توازن القوى المؤسسة للاستقرار

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يجري الحديث في معظم الاوقات عن توازن القوى على الصعيد الاقليمي والدولي في اطار الصراع المستديم على النفوذ والهيمنة، سياسياً وعسكرياً وحتى اقتصادياً، ويعد الخبراء تحقيق هذا المفهوم على ارض الواقع، شرطاً اساس لتوفير الامن والاستقرار. لكن لا حديث عن توازن القوى داخل حدود الوطن الواحد. وهذا ما نلاحظه في الدول المتقدمة حضارياً، حيث هناك قوة الدولة ومؤسساتها العسكرية والادارية والمخابراتية والاقتصادية وغيرها، كما هنالك ايضاً، قوى رديفة متمثلة بالمؤسسات الاكاديمية والنقابات والاتحادات المهنية، والاعلام، ومنظمات المجتمع المدني. ووجود التوازن في القوة والتأثير – الى حدٍ ما طبعاً- هو الذي يجعل تلكم البلاد آمنة من الاضطرابات السياسية والمشاحنات الطائفية والتنافس المحموم على السلطة والنفوذ. وإن وجدنا بعض الاضطرابات هنا وهناك، فانه دليل على تغوّل طرف على آخر، كما يحصل الآن في تورط بعض الدول الغربية في مستنقع الارهاب في الشرق الاوسط.

وفي بلادنا هنالك قوى عديدة على الارض لها جذورها الاجتماعية وامتداداتها وقدراتها، بيد ان الاشكالية في المنهج المؤسس للدولة التي يفترض ان تؤسس هي بدورها للاستقرار. ففي معظم بلادنا ثمة ثلاث قوى رئيسة لها القدرة الفائقة على تحريك الشارع وصنع القرار وصياغة رؤى وافكار، وهي: المؤسسة الدينية، متمثلة في الحوزات العلمية او المدارس الدينية مثل "الازهر"، والمؤسسة الاجتماعية، متمثلة بالعشائر والقبائل، والمؤسسة السياسية متمثلة بالاحزاب.

ربما لا يماري أحد في قدرات وامكانيات هذه القوى وانها أمر واقع في كثير من بلادنا، لكن في الوقت نفسه يكاد يكون ثمة إجماع على أن الواقع اليوم يعلو بآهات وويلات من هذه القوى.. والسبب ليس في ذاتها، إنما في طريقة أدائها، بمعنى أن القضية منهجية وليست فنية بسيطة. لان تسيّد قوة من هذه القوى الثلاث على الأخريين، يسبب – بالضرورة- صدمة وانكفاء ثم ردود فعل عنيفة لاثبات الذات والوجود. ولعل التجارب الماثلة امامنا خير دليل على الخطأ الفادح والقاتل الذي يرتكب بحق الشعوب والامة جمعاء عندما تكون السيادة المطلقة للمؤسسة الدينية أو للمؤسسة السياسية او حتى احياناً – وفي ظروف خاصة- للمؤسسة الاجتماعية.

لكن كيف يتحقق التوازن بين هذه القوى؟

الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الذي خبر السياسة والمجتمع ومفاصل الدولة، منذ شبابه، فانه يتخذ من العراق منطلقاً لتصحيح المفاهيم وتقويم الرؤى لتجنب الاخطاء والاستفادة من الدروس والعبر في طريق التقدم، لذا فانه سلط الضوء على ثغرة خطيرة طالما تنفذ منها الفتن الطائفية والايديولوجية والاضطرابات السياسية والاجتماعية، فدعى الى التوازن بين هذه القوى الثلاث في كتابه "من عوامل الاستقرار في العراق"، وذلك من خلال التنافس الحر والشريف على الانتاج وتقديم الافضل.. هكذا وبكل بساطة، مثل أي منشأة انتاجية تسعى للحصول على مكانة أوسع بين المستهلكين من خلال الابداع في الانتاج وتنوعه وتحسين نوعيته وغير ذلك. 

 ويذكر سماحته امثلة رائعة من كل قوة من القوة الثلاث، وكيف ان قيمة التنافس الحر والشريف أثمرت عن تكريس القوة والمنعة لكل واحدة من هذه القوى، بما يمكن القول معه، بحالة من التكاملية بين القوى الثلاث.

فالحوزة العلمية جربت بنجاح باهر التنافس داخل المؤسسة على اكثر من صعيد.. يقول سماحته: "كان التقليد موزعاً بين علماء كبار أمثال: المرحوم السيد أبو الحسن الاصبهاني، والمرحوم الشيخ ميرزا محمد حسن النائيني والمرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وغيرهم من المراجع، وكان بين هؤلاء تنافس على البر والتقوى والتقدم والتقديم.. فكان كل  واحد منهم يبني مدرسة ويربي طلبة ويهيّئ الكتب ويؤسس المكتبات وما إلى ذلك. كما أن كل واحد منهم كان يرسل المبلغين إلى أطراف البلاد ويبني المساجد والحسينيات والمدارس في مختلف المدن، لذا ازدهر العلم وتقدمت الحوزة العلمية تقدماً كبيراً، وأخذ الناس ينظرون إلى العلم والعلماء بنظر الإجلال والاحترام، وقد كتبت الكتب العلمية المفيدة في ذلك الوقت أمثال كتب الشيخ ميرزا حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني في الفقه والأصول وفي غيرهما، والحصون المنيعة للشيخ كاشف الغطاء، والغدير للشيخ عبد الحسين والذريعة للشيخ آقا بزرك الطهراني، والهدى والرحلة المدرسية وغيرهما للشيخ جواد البلاغي، والوسيلة للسيد أبو الحسن الأصفهاني إلى غيرها من الكتب العلمية المفيدة..".

ششو وربما يتذكر الآباء وكبار السن خلال احاديثهم الى الشباب، كيف ان الناس ينتظرون المشاريع الخيرية والمبادرات الانسانية وايضاً المشاريع الثقافية والفكرية من العلماء والحوزة العلمية قبل مؤسسات الدولة، مثل المكتبات والمدارس العلمية ودور النشر وبناء المساجد والحسينيات والاسهام المباشر في مكافحة ظاهرة الفقر والحرمان في المجتمع.

أما عن العشائر التي كانت يوماً من أهم وابرز القوى الفاعلة والمؤثرة في الساحة، فيتحدث عنها سماحته بغي قليل من الاسى والأسف، لاسيما عندما كانت تحمل السلاح، لكن هذا السلاح لم يكن عامل سلبي أو "ارهاب" كما يتم تصويره وتسويقه اليوم، إنما ايجابي لبعث الثقة في النفوس، لذا كانت العشائر عامل استقرار في العراق فيما مضى من الزمن، وفي تلك الظروف كانت "تتنافس فيما بينها في الزراعة والعمارة والتجارة والثقافة وتقليد المراجع واتباع علماء الدين وإقامة الشعائر وما أشبه..".

وممن يذكرهم بالاشادة في الاهتمام بهذه القوة الاجتماعية، المرجع الديني الاعلى في زمانه، السيد ابو الحسن الاصفهاني – قدس سره- الذي "أخذ بزمام العشائر بواسطة أمنائه من رجال الدين أمثال: آل الجواهري، وآل بحر العلوم، وآل الشيخ راضي، وآل الجزائري، وغيرهم، وبذلك سبّب للحوزات العلمية وللعتبات المقدسة القوة وللزائرين الرفاه وللعراق عامة الاستقرار والاستقامة حتى كانت الحكومات تهابه وتخشاه لما يستند إليه من القدرة العشائرية المتزايدة، حيث كانت العشائر المسلحة والكبيرة سند العلماء وسند الحوزات وسند العتبات وسند المؤمنين وسند الزوار وسند الاقتصاد.. فقد فرضت قوة العشائر بقيادة العلماء حالة من التوازن بين قوة الدولة وقوة الأمة حتى جاء عبد الكريم قاسم، وفرق العشائر وجعل التضارب بين الرؤساء والمرؤوسين وخلع السلاح منهم، وقد تمكن أن يجمع من سلاح العشائر في مدة قليلة مليون قطعة في قصة معروفة..".

كذلك الاحزاب السياسية بامكانها ان تخوض التنافس فيما بينها مما ينعكس بالايجاب على السلم الاهلي والاستقرار السياسي، حيث انها تهتم بمراقبة ومتابعة أداء الحكومة، كما تتابع حاجات الناس واوضاع المجتمع بشكل عام. ويشير سماحته الى تجربة العمل الحزبي في العهد الملكي في العراق، ويعده ناجحاً الى حد ما. "..فقد كانت حكومة العراق ملكية ذات أحزاب نصف حرة، ووصل عدد الأحزاب إلى أربعة وأربعين حزباً وكانت لهذه الأحزاب الصحف والتجمعات وما إلى ذلك.. صحيح أن هذه الأحزاب لم تكن حرة، كما أنها لم تكن إسلامية، إلا أنها كانت تتنافس فيما بينها مما سبّب الاستقرار للناس وأمن البلاد نسبياً، فكل حزب كان يترصّد للحزب الآخر أي خطأ صغير حتى يريه للناس ليجلب الناس إلى نفسه، وبذلك سلمت إلى حد ما العتبات المقدسة والحوزات العلمية وسلم الزائرون وسلم الاقتصاد والاجتماع والسياسة في نطاق محدد..".

كل هذا يؤكد حقيقة ناصعة، وهي إن الديكتوريات وحالة الاستبداد بالرأي، في بلادنا، وتحديداً في العراق، إنما هي نتاج طبيعي لغياب التوازن بين هذه القوى الثلاث، مما أسفر عن انتشار ظاهرة العنف والقسوة والتطرف الديني وإبعاد المفاهيم والقيم الاخلاقية والانسانية عن حياة الناس واستبدالها بأخرى مادية بحتة تدعو لفعل كل شيء للحصول على بعض الشيء..!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 18/آيلول/2014 - 22/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م