ يعلم الفرقاء السياسيون العراقيون والمراقبون المحليون واللاعبون الإقليميون والدوليون؛ بأن التغيير والإستقرار في العراق لايرتبطان بتغيير الحكومة ومجيء رئيس وزراء جديد؛ بل يرتبطان بالصراع التاريخي للإرادات على هوية العراق وبنيته الايديولوجية وتكوينه القومي والمذهبي. ولا شك؛ إن معرفة عمق هذه الإشكالية والإذعان لحقيقتها؛ كفيلين بإيجاد الحلول الجذرية لأزمات العراق ومعالجتها. أما الإصرار على عدم الإعتراف بهذه الإشكالية والتغطية عليها ودفن الرؤوس في التراب، والإستمرار قدماً في وهم تغيير الوجوه والأسماء والصلاحيات والسلوكيات؛ وكونه جوهر التغيير والإستقرار؛ فإنهما سوف يبقيان العراق مشتولاً في أرض الأزمات.

القراءة العلمية لأزمات العراق؛ مقدمة للمعالجات

 قبل الدخول الى بوابة الحلول الصعبة لأزمات العراق المستعصية؛ لابد من تشخيص طبيعة هذه الأزمات وعمقها وإمتداداتها؛ فالعلاج الحقيقي لايُعطى للمريض الّا بعد إكتشاف طبيعة المرض أو الأمراض ومراحلها وإستفحالها وتجذرها في جسد المريض. وربما يكتفي الطبيب بالمسكنات أو العلاج بالعقاقير، ولكنه قد يقرر إجراء العمليات الجراحية؛ وصولاً الى عمليات الإستئصال؛ من أجل إنقاذ حياة المريض.

 إبتداءً؛ من الخطأ الفادح؛ أن يعتقد بعضهم إن أسباب الفشل والأزمات في العراق هي حكومات مابعد عام 2003؛ بدءاً من حاكمية الإحتلال بقيادة السيد غارنر والسيد بريمر، مروراً بحكومتي السيد أياد علاوي و السيد ابراهيم الجعفري، وإنتهاء بحكومة السيد نوري المالكي. بل ومن السذاجة أن يعتقد آخرون بإن العلمانيين إذا حكموا وتنحى الإسلاميون، أو أمسك التكنوقراط بالوزارات وأبتعد السياسيون؛ فإن أزمات العراق ستنتهي. ولو عاد حكم صدام حسين بكل ما كان لديه من قسوة وجبروت وتفرد وقدرة على إفتعال الحروب والقتل والقهر وكتم الأنفاس وقطع الألسن وقمع أي تحرك معادي للسلطة؛ لما استطاع فعل شيء؛ سوى إخماد بعض النيران؛ ليبقى الجمر كامناً تحت الرماد. لأن أزمات العراق لها علاقة بماضِ سحيق؛ يستحيل التخلص منه بالقوة القاهرة أو بالمصالحات السطحية بين الفرقاء وصفقات الترضية، أو بالشعارات الرنانة والمهرجانات الخطابية التي تصرخ بالوطن والوطنية؛ بل إن أزمات العراق لصيقة بتكوينه الخاطئ بعد معاهدة سايكس ـ بيكو؛ التي أورثت العراق كل موبقات الدولة العثمانية الطائفية، ثم بقيام ماعرف بالدولة العراقية عام 1921 وماترشح عنها من مركّب سلطة طائفية عنصرية؛ تحمل الإرث العثماني والأموي من جهة، وإفرازات ماعرف بأفكار الثورة العربية وتشكيل الدول العربية الحديثة والمعاصرة على أسس قومية عربية، ثم ظهور أفكار الجماعات العنصرية؛ وأبرزها حزب البعث.

 وقد تبلورت الأزمات بتطبيق نظام حزب البعث العراقي عام 1968 لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري؛ بدءاً بالموروث الأموي، وإنتهاءً بفكر وزير المعارف في العهد الملكي ساطع الحصري وممارسات حكم الرئيس عبد السلام عارف وايديولوجيا مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق. ونتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعيه، وثقافة سلطوية، ونظماً سياسية وقانونية؛ مولّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومففكة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي. ولكن كان نظام البعث يقمع هذه الثقافات والمناخات النفسية المريضة التي أنتجها الموروث التاريخي العراقي وأنتجها فكره وممارساته، ويقمع ترشحات هذا الواقع المريض ويغطي على بؤر النيران؛ بقوة السلاح والحروب والقتل وخنق الانفاس وكل أنواع القسوة والطغيان والجبروت. وبالتالي؛ بقيت تلك الثقافات والصراعات المتجذرة ناراً تحت الرماد.. حتى سقطت سلطة القمع والطغيان عام 2003؛ لتنطلق هذه الثقافات والصراعات بقوة الى العلن.

 وبعد إنهيار سلطة القمع والطغيان عام 2003؛ بفعل مشروع الإحتلال الذي كان معنياً بمصالحه، وليس معنياً بحل أزمات العراق؛ فإن تلك الثقافات والأزمات النفسية وتبعات الموروثات التاريخية والبيئة النفسية الحاضنة لكل أنواع الأزمات؛ تحررت فجاة وإنطلقت بقوة تدميرية هائلة؛ لتملأ الواقع العراقي بالتناقضات والتعارضات والصراعات. حتى اصبح الشغل الشاغل للحكومة ذات الاغلبية الشيعية؛ هو مكافحة الإرهاب وحل التناقضات بين الفرقاء السياسيين، وتفكيك العقد بين مكونات الشعب العراقي، و إشكاليات النظام السياسي، وتنظيم صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الإقليم والمحافظات. وجميعها مشاغل متشعبة جدلية؛ تجد جذورها بالكامل في ممارسات الأنظمة العراقية السابقة وأعرافها وأفكارها وسلوكياتها. وتم إكتشاف مفارقات أخرى موروثة تتعلق بالخدمات والبنية التحتية؛ بما في ذلك الكهرباء ومياه الشرب والمجاري.

 الذي أريد قوله بإختصار؛ إن عراق ما بعد 2003؛ ورث بلداً ليس فيه مساحة صالحة للعيش الحقيقي.. بلداً مدمّراً منكوباً، وشعباً شديد الإرهاق؛ بفعل 1350 عاماً من التمييز الطائفي والتهميش والقمع الفكري والثقافي والحرب النفسية والقتل والإعتقال والتهجير والإضطهاد للأكثرية المذهبية الشيعية في العراق؛ على يد الأمويين والعباسيين والأيوبيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين؛ ثم على يد بقايا العثمانيين والقوميين العروبيين الجدد في العهدين الملكي والجمهوري؛ وأخيراً بفعل 35 عاماً من الحروب المتواصلة والقتل الجماعي وجرائم الإبادة والإضطهاد الشامل والتهجير والهجرات المليونية والخسائر المادية الهائلة والدمار الإقتصادي المرعب وإنهيار البنية التحية؛ الذي كان أبطاله البعثيون الطائفيون العنصريون.

 ولم يكن هذا الدمار الشامل الذي يعاني منه البلد وشعبه؛ قد حصل بفعل عمليات الغزو الأمريكي وإحتلال العراق، أو بفعل ممارسات الحكومات التي تعاقبت على العراق من عام 2003 وحتى الآن؛ بل هو دمار موروث؛ أعاد حزب البعث تنفيذه منذ عام 1968؛ أي منذ السنة الاولى للإنقلاب البعثي. فكان كل ذلك بحاجة الى خطة إستراتيحية إستشرافية؛ أمدها المناسب هو 50 عاماً ؛ تتقسم على خمس خطط عشرية وعشر خطط خمسية. ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات واخذت تتراكم بشكل مرعب بسبب إنشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والانقاض الموروثة الهائلة التي خلّفها النظام البعثي؛ ولمّا تنتهي بعد.

 وهذا لا يعني إن نوع الحكومات التي توالت على العراق بعد عام 2003 غير مسؤولة عما وصل اليه الواقع العراقي؛ بل أنها تتحمل وزر رفض حل عقد العراق وأزماته. ولا أقصد بالحكومات هنا؛ الكابينة الوزراية أو رئاسة الوزراء؛ بل كل الفرقاء الذين شاركوا في الحكم. هذه الحكومات تضم عشرات الأحزاب والجماعات والكتل والإئتلافات المختلفة دينياً ومذهبياً والمتعارضة سياسياً وثقافياً، وكل منها يفرض على الدولة العراقية شروطه وقوانينه ومرشحيه ونسبته من المسؤوليات والمناصب؛ بدءا برئيس الجمهورية وإنتهاء بالمدراء العامين. ثم تتحول الوزرات الى مراكز يديرها ـ عادة ـ الحزب الذي ينتمي اليه الوزير. وبالتالي؛ يتحوّل نظام الحكم الى مهرجان من الثقافات والايديولوجيات والموروثات النفسية المتعارضة والإنتماءات السياسية غير المنسجمة. وقبال هذا الوضع؛ يكون من الطبيعي تسلل كل ألوان الفساد الإداري والمالي والاخلاقي والقانوني والثقافي والإعلامي الى الجسد الحكومي والوطني الذي تتصارع أعضاؤه ويفشل بعضها الآخر، ومن الطبيعي أيضاً أن ينخفض منسوب الإنجاز لدى الحكومة الى حدها الادنى.

 والأنكى من ذلك؛ إن بعض الفرقاء السياسيين الذين يشكلون نظام الحكم العراقي؛ يضع قدماً في الحكومة، وقدماً آخر في المعارضة السياسية، وقدماً ثالثاً في الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة علناً. وهذا التعارض الغريب بين الفرقاء السياسيين؛ له مسوغاته الضاربة بعمقها في أزمات العراق التكوينية والبنيوية. أي أن كل فريق يعطي لنفسه الحق في رؤية العراق من زاويته، ويتغنى بالوطن الذي يعتقد بشكله ومضمونه؛ وهو شكل ومضمون يختلف من فريق لآخر. وهو ماينطبق أيضاً على المفاهيم أيضا ودلالاتها وتطبيقها. فكل الفرقاء ينادون بحب الوطن والتضحية من أجله، وبكرامة المواطن وبالعدالة والمساواة والحقوق والحريات والمشاركة؛ ولكنهم يختلفون في ماهية الوطن الذي يضحون من أجله ونوعية هذه التضحية، ويختلفون في دلالات المواطنة والكرامة والعدالة والحقوق والمشاركة والمساواة وتطبيقاتها. وفي النتيجة تكون ممارساتهم متعارضة بالكامل؛ وهم يحملون المفاهيم والشعارات ذاتها ويشتركون في إدارة الدولة والسلطة. وأبسط مثال على ذلك هو أن معظم الفرقاء السنة يعتقدون إن عراقهم هو عراق ماقبل 2003، وانهم يقاتلون ـ غالباً ـ من أجل العودة اليه. أما عراق مابعد 2003 فهو ليس العراق التقليدي الذي يعتقدون به وينتمون اليه. بينما يقاتل الشيعة من أجل الإندفاع قدماً للتخلص من عراق ما قبل 2003. وحيال ذلك يكون الوطن غير الوطن، والتضحية غير التضحية، والعدالة غير العدالة.

 وهكذا فرقاء متضادين في دلالات المفاهيم وتطبيقاتها ومصاديقها؛ لا يستطيعون الإشتراك في بناء دولة وحكومة وسلطة منسجمة متوازنة؛ الّا إذا أذعنوا للواقع الجديد وإعترفوا بحقائقه وإستحقاقاته. وهنا قد يكون مفيداً إعادة إجابتي على تساؤلات بعض الباحثين والسياسيين العرب عن نهاية أزمة العراق؛ خلال بعض الندوات والحلقات الدراسية في لبنان وغيره، أو في بعض دراساتي وكتبي التي صدرت بعد عام 2003.

 أن أزمة العراق هي مجموعة أزمات مركّبة كبرى، وإن ماحدث في عام 2003 هو صدمة تاريخية لاتعرف جوهرها حتى الدول الكبرى التي أسقطت نظام صدام حسين؛ وعلى رأسهم الأمريكان؛ فيتصورون إنهم أسقطوا دكتاتوراً إسمه صدام؛ كما أسقطوا غيره من دكتاتوريات؛ من أمريكا اللاتينية وحتى شرق آسيا؛ ولكنهم لايعلمون أنهم في العراق أسقطوا تاريخاً عمره 1350 عاماً. وكان هذا هو سبب تأليفي كتاب ((صدمة التاريخ)) الذي نشرته عام 2010 حول هذا الموضوع تحديداً. ولذلك كنت ولا أزال أقول بأن أزمة معقدة عمرها مئات السنين؛ لايمكن حلّها بخمس أو عشر سنوات؛ بل ان العراق بحاجة الى 50 عاماً حداً أدنى ليصل الى النتيجة المطلوبة؛ شرط أن يكون الطريق الذي يسلكه العراقيون هذه المرة طريقاً علمياً وواقعيا وسليماً في المنهج والفرضيات. ولا أطلق هذا الرقم من باب التخمين العابر؛ بل من منطلق علمي ورؤية إستشرافية. ويبقى إن هكذا مشروع بحثي إستشرافي إستراتيجي؛ هو عمل حكومي؛ ينفذه عشرات المتخصصين العراقيين والعرب و الأجانب؛ ممن يعون عمق الأزمات العراقية و أعراضها. وقد يطول تدوينه أربع الى خمس سنوات.

إستحالة الحل بسبب الرفض الخارجي لتحول العراق

 لقد زاد من صعوبة حلحلة مشاكل العراق المتجذرة، وعدم قدرة أية حكومة على تفكيك عقده؛ ثلاثة عوامل خارجية أساسية مترابطة ويكمل أحدها الآخر:

1- التدخل الخارجي الضاغط الرافض للتغيير الحاصل في التركيبة الطائفية الشوفينية للدولة العراقية؛ والمتمثل بتدخل أنظمة السعودية وتركيا وقطر والأردن وغيرها. فهذه الدول لم تكن رافضة الإطاحة بنظام صدام حسين وإحتلال العراق؛ بل العكس كان يهمها تدمير العراق وتحويله الى سوق استهلاكية ثقافية واقتصادية وسياسية وعسكرية لها؛ ولكنها رفضت بضغط بالغ وتدخل غير مسبوق؛ التغيير الذي أدى الى دخول الشيعة شركاء غالبين بثقلهم العددي في حكم الدولة العراقية. وهو مايعني صدمة للتاريخ العراقي بشكل خاص، والعربي والطائفي بشكل عام؛ على إعتبار إن العراق ظل الخندق الطائفي الذي يُحرق فيه الشيعة العرب طيلة 1350 عاماً، والبوابة الشرقية الطائفية العنصرية التي تمنع إمتداد الشيعة من الشرق الهندي والباكستاني والأذربيجاني والإيراني بإتجاه البلدان العربية؛ وهو الشرق الذي يضم مايقرب من 300 مليون شيعي. والأهم من كل ذلك؛ فإن هذه الدول المتدخلة الرافضة للتغيير في العراق؛ تعتقد أن شيعة العراق إذا تحركوا مذهبياً في فضاء الحرية؛ فإنهم سيقلبون المعادلة المذهبية في المنطقة العربية خلال 30 عاماً فقط. ومن هنا؛ بذلت هذه الأنظمة كل ما لديها من جهد وقوة ونفوذ لمنع التغيير في تركيبة الدولة العراقية، وأبقت الحكومات العراقية المتعاقبة منشغلة في مكافحة الإرهاب والعنف، وعدم التوجه الى التغيير الحقيقي في الواقع العراقي، وفي عملية البناء الثقافي والمجتمعي والسياسي والإقتصادي، والإعمار و تقديم الخدمات.

2- الحرب المضادة العنيفة الشاملة التي قادتها بقايا النظام السابق وحلفائها ضد التغيير في العراق الجديد؛ وهي الحرب الداخلية المفتوحة في مساربها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية والنفسية. والتحق بركب الحرب تنظيما القاعدة وداعش الوهابيين وغيرهما؛ ولايزالان خنجراً غائراً في خاصرة العراق الجديد.

3- المشروع الأمريكي ـ الصهيوني في المنطقة؛ وهو المشروع الذي يستثمر كل عوامل الخلاف والصراع المذهبي والقومي والفكري والثقافي في المنطقة العربية والشرق أوسطية؛ لتثبيت دعائم مشروع إستقرار الكيان الإسرائيلي، وفتح قنوات إمتداد سياسي وإقتصادي وثقافي وإعلامي له في المنطقة. فكانت عين هذا المشروع على عراق ما بعد السقوط. ولكن فوجئ هذا المشروع بسيطرة قوى الممانعة الشيعية على قرار الدولة في العراق، وحالت دون أي نفوذ أو تطبيع من أي نوع مع الكيان الإسرائيلي واللوبيات الصهيونية الأوربية والأمريكية. وهذا مادفع المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي الى إتباع كل الوسائل التي من شأنها الإبقاء على الدولة العراقية وحكومتها الممانعة؛ ضعيفة هشّة متناحرة؛ للحيلولة دون تحولها الى قوة مؤثرة في محور الممانعة؛ ولا سيما بعد دخول حكومة السيد نوري المالكي في هذا المحور علناً؛ عبر التحالف مع إيران، ودعم الجبهة السورية، والتعاطف مع حزب الله اللبناني، والوقوف الى جانب إنتفاضة الشعب البحريني.

 إن المحاور الدولية والإقليمية والمحلية الثلاثة التي تضم الدول والتنظيمات المتضامنة المتكاملة في مشروعها الإستراتيجي الإقليمي المعادي للتغيير الحقيقي في العراق؛ ونقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية، السعودية، إسرائيل، قطر، تركيا، الأردن، حزب البعث العراقي، تنظيما القاعدة وداعش، وغيرها؛ هي الحائل الحقيقي دون إستقرار العراق ودماره؛ والتي ستبقى تربك العملية السياسية وإعادة بناء العراق إرباكاً هائلاً؛ وتحول دون أية إمكانية حصول التغيير والحل في العراق. وبالتالي؛ فإن من يعتقد بإمكانية بناء علاقات طبيعية مع أنظمة السعودية وتركيا وقطر والأردن؛ أو يرى ضرورة العفو عن البعثيين وحزب البعث وإدخالهم في العملية السياسية، أو إمكانية تحييد الإرهابيين الايديولوجيين؛ أمثال القاعدة وداعش ونظائرهما، أو يعتقد إن تغيير الحكومات العراقية ورؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء سيغير من قواعد اللعبة في العراق؛ فهو واهم بالكامل؛ لأن خلاف هذه الدول والتنظيمات مع العراق الجديد ليس خلافاً سياسياً أو إقتصادياً أو جغرافياً أو حدودياً؛ بل هو صراع وجودي وبنيوي؛ لا يمكن حله؛ الّا إذا تحوّل العراق الى دولة قوية في كل المجالات؛ تكون ندّا لهم، أو يعود خندقاً طائفياً كما كان قبل 2003. وحينها ستتغير مواقفهم.

 فالقاعدة وداعش والبعث وغيرهم من المعارضين للتغيير بالسلاح؛ هؤلاء أساساً لا يريدون المصالحة أو دخول العملية السياسية؛ بل مطلبهم الوحيد هو عودتهم الى السلطة بكل ما يمتلكون من ايديولوجيا طائفية وشوفينية. أما الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة؛ فيهمهما إبتعاد العراق تماماً عن مشروع المقاومة والممانعة والدول والتنظيمات التي تمثلها: إيران وسوريا ولبنان، ويرفضان إنخراط العراق في المضمون الايديولوجي المقاوم للتنظيمات الشيعية العراقية التي تقود العملية السياسية؛ ولا سيما حزب الدعوة (بجميع أجنحته) والتيار الصدري (بجميع تفرعاته) والمجلس الاعلى (بجميع مكوناته)، ومنظمة بدر وحزب الفضيلة وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وغيرها؛ وهذا من المستحيلات السبعة.

حزب الدعوة: بداية التحوٌل

 لقد نشأ حزب الدعوة على أسس إيجاد تغيير جذري في الواقع الشيعي العراقي والإقليمي والعالمي. فهو حزب ديني إسلامي شيعي حضاري؛ قائم على قواعد فقه مذهب الإمام جعفر الصادق (ع)؛ مهما حاول الحزب تغليف حقائقه بشعارات الوحدة الإسلامية والتلاحم الوطني؛ ورغم إستقطابه أعضاء سنة لبنانيين وأردنيين وعراقيين في فترة السبعينات. ولكن كل هذا لم يغير من فلسفته في التغيير ومن بنيته العقائدية والفقهية والسياسية. فهذه الفلسفة مبنية على أساس وصوله الى السلطة وتأسيس الدولة الإسلامية. وبصرف النظر عن الماهية الفقهية لهذه الدولة؛ فإن مجرد وصول أعضاء حزب الدعوة الى السلطة في العراق؛ يعني سيطرة الشيعة على الدولة تلقائيا؛ أيا كانت شعارات الحزب في مرحلة الدولة وممارساته. وبالتالي؛ فهو إنقلاب تاريخي في التكوين المذهبي القومي للدولة العراقية؛ والذي يبلغ عمره 1350 عاماً. فأعضاء حزب الدعوة شيعة إماميون؛ وفيهم عرب وكرد وتركمان وفرس وشبك، وبإمكان أي عضو أن يكون رئيساً للجمهورية أو للوزراء؛ وهذا هو نوع الصدمة التاريخية الذي صنع جذورها حزب الدعوة؛ منذ البدء بالتفكير بتشكيله عام 1956؛ ثم تأسيسه عام 1957؛ ثم تبلور فلسفته وايديولوجيته الإنقلابية التغييرية على يد المنظرين الأوائل؛ وفي مقدمهم السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ثم الشهيد عبد الصاحب دخيل والشهيد محمد هادي السبيتي، وصولاً الى السيد محمد حسين فضل الله والشيخ علي الكوراني والسيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشهيد عز الدين سليم والسيد هاشم الموسوي.

 إذن؛ أصول التغيير الجذري الإنقلابي في الواقع الطائفي العنصري الايديولوجي في العراق؛ يعود الى تأسيس حزب الدعوة وإنتشار فكره وتنفيذ مشروعه. وكان منظرو الدعوة يرون إن التغيير الحقيقي في العراق وإستقراره هو بتأسيس الحكم الإسلامي العادل الذي يحترم القوميات والمذاهب والأديان المشكلة للعراق، ويتعامل معها وفقاً للقواعد المتوازنة العادلة؛ التي تعطي لكل ذي حق حقه؛ وفقاً لثقله العددي وإستحقاقه الطبيعي. وهو فكر وسلوك يتعارض كلياً مع التكوين الايديولوجي والمسارات السلوكية للسلطة العراقية منذ مئات السنين.

 وفي المرحلة الفكرية التي عاشها حزب الدعوة طيلة 22 عاماً؛ نظّر كثيراً للحكم العقائدي العادل الذي ينشد تطبيقه. ولكن مرحلة المعارضة العلنية والصراع مع حكم البعث الذي إستمر من عام 1979 وحتى 2003؛ ومعايشة الحزب لواقع نشوء ومسار الدولة الإسلامية الإيرانية، ثم معايشته القريبة لتجربة حزب الله المنفتحة، وكذا إنفتاح الدعاة على واقع الديمقراطيات التقليدية في أروبا، وتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا؛ تسبب في دخول الحزب في تنظيرات جديدة؛ أسدلت الستار على كثير من أفكار ماقبل 1979.

 وحين دخل حزب الدعوة معترك السلطة دخولاً مباشراً ومفاجئاً؛ دون تحضيرات فكرية وفقهية، ودون إستعدادات سياسية وتنظيمية؛ فإن مشاكل تثبيت السلطة وأزمات إدارة الحكومة والدولة، ومقاومة المد الإرهابي المضاد؛ أخذته بعيداً عن التنظير لحل أزمات العراق حلّا علمياً حقيقياً؛ وصولاً الى بناء الدولة الإنسانية المؤمنة العادلة؛ التي نادى بها منظرو الدعوة الكبار: الشهيد السيد محمد باقر الصدر وعبد الصاحب دخيل ومحمد هادي السبيتي. وبقي الدعاة منذ وصول السيد إبراهيم الجعفري والشهيد عز الدين سليم عام 2004 الى رئاسة مجلس الحكم الإنتقالي، وحتى تشكيل السيد حيدر العبادي حكومته عام 2014؛ منشغلين بالواقع اليومي الصعب والمأزوم.

 والحقيقة إن تجاوز أوجاع تنازل السيد نوري المالكي عن ترشحه لرئاسة الوزراء ومخاضات تشكيل السيد حيدر العبادي لحكومته؛ وما كشفه الحدثان من صور ومشاهد؛ يفرض على الدعاة في مرحلة السنوات الأربع القادمة التأمل والتفكير العميق والمراجعة الحقيقية لفكر حزب الدعوة ونظريته وواقعه والعلاقات بين أجنحته، والتنظير لمبادئ الحكم والدولة؛ كما تراها نظرية الدعوة؛ وكما يفرضه الواقع العراقي الجديد وتنوعه الفكري والمذهبي والقومي، وإيجاد مقاييس ومعايير للتوازن بين ممارسة الدعوة الدينية الإسلامية، وممارسة السلطة السياسية؛ أي بين الدعوة كمنظومة دعوية تبليغية دينية، وبين الدعوة كحزب سياسي يمارس السلطة العامة؛ كيلا يرتفع منسوب السياسة وينخفض منسوب الدعوة. ويخرج هذا الجهد بصورة بحوث ذات تخصص دقيق في نظرية الدعوة وفكرها، وفي العقيدة والفقه السياسي الإسلامي والأخلاق، وفي علوم الإجتماع والقانون والسياسة والإقتصاد والإعلام.

 وأنا على يقين بأن فترة أربع سنوات من الجهد البحثي الفكري والتنظيري؛ سينتج عنه عراق مختلف متزامن مع تشكيل الحكومة العراقية في عام 2018.

التعايش الوطني والقبول بالواقع؛ قاعدتا الحل

 في جهودي البحثية الكثيرة التي طرحتها في فترة مابعد عام 2003؛ بصورة كتب ودراسات ومقالات حفرية ومحاضرات؛ لطالما اكّدت على ضرورة الإلتصاق بالواقع، والإنطلاق من الواقع في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية. وبالتالي تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر الى مشاكل العراق وأزماته؛ فها هو التغيير السلطوي قد مرّ عليه حوالي 15 عاماً دون أن تنفع شعارات الوحدة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن في معالجة مشاكل العراق وحل ازماته؛ لأن كل فريق ينظر الى العراق من زوايته، وكل مكون يريد عراقاً مفصلاً على مقاسه كما ذكرنا سابقاً. فعن أي عراق يتحدثون؟!

 وهنا؛ أجد من الضروري الإشارة الى أفكار من بحوثي السابقة؛ التي ظلّ أكثر الساسة العراقيين؛ بينهم قادة أصدقاء؛ يعدونها تنظيراً يعقد الأمور ويثير الحساسيات؛ بل وترفاً فكرياً؛ وكأنهم بذلك يريدون الإكتفاء بحقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ كي لا يرعبوا هذا الواقع؛ كما يعتقدون خطأ..

 نستند في معالجاتنا للواقع العراقي الى فرضية والى قاعدتين أساسيتين:

1- الفرضية: إن أزمات العراق ليست مميتة وقاتلة وميؤوس منها؛ بل هي أزمات مزمنة صعبة؛ بالإمكان إيجاد العلاجات والحلول لها؛ وإن كان هذه العلاجات موجعة ومرّة وخطيرة وطويلة الأمد.

2- القاعدة الأولى: قبول الزعماء السياسيين والدينيين والإجتماعيين للمكونات المذهبية والقومية في العراق بحقائق العراق الثابية، وبالوقائع الجديدة التي أفرزها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية عام 2003، والقبول بإستحقاقاتها وتبعاتها، وعدم تجاوزها والعبور عليها؛ لأن في تجاوزها إصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات. ومن هذه الحقائق:

أ‌- إن العودة الى عراق ماقبل عام 2003؛ بايديولوجيته وثقافته وسلوكياته الطائفية العنصرية بات مستحيلاً، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات الشوفينية الطائفية؛ هو جزء من هذا الماضي المؤلم الذي لا عودة اليه، وإن إجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي؛ حاله حال النازية في المانيا والشوفينية في ايطاليا والفرانكوية في إسبانبا. ومن غير الواقعية الطلب الى ذوي الضحايا المصالحة مع القتلة المصرّين على ايديولوجيتهم؛ بل ومن غير الجائز بكل المعايير الأرضية والسماوية الطلب الى القتلة والارهابيين والطائفيين الشوفينيين؛ العودة الى وضعهم السياسي والثقافي والعسكري؛ كما كانوا.

ب‌- إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة؛ بنسبها المعروفة، ومايترشح عن هذه النسب من إستحقاقات طبيعية؛ يفرضها الواقع والقانون؛ هي: الشيعة العرب (أكثر من 50% من سكان العراق)، والسنة العرب (أقل من 20%)، والسنة الكرد (حوالي 15%). وأن الشيعة بعربهم وكردهم وتركمانهم وشبكهم يشكلون أكثر من 60% من سكان العراق، أي أنهم الأكثرية السكانية المطلقة، وان الكرد ليسوا سنة وحسب؛ بل أن الكرد الشيعة تصل نسبتهم الى أكثر من 5% من نفوس العراق، وبجمع النسبتين يصل مجموع الكرد الى حوالي 20%. ويترتب على هذه عدم إستفراد الكرد السنة بإستحقاقات الكرد.

ت‌- إن السنة العرب لم يعد بإستطاعتهم إحتكار السلطة وقرار الدولة؛ كما كانوا طيلة مئات السنين. كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة الطائفية العراقية، ولم يعد الكرد متمردون كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الكرد والتركمان والشبك مواطنون من الدرجة الثالثة؛ بل بات الجميع مشاركون في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالإعتبار إستحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق.

ث‌- إن عقيدة الجيش العراقي لم تعد عقيدة طائفية عنصرية؛ هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الإعتداء على دول الجوار.

ج‌- إن المناهج التعليمية؛ ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية؛ لم تعد تكتب وفقاً للبنية الطائفية والعنصرية للسلطة العراقية السابقة؛ بل وفقاً لآلية علمية، وآلية التوازن بين التوزيع المذهبي والقومي للسكان. وهو ماينطبق على وسائل إعلام الدولة والحكومة أيضاً، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة.

3- القاعدة الثانية: إستبدال المفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة؛ بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق؛ وفي مقدمها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي. وأول هذه المفاهيم؛ مفهوم الوحدة الوطنية، وتقريبه من مفهوم التعايش المشترك؛ لأن مفهوم الوحدة الوطنية مفهوم ضبابي و عائم وملغوم ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق يفسره بأنه الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة الأحادية الايديولوجيا.. الشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن؛ كما هو الممكن في البلدان التي لاتعاني من التركيبة القومية والمذهبية السكانية التي لايحسد عليها العراق. ومفهوم الوحدة الوطنية بدلالاته الموروثة من النظام السابق؛ شبيه بمفهوم وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين الى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائما؛ ففي ظل شعار الوحدة الوطنية قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي. بل أثبت شعار الوحدة الوطنية خلال مرحلة مابعد عام 2003 أنه شعار نظري و غير عملي؛ إذ أنه لم يحقق وحدة واقعية بين أبناء الوطن الواحد.

 أما شعار التعايش الوطني فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق؛ حتى وإن ترشح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الإتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو ربما إنفصال إقليم كردستان، أو إستحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافية الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه.

 وهذا هو ديدن الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة؛ الذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة؛ ولكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وإنسجام.

وعليه؛ يكون التطبيق الواقعي لمفهوم التعايش المشترك في العراق التعددي الجديد؛ متمثلاً بما يلي:

أ‌- تعديل الدستور تعديلأ شاملاً؛ يشمل الجانبين الفني والمادي، ويضع خاتمة لكل الثغرات التي تسببت طيلة الفترة الماضية بتعميق الخلافات السياسية بين المكونات العراقية والفرقاء السياسيين.

ب‌- تغيير النظام السياسي البرلماني الحالي الى النظام الرئاسي- البرلماني؛ على غرار النظام السياسي الفرنسي أو المصري. فيكون هناك رئيس جمهورية منتخباَ إنتخاباً مباشراً من قبل الشعب؛ يتمتع بصلاحيات تنفيذية يحددها الدستور، ويكون القائد العام للقوات المسلحة في الوقت نفسه. كما يكون هناك برلمان منتخباً شعبياً. ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب بإختيار مرشح الكتلة النيابية الأكبر التي يحدد الدستور مواصفاتها بدقة؛ ليكون رئيساً للوزراء؛ بعد التصويت على كابينته في مجلس النواب. وفي هذا النظام تكمن فلسفة التعايش الحقيقي بين مكونات الشعب العراقي.

ت‌- العمل بمقتضى ماتفرضه الأنظمة الديمقراطية من وجود حكومة منسجمة سياسياً، ووجود معارضة داخل البرلمان وخارجه. ويتم تشكيل الحكومة المنسجمة سياسياً والتي تحظى بأغلبية برلمانية؛ من جماعات وأعضاء يمثلون التنوع العراقي؛ أي حكومة أغلبية؛ فيها تمثيل واقعي متوازن للعرب والكرد والتركمان والشبك؛ بشيعتهم وسنتهم، فضلاً عن الأقليات الدينية القومية. وتذعن هذه المنظومة الحكومية الى حقائق الديمغرافيا العراقية في نوع المشاركة وحجمها. وينطلق تشكيل هذه الحكومة من نقطة تشكيل تيارات منسجمة سياسياً؛ تتصدرها أحزاب تنتمي الى الأكثرية السكانية، وينضوي تحتها جماعات وأفراد من كل الطوائف والقوميات، وتدخل الإنتخابات كقوائم وطنية وليس قوائم مذهبية أو قومية. أما الإئتلافات والأحزاب التي لاتحقق الأغلبية؛ فإنها تبقى في المعارضة؛ وإن زعم بعضها إنه يمثل مكون معين.

ث‌- تقنين واقع دولة التعددية القومية والمذهبية والجغرافية؛ التي تحقق التعايش المشترك بين المختلفين؛ على قاعدة قناعتهم بهذا العيش المشترك؛ من خلال الدولة العادلة الإنسانية.

ج‌- إعطاء المحافظات الشيعية الثمان حقها في إستعادة توازنها النفسي والإجتماعي والسياسي والعمراني؛ وفقاً لنسبة الإرباك الذي تسبب فيه ظلم النظام البعثي السابق لها، وأخذ إستحقاقاتها من المناصب المركزية، ومن الثروات والتعليم والإعمار والبنى التحتية؛ وفقاً لما تكتنزه أرضها من ثروات طبيعية، ووفقاً لحجمها السكاني. كما إن من حق المحافظات السنية الثلاث إستعادة توازنها واخذ إستحقاقها من البناء والثروات والمناصب؛ وفقاً لحجم الدمار الذي لحق بها جراء عبث الجماعات الإرهابية فيها بعد 2003، ووفقا لحجمها السكاني وماتتمتع به من ثروات. بل أن من حق أية محافظة أو مجموعة محافظات؛ تشكيل إقليم؛ وفقاً لما نص عليه الدستور. أما إقليم كردستان الذي توحّدت فيه المحافظات الكردية الثلاث؛ فإن من حقه العمل وفقاً لآلية تقرير المصير؛ وصولاً الى إقامة دولة مستقلة؛ إن أراد مواطنوه؛ لأنه حق يكفله القانون الدولي. ولو بادر أي إقليم أو مكون قومي وديني ومذهبي الى إجراءات قانونية ودستورية تتعلق بشكل العلاقة بالحكومة المركزية؛ فإن الأخيرة ليس من حقها إجبار ذلك الإقليم أو المكون على العمل وفق إرادتها السياسية.

(المقال القادم: إنشقاق حزب الدعوة والحرب الأهلية في العراق)

[email protected]

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 25/آيلول/2014 - 29/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م