المسؤوليات المجتمعية للفرد

في منظومة الفكر الإسلامي

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

 

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [1]).

المجاميع الأربعة:

المجموعة الأولى: في إتجاهات المسؤولية المجتمعية، وهي التي تبتدئ من الفرد، وتتضمن صوراً أربعة:

الصورة الأولى: التي يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد إلى الفرد أو

للأفراد.

الصورة الثانية: يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد إلى الجماعات بما هي جماعات.

الصورة الثالثة: يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد إلى الجميع، أي للشعب كله وللأمة كلها.

الصورة الرابعة: يكون اتجاه المسؤولية فيها من الفرد إلى لدولة.

١- مسؤولية الأفراد تجاه الأشخاص:

الصورة الأولى: هي الصورة المعهودة والتي تتداول بالبحث عادة، فالفرد مسؤول أن يزور جاره وأن يعود صديقه وأن يصل رحمه، أن يصل الأب، والأخ، وابن الأعم، وهكذا، فهذه الصورة هي الصورة المعهودة، والتي يبدأ فيها اتجاه المسؤولية من الفرد، والأسهم فيها باتجاه الأفراد واتجاه أصغر لبنة في بناء المجتمع وهي العائلة، يقول تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا‚[2]

۲- مسؤولية الأفراد تجاه الجماعات الأخرى:

والصورة الثانية: هي للأسف مما لا يلتفت إليها عادة، أو قليلاً ما يلتفت إليها، وهي التي يكون فيها اتجاه المسؤولية من الفرد إلى الجماعات[3]، ففي رحاب الوطن توجد هنالك مساجد كثيرة، وحسينيات، ونقابات واتحادات وأحزاب ومنظمات، وهنالك مختلف أنواع مؤسسات المجتمع المدني، والأفراد عادة عندما يكونون أعضاء في تجمع أو هيئة أو حسينية أو مكتبة أو نادي شبابي وأي تنظيم آخر، يحسون بالمسؤولية تجاهه، فإذا حدثت مشكلة ما فإنهم يحسون أن عليهم أن يساهموا في حلها، كما نجد أن كل فرد يحاول أن يسدد أو يرشِّد المسيرة قدر المستطاع، لكن الأفراد بالنسبة إلى التجمعات الأخرى، التي ليسوا أعضاءً فيها عادة لا يحسون بالمسؤولية، وهذا مما يخالف عموم المسؤولية المشار إليها في هذه الآية القرآنية الشريفة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فإنه لا فرق، سواء أكان الفرد عضواً في تجمع أم لم يكن، فهو مسؤول تجاهه.

وكمثال على ذلك، ما لو حدثت مشكلة في الناحية الاقتصادية وتعرضت هذه الهيئة أو هذا التجمع لضغط مالي أو إفلاس، فإن الشخص الذي هو عضو في هذه الهيئة أو هذا المسجد أو هذه الحسينية سيتصدى للحل، وسيكون نشيطاً، لكن لو حدثت المشكلة في تجمع آخر يعد منافساً له فإننا نجد نفس هذا الشخص يرى نفسه غير ملزم تجاهه، ويقول عندها أن لا وجود لعقد اجتماعي بيني وبينهم، وأن عقده كان فقط بينه وبين نقابته، مع اتحاد الأطباء أو اتحاد الصحفيين مثلاً، الذي هو عضو فيه، أو المسجد أو العشيرة.

وكذلك إذا حصل نزاع في عشيرة أخرى، فإنه سيقول أن لا رابطة بينه وبين تلك العشيرة الأخرى، فلا مسؤولية عليه.

وكذلك إذا حصلت مشكلة في بلدته، فهو يرى نفسه مسؤولاً تجاهها، ولكن إذا حدثت المشكلة في بلدة أخرى فهو لا يحس بالمسؤولية تجاهها.

هذه الطريقة من التفكير تعدّ من وجهة نظر إسلامية طريقة مدانة، وطريقة غير صحيحة؛ ذلك أن الإنسان في بحث اتجاهات المسؤولية- هو كفرد- مسؤول تجاه الأفراد أولاً، وهو كفرد مسؤول تجاه التجمعات ثانياً، فأي تجمع في البلد، إنسانياً كان أو دينياً، هو مسؤول تجاهه، حيث إنه (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

 إن الأساس والبنية التحتية والمنظور العام هو في المسؤولية المتقابلة والمتشابكة والمتعددة الاتجاهات، تجاه كافة مصاديق ومفردات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني، فإذا عاش كل الأفراد بهذه الروح فستختلف الحالة تماماً، وسنكون حقاً مصداقاً لـ(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وسنجد حينئذٍ مثلاً إنه لو حدث من الناحية الإدارية ضعف في إحدى المؤسسات في حوزة أخرى أو في كلية أخرى، أو في مدرسة أخرى، أوفي مكتبة أخرى، أو في تنظيم آخر، فإن الكل سيهبّون للنجدة، كل واحد بشكل ما، فقد يكتب رسالة يضمنها بعض المقترحات ويبعثها لتلك الجهة، أوقد يلتقي بالمسؤول أو قد يبعث شخصاً، أو قد يكتب دراسة حول هذا الموضوع، وهنالك ألوف من الطرق الأخرى.

3- مسؤولية الأفراد تجاه (جميع) أفراد الأمة:

الصورة الثالثة: وهي اتجاه المسؤولية من الفرد إلى الجميع، ومثاله الواضح ما إذا تعرضت البلاد بأجمعها لهجوم أجنبي كاسح، فسيكون الفرد مسؤولاً تجاه الجميع، وكل شخص سيكون كجندي تحت الطلب.

والغريب: إن (الأفراد) يمتلكون حساً مرهفاً وموقفاً موحداً تجاه (الهجوم الأجنبي العسكري) وتجدهم جميعاً يهبون متكاتفين متعاونين لدحر الأجنبي، هذا بعضلاته وذاك بماله والآخر بإعلامه وقلمه، وكمثال على ذلك الاستعمار الغربي أو الشرقي، الذي داهم بلادنا واحتلها؛ إذ نجد أن كل فرد يحس بالمسؤولية في مقابل إسرائيل أو أمريكا، أو أي دولة أخرى تحتل بلداً إسلامياً، أو بلداً من بلاد العالم، بشكل هجوم مسلح، فكل فرد عند هذا الشكل من الغزو يحس بالمسؤولية تجاه الوطن كله، بخلاف الأشكال الأخرى من الغزو.

مسؤولية الفرد تجاه الغزو الأخلاقي:

نرى في حالة الشكل الآخر من الهجوم المذهل، وهو الهجوم الأخلاقي عبر الفضائيات الفاسدة المفسدة والمنحدرة، وعبر شبكة الإنترنيت وغيرها، نجد الأمر بالعكس تماماً؛ إذ نجد الأفراد مفككين، متناثرين، مشلولين، لا يجمعهم جامع، بل نجد أكثرهم لا يهتم بما يتعرض له سائر الأفراد، من ضياع وانحلال وانحراف، بل إن أهمّه أمر فهو حفظ نفسه أو عائلته أو بعض أصدقائه على أفضل الفروض، ولكن أين هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه كافة أبناء الوطن؟ وأين هو التخطيط الموحد؟ وأين هو العمل المشترك؟ ألم يقل الله جل اسمه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَی البِرِّ وَالتَّقوَیٰ).

ولنضرب لذلك مثلاً: فإن بعض الفضائيات تبث نوعاً من المسلسلات والأفلام، التي قد تحطم مئات الألوف من العوائل، وتزلزل البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وهذا خطر يهدد البلاد كلها؛ إذ تقول الاحصاءات أن بعض المسلسلات الفاسدة قد يصل عدد مشاهديها إلى حوالي ۸۰ مليون فرداً، وهي تفسد الكثير من العوائل، وهذا هجوم غير عسكري، لكنه أخطر من الهجوم العسكري، كونه هجوماً أخلاقياً يحطم العوائل في بحر المجتمع.

ولذا نجد أن نسبة الطلاق في إحدى البلاد العربية وصلت قبل عدة سنوات إلى حوالي 40٪، وأما هذه السنة فقد بلغت نسبة الطلاق في هذا البلد العربي الإسلامي، ذي الأكثرية المطلقة المسلمة حوالي ٦۲٪، وهو رقم مذهل، وما ذلك إلا نتيجة لتأثير هذه الفضائيات الفاسدة، والشبكة العنكبوتية، والأقراص المدمجة المتضمنة أشياء وأشياء، وليس ذلك إلا نتاج الجامعات ونظامها، والأسواق وأسلوبها، والشركات وكيفية خلطها أو دمجها بين الرجال والنساء، حيث يضعونهم في مكان واحد: في مكتب واحد، وفضاء واحد، وبناء واحد، وهو طريق يفتح الأبواب على مصراعيه للفساد.

إن الآية الشريفة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) تكشف عن شمولية المسؤولية، وأن كل فرد مسؤول عن كل الوطن الإسلامي، وعن كل الناس؛ لأن هذه البرامج المفسدة تحطم البشرية بما هي بشرية.

وعلى ضوء الآية القرآنية الكريمة، على العوائل كافة أن تتصدى بكل قوة للفضائيات والإذاعات الفاسدة، ولشركات الإنتاج الفني الفاضحة ونظائرها، وذلك باتباع الطرق التالیة:

١- أن ترفع العوائل شكوى قانونية رسمية لدى الأمم المتحدة، ولدى دولتهم، ولدى تلك الدولة التي تبث عبرها تلك الفضائية. وكما أنه إذا تعرض المنزل للسرقة فإنه يجب أن يشتكي المتضرر، كذلك يجب أن يكون الموقف تجاه هذه الفضائيات التي تقوم بسرقة الإيمان والأخلاق والفضيلة، وتحطم البنية الأساسية في المجتمع.

۲- أن يقاطعها الناس ويقاطعوا كل من يعمل بها.

۳- أن يبعث الناس بملايين الرسائل الإلكترونية عبر البريد الإلكتروني، احتجاجاً واعتراضاً إلى نفس هذه الفضائيات والقائمين عليها، ولدولها وللأقمار التي تبث عليها وللجهات التي تمولها.

4- كما يجب عليهم القيام بمظاهرات سلمية واعتصامات أمام مقارّ تلك الفضائيات أو الإذاعات.

فإذا قامت العوائل بكل ذلك فسوف تغلق تلك الفضائيات الفاسدة المفسدة، ولن تتجرأ بعدها على مواصلة مسيرة الافساد.

إن مكافحة الفضائيات الفاسدة والمفسدة والأفلام والبرامج غير الأخلاقية، التي تغزو البلاد الإسلامية بأكملها، وهي لا تزال تتطور يوماً بعد يوم مع الأسف الشديد، هي مسؤولية كل إنسان؛ لأنها تتجاوز مسؤوليته الشخصية تجاه ذويه وخاصته، كونها فتنة أخلاقية عامة، وعلى كل إنسان أن يتصدى لها.

 4- مسؤولية الأفراد تجاه الدولة:

أما الصورة الرابعة: فهي التي يكون الاتجاه فيها من الفرد للدولة، وإن من الغريب جداً أن نجد حالة عامة من اللامبالاة في كافة الدول الإسلامية تجاه قرارات الدولة، فالدولة تقرر وتشرّع، وتسن عبر البرلمان القوانين، وتجري معاهدات دولية وغير دولية، والناس غائبون عن كل ذلك، وأكثرهم لا يعرفون ما يحدث، وأما من يعرف فإنه – غالباً - لا يتصدى لعمل حقيقي ميداني، أو حتّى لكتابة رسائل احتجاج أو مقالات أو دراسات، متذرعاً بأنه لا يرى فائدة ترجى منها، وسیكون الناتج من ذلك كله أن تتحول الدولة إلى دولة مستبدة، أو انها إذا كانت مستبدة أصلاً فانها ستزداد استبداداً.

ولنعرض القصة المعبّرة التالية: يقال: كان هناك شيخ عشيرة، وكان الناس يطلقون له هتافات التأييد ويقدرونه، فقال له أحد المستشارين، إنَّ هذا الحب وهذا التقدير هو صوري ومظهري وشكلي وليس حقيقياً، فقال له: كلا، بل الناس يحبونني حقيقاً.

فقال المستشار: إن الطريقة سهلة لكشف حقيقة ذلك، لنصنع خزاناً كبيراً ونضعه في وسط هذه المنطقة، في قرية أو في ساحة من الساحات، بعد ذلك نقول للناس إن كل من يحب شيخ العشيرة عليه أن يأتي إلى الخزان في منتصف الليل، حيث لا أحد والوقت متسع طوال الشهر المقبل، وعليه أن يصب فيه كيلوغراماً من العسل، فسيفعل ذلك من يحب شيخ العشيرة فقط. تصور الشيخ ان الجميع سيفعلون ذلك بملء إرادتهم ودون رقابة أو حساب، وبعد أن انقضت مهلة الشهر وإذا بالخزان فارغ تماماً؛ لأن الجميع تصوروا أن لا فائدة من وضع العسل في الخزان سراً، كما تصوروا ان الآخرين سيضعون العسل، ولا يتبين مقدار الفرق.. وهكذا كان.. كل واحد فكر بهذه الطريقة، وإذا الخزان فارغ! هل هذه قصة حقيقية أم إنها قصة رمزية؟ لا يهم ذلك إنما المهم إنها قصة تحدث كل يوم في مختلف بقاع الأرض، وإليكم إحدى تجسيدات هذه القصة العملية في بلادنا، والتي كشفت عن ظاهرة عامة:

منذ مدة وجيزة في إحدى البلاد الإسلامية، كان الكثير من الناس يتكلمون حول بعض ما يدور خلف الكواليس في الدولة[4]، أو بعض القوانين والقرارات الغريبة[5]، التي ينبغي أن يتصدى لها الناس، كل واحد كان يسألني عن فائدة عمل الفرد الواحد! قلت لهم: عندما يفكر الجميع بهذه الطريقة فالنتيجة ستكون مثل الذي حصل في خزان العسل، أما إذا فكر الجميع أن يصنع شيئاً، كأن يدعو لمظاهرة ويشارك في اعتصام أو يكتب مقالة أو دراسة أو يتواصل مع سائر الجهات، فالدولة لا تتجرأ عندئذٍ على أن تنتهك حرمات الناس، وعندئذ ستجد نفسها مجبرة على إنجاز مهامها، مثلاً: إعمار سامراء فوراً، وليس بتراخ ولفترة طويلة، أو لإعمار البقيع فوراً، أو لتوزيع الأراضي على الناس بالمجان[6] فإذا أحسّ كل شيعي وكلّ مسلم، وكلّ موالٍ لأهل البيت (عليهم السلام) بأنه مسؤول؛ لأن الله سيحاسبه وهو في قبره، سواء أدى الآخرون أدوارهم ام لم يفعلوا، عندها ستكون الأحوال بخير.

وعليه، فإن الصورة الرابعة في هذه المجموعة، هي اتجاه المسؤولية من الأفراد إلى الدولة، وهذه هي الصور الأربعة للمجموعة الأولى من اتجاهات المسؤولية للأفراد، تجاه الفرد والجماعات والمجتمع والدولة.

المسؤوليات المجتمعية للفرد في ضوء الروايات الشريفة:

تضع الروايات الآتية الأساس الأخلاقي والشرعي لهذه المسؤولية متعددة الأبعاد، وإن بعضها إلزامي وبعضها غير إلزامي، وقد يكون اقتضائياً أولا اقتضائياً، فقد ورد في الرواية الموجودة في الكافي الشريف، عن أبان بن تغلب، قال سألت أبا عبد الله(عليه السلام) حق المؤمن على المؤمن، وكل حق فإنه يستتبع مسؤولية الشخص تجاه كل شخص، فقال (عليه السلام): (حق المؤمن على المؤمن أعظم من ذلك)، يعني أعظم من الذي تتوهمه، مثلاً (لو حدثتكم لكفرتم)، يعني لكفرتم بهذا الكلام، مع إنه يؤمن بالأئمة (عليهم السلام)، كقادة للبشرية، ويؤمن بأنهم معصومون وأئمة، إذا كان شيعياً، أو يؤمن بأنهم من قمم البشرية، إذا كان غير شيعي، ولكن مع ذلك، فالإمام يقول: لو حدثتك بواقع الموضوع والأجر العظيم لكفرت.

(السرور) المتجسد في عالم الآخرة:

الإمام (عليه السلام) يذكر في الرواية نقطة هامة جداً، وهي (إن المؤمن إذا خرج من قبره، خرج معه مثالٌ من قبره يقول له: أبشر بالكرامة من الله والسرور، فيقول له بشرك الله بخير).

ولكي تتضح الصورة جيداً، تصوروا شخصاً يسير في الصحراء الموحشة لوحده وقد ضل طريقه، فإذا التقى بشخص يعرف مجاهيل الصحراء فسيفرحه ذلك، وسيساعده على مواجهة الأخطار، وإن صحراء المحشر هي أعظم وأكبر وأخطر بكثير من صحاري الدنيا، فكم يفرح المؤمن لو جاء معه من يشجعه ويشد من أزره (فيقول له بشرك الله بخير، قال: ثم يمضي معه يبشره بمثل ما قال) أي إنه يؤكد عليه الكلام ويطيب خاطره، كما أن لنا أن نتصور الناس بصحراء، وإذا ثعبان أو سبع كاسر يريد أن يهاجمهم، فهذا الإنسان هو دليل موجود إلى جوارنا لنحس بالإطمئنان والأمن؛ لأن بيده سهاماً يرمي بها ذلك الأسد أو الثعبان.

إن المهاجرين الذين يهاجرون إلى بلد آخر لطلب اللجوء أو غيره، قد جربوا هذه القضية؛ إذ يمكن أن يسأل سؤالاً فيخطأ في الإجابة فيرفضون طلبه، أما إذا كان في جواره خبير يرشده ويوضح له فإنه سيحس بالطمأنينة، وعموماً فإن المرافق الخبير يعد نعم السند والعون للإنسان، وإذا ما مر بمتاعب قال له إن هذا ليس لك، وإذا مر بخير قال هذا لك، كما لو بشرك الخبير بأنك بعد شهر ستشفى من هذا المرض، أو ستربح مليون دينار أو دولار مثلاً، ألا يؤثر ذلك على معنوياتك؟

(فلا يزال معه يُؤمِنه مما يخاف، ويبشره بما يحب حتى يقف معه بين يدي الله عز وجل، فإذا أمر به إلى الجنة قال له المثال: أبشر فإن الله عز وجل قد أمر بك إلى الجنة، فيقول له: من أنت يرحمك الله) لقد كان نعم الصديق طوال المسيرة التي استمرت ألوف السنين (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) ولقد كان طوال هذه الفترة كمثل من يخدم الآخر مجاناً في أصعب الظروف وأحلك الأوضاع في منطقة خطرة، ألا يحس الفرد عندئذٍ أنه مدين له بشكل غريب؟ إلى أن قال: (فيقول: أنا السرور الذي كنت تدخله على أخوانك في الدنيا). وذلك مثل مَن عليه دين فتقضي دينه وتفرحه، أو شخص مقبل على الزواج فتتدخل لإنجاح أمر زواجه، أو شخص ملقى في السجن ظلماً فتساعد لإخراجه من السجن، أو نزاع بين أخوين تصلح بينهما، وهكذا من مختلف الأنشطة والخدمات، التي تكشف عن إحساس الفرد بعمق المسؤولية تجاه الناس.

والحاصل: إن هذا المنجي الغيبي هو السرور الذي كنت تدخله على إخوانك في الدنيا، وقد تجسد(السرور) في هذا المنقذ فيقول له: أنا خلقت منه لأبشرك وأونس وحشتك!!

 والبحث طويل في هذا الحقل، وتجدون هذه الرواية ونظائرها في كتاب وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، وفي كتاب(العشرة) من بحار الأنوار، وكتاب (الفضيلة الإسلامية) وغيرها.

وعليه، فإن المجتمع عندما ننظر إليه من حيث اتجاهات العلاقة بين مكوناته، ومن خلال اتجاه المسؤولية، من قبل بعض الأفراد لبعض، وبعض الجماعات لبعض وغير ذلك، فإن الصور التي ستتولد عن ذلك كله، ستكون ست عشرة صورة، في أربع مجاميع، في كل مجموعة أربع من الصور، وإن الصور الأربع الأولى هي اتجاه العلاقة أو اتجاه المسؤولية التي تبدأ من الفرد باتجاه الأفراد كآحاد أولاً، وباتجاه المجاميع كمؤسسات ثانياً، وباتجاه عامة الناس جميعاً ثالثاً، وباتجاه الدولة باعتبارها بؤرة تركيز كافة القدرات، أو الكثير من القدرات رابعاً.

مجتمع (التنافس الإيجابي):

إن الرواية الحكمية التالية تشير إلى واحدة من أهم القواعد الباعثة على ترشيد وتطوير مؤسسات المجتمع الإيماني، وتكريس الإحساس بالمسؤولية، كأفراد وكجماعات وكمجموع أيضاً، وقد رواها السيد الوالد في كتاب)الفضيلة الإسلامية(،عن بحار الأنوار قال الإمام الصادق((عليه السلام) تنافسوا، في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله به ملكين واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته).

 ونلاحظ هنا في الرواية مدى روعة كلمة (تنافسوا) فلو كان على شخص دَين مثلاً فقد يذهب أحدهم ليسدد دينه، وما أقل الناس من هذا القبيل، وقد (يتنافس) الأفراد - أصدقاء وغيرهم - على ذلك بمعنى أن أسرع وأبادر لكي أقضي دينه، وأن يسارع الآخر ويبادر، وذاك الثالث أيضاً يحاول أن يسبقنا معاً.. وهكذا.. وإذا المجتمع كله يصبح في حالة تنافس على الخير.. وعندئذٍ ثقوا تماماً إنه سوف لا يُرى فقير أو شخص عاطل عن العمل أبداً.

إذا تنافسنا كأفراد وكمؤسسات في توفير فرص العمل للعاطلين، وإذا تنافست الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني، والناس معهما تنافسوا لتوفير فرص العمل للعاطلين، فهل يبقى عندئذٍ عاطل، أو محروم، أو مظلوم؟

وكذلك إذا تنافسنا لإلغاء التشريعات الكابتة للحريات، وإذا تنافسنا في تكفل الأيتام والمساكين، الآن في أفغانستان والعراق واليمن وأفريقيا، هنالك الكثير من الأيتام، وكذلك في سائر الدول الإسلامية، فإذا تنافس الناس في تكفل الأيتام فهل يبقى يتيم بدون قيّم، وبدون راع، وبدون مهتم بشؤونه؟ وإذا عملت مجتمعاتنا بهذه الرواية وحاولت اتخاذ (التنافس في المعروف) منهجاً في الحياة، ألا يكون هذا المجتمع المدني قمة القمة؟! نعم، إنه سيكون بالفعل مجتمعاً إيمانياً مزدهراً متطوراً مستقراً، بل سيكون المظهر للمدينة الفاضلة.

(تنافسوا في المعروف لأخوانكم) يعني فيما يعني أن أتنافس مع بقية الناس لكي أثقف الناس، وحينئذٍ لن يبقى أميّ في القراءة والكتابة، ولا أميّ في المسائل الشرعية، ولا أميّ في الفكر والثقافة، بل ولا أمي في السياسة والاقتصاد والإدارة! وكذلك الحال إذا تنافس الناس في إغناء الفقراء، وإذا تنافس الناس في تشغيل العاطلین عن العمل، وإذا تنافس الناس في تأسيس صناديق الاقراض الخيري مثلاً، وإذا تنافسوا في تأسيس المستوصفات والمستشفيات وغير ذلك.

فقوله:(عليه السلام) (تنافسوا في المعروف لإخوانكم) تشكِّل الإطار العام، والبنية التحتية والمنطلق الأخلاقي، الذي يؤسس لمجتمع مدني متطور إيماني مزدهر متكامل حقيقي.

نعم، ولكن ذلك التنافس بإطاره الواسع الشامل كمّياً وكيفياً، وفي كلتا الجهتين (فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل به الله عز وجل ملكين) لنلاحظ لطف الله، وهذا يعني أنه سيتواجد مليارات من الملائكة أو أكثر- على حسب التعداد- موكلين بالذين يقضون حوائج الناس (أحدهم عن يمينه وآخر عن شماله يستغفران له ربه) ولعل الفرق بين استغفار الإنسان لذنبه واستغفار الملائكة له، في أن استغفاره لنفسه مشروط بشروط الاستغفار الحقيقي، وهي الشروط الستة التي ذكرها أمير المؤمنين(عليه السلام) لكن استغفار الملائكة له غير مشروط، فإذا استغفرت الملائكة له يغفر الله له، خاصة إن الملكين بأمر الله يستغفران له ربه، فتأمل. (ويدعوان بقضاء حاجته) ذلك أن له أيضاً حاجاته، فإذا مشى في حاجات الناس يسهل الله حاجته.

ثم قال الإمام الصادق:(عليه السلام) (والله لرسول الله (صلى الله عليه وآله) اسرُّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة) ولعمري أن ذلك يكفي أجراً - وأي أجر! - على قضاء حوائج الناس أن تدخل السرور على قلب سيد الرسل وحبيب إله العالمين! ولنتصور – كمثال - أنه لو كان أحدهم مسجوناً ظلماً، ومحكوماً عليه بالسجن لعشر سنوات، مثلاً، أو فقيراً لشدة فقره لا يقدر أن يعيل عياله، أو ما أشبه ذلك، فالإنسان لو نفّس كربته وأخرجه من السجن أو منحه ما يغنيه فأية فرحة عظيمة ستملأ قلب ذلك السجين أو الفقير! إن الإمام الصادق يقول: إن رسول الله2 (اشد فرحاً) من صاحب الحاجة، وهذا يعني أيضاً إشراف رسول الله على عالم الإمكان.

والحاصل: إن أي مؤمن قضى حاجة لأي مؤمن، فإن الملائكة أو غيرها[7] تنقل الخبر فوراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو في ذلك العالم سيسر وأي سرور إذا أدخلت السرور على قلب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأي بركة إلهية ستشملك، (والله لرسول الله(صلى الله عليه وآله) أسرّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة).

وفي رواية أخرى لا تقل روعة عن تلك الرواية:(ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تعالى عليّ ثوابك) فالله سيتكفل ثوابه، والله سبحانه وتعالى جواد كريم فكم سيعطي؟ ولنلاحظ إنه إذا كان أحدهم يمتلك عشرة دنانير، فقال أنا أثيبك، فكم سيعطيه؟ لكنه إذا كان يمتلك ملياراً فقال أنا أثيبك، فكم ستكون العطية(إذا كان جواداً كريماً؟) فكيف بالله سبحانه وتعالى، وكل شيء بيده (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن) فيخلق بـ(كن) إلى ما شاء الله من العطايا والمنح والهبات (عليّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة).

وهناك رواية أخرى ذات دلالة بالغة أيضاً، فقد ورد في رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من طاف بهذا البيت اسبوعاً كتب الله عز وجل له ستة آلاف حسنة، ومحى عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة) إن هذا شيء لا يتصور حقيقة (حتى إذا كان عند الملتزم فتح له سبع أبواب من الجنة) يقول الراوي: قلت للإمام (عليه السلام): (جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف)، قال:(نعم) إذ الله كريم،(وأخبرك بأفضل من ذلك، لقضاء حاجة المؤمن المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف) حتى بلغ عشرة يعني أن الإمام قال: (وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف وطواف) هكذا.

هذا علماً بأن قضاء حاجة المؤمن أحياناً تكون في شربة ماء، أو إهداء كساء، ومع ذلك نجد البعض قد يتكاسل عن أن يناول قدح الماء لأخيه الأصغر أو الأكبر أو لأخته، أو انَّ الزوج يتثاقل عن ان يعين زوجته في شؤون المطبخ، وما الذي يضيره لو إنه دخل للمطبخ وأعطى شيئاً لزوجته، فاكهة أو قدح ماء، أو ما أشبه ذلك، أليس إنه سيسرّ بذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ أو ليس إن الله يعطيه بذلك ثواب طواف وطواف وطواف وطواف، إلى عشر طوافات؟! وهكذا وهلم جراً.

إن الناس بأجمعهم إذا تمثلوا هذه المعاني السامية فإن وجه الأرض سيختلف، ورحمة الله سبحانه وتعالى ستمطر علينا من جديد، وسنؤسس بذلك لأكمل وأفضل وأرقى مجتمع مدني على وجه الأرض.. وهذا هو المنطلق الأخلاقي والمنطلق الشرعي، الذي يؤسس للمسؤولية الشرعية والأخلاقية المتقابلة بين أفراد المجتمع.

وهناك بعض الكلام لبعض فلاسفة الغرب حول مؤسسات المجتمع المدني يتوجب نقده في المباحث القادمة إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي

والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية

http://m-alshirazi.com

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm

.............................

 [1] سورة التوبة، الآية 71.

[2] سورة التحريم، الاية 6.

[3] ونقصد بالجماعات: الجماعات الاٴخری.

[4] من سرقات واختلاسات ورشاوی ومن اتفاقیات سریة تعقد دون ای یعرف الناس عن حقیقتها شیئاً.

[5] القوانین التي تصادر الحریات وتكمم الافواہ وتسحق الحقوق.

[6] ﴿الاٴرض للہ ولمن عمرھا﴾ كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلیست ملكاً للدولة، ولا یحق لها ان تمنع الناس من حیازة الاراضی واعمارھا، بل للكل اٴن یبادر بحیازة ما شاء من الاراضی للبناء او للزراعة وغیر ذالك، قلنا ﴿توزیع﴾ من باب التنزل لیس إلا، فراجع ﴿الفقة: الدولة الإسلامیة والفقه الاقتصاد للإمام الشیرازی﴾.

[7] أو إن له (صلى الله عليه وآله) إشرافاً مباشراً، واحاطة تامة بكل ما يجري من غير توقف على نقل الملائكة للأخبار.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 20/آيلول/2014 - 24/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م