البعض يتسقّط سراج الحرية

وبين ظهرانيه شمسها!

د. نضير الخزرجي

 

مثلي كأي مواطن محبٍّ لأهل البيت(ع) ولد في مدينة مقدسة، تتفتح مغاليق أذنه في كل آن على كلمة (الحسين)، كيف والمدينة هي كربلاء المقدسة! كيف والبيت الذي ولدت فيه كان عامراً بمجالس الحسين(ع) على طول السنة عملاً بوصية الجد الأعلى الذي أوقف ثلث أمواله للخيرات ومنها إقامة مجالس العزاء!

عوامل مساعدة كثيرة تجعل الاسم الرباعي الأحرف ينحفر في القلب ويجري مجرى الدم في العروق لمن وعى فلسفة نهضته، ولكن العبرة ليست في المنشأ، وإنما في الولاء، وهو يتطلب الاستنان بالقرآن والنبي الأكرم(ص)، وقد شهدت في المدينة المقدسة أناساً ولدوا فيها لكنهم لم يطأوا عتبته المقدسة لسنوات طوال، وعذرهم في ذلك أنّ الزيارة لا تقبل منهم، فكيف تقبل وهم قد تركوا عمود الدين وأحلّوا حرمة شهر رمضان، فهم لا يجدون في أنفسهم الطهارة الجسدية والنفسية والروحية لدخول المرقد الحسيني الشريف وهم يمرون عليه كل يوم وعلى بعد أمتار. وشهدت أيضا ونحن في الوطن وفي الغربة أناسا يخوضون الغمار من أجل زيارة المرقد الشريف ولا يأبهون لأي شيء رغم أن الموت يحيط بهم.

ليست العبرة في المنشأ، فحتى الذي لا يُحسب على الإسلام قد يرى في الحسين(ع) ورسالته الخالدة ما عميت عليه البصر والبصيرة لبعض ممن نشأ في مدينة الحسين أو يدعي وصلاً بالإسلام وبجد الحسين(ع) الرسول الأكرم محمد بن عبد الله(ص). فكم من الأسماء غير المسلمة مرّت على السمع وهي تطري الحسين(ع) بنحو أو بآخر، كشخص وصفات أو رسالة وقيم، بل ويتباهى الخطيب والكاتب والمؤلف الموالي بذكر أسماء غربية وشرقية كونها تعرضت للإمام الحسين(ع) بخير، لاعتقاده أن ذكر هذه الأسماء تعزز من كلامه ومما يعتقد أنه الصواب.

واكثر ما تبرز قبيل شهر محرم الحرام وخلاله تلكم الأسماء الأجنبية تحت عنوان (قالوا في الحسين)، حيث ينشغل المسلمون في العشرة الأولى من محرم الحرام بتذكر مصاب الإمام الحسين(ع) واستشهاده مع أهل بيته وأصحابه في كربلاء. ولكن يبقى السؤال الشابح ببصره عند معترك البحث والتوثيق، كم من هذه العبارات لها وثاقتها؟ بل وكم منها لها جدوائيتها؟

 في معظم الأحيان ينام المرء على وسادة الاسم الأجنبي دون التحقق من صلابة السرير الذي يضطجع عليه، فليس كل قول له مكانته حتى وإن قال به علم من أعلام الإنسانية، ولأن البعض يبحث عن القائل قبل القول، فإن الحقيقة تضيع في خضم الانبهار بالأجنبي كما هي طبيعة الشرقي الذي يستعظم صغير الآخر ويستصغر عظيم الأنا.

التوثيق قبل كل شيء

ولأن الحقيقة ينبغي أن تكون كالشمس واضحة لا يلبد نورها سحاب الانبهار، فإن المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي(ع) في الجزء الأول من كتاب (قالوا في الحسين) الصادر حديثا عام (2014م) عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 646 صفحة من القطع الوزيري، وضع العاطفة جانباً وتجاوز الانبهار الذي يغري العواطف والمشاعر بالقبول دون مراجعة لما قيل، وتعامل مع النصوص الأجنبية تعاملاً علمياً وتوثيقيا، ولذلك فإن القارئ للكتاب سيجد أن عدداً من الأقوال التي يتم تداولها في وسائل الإعلام أو يُطرب بها الخطباء أسماع الحاضرين ليست لها أصل أو مصدر، بالطبع فإن المؤلف لا يقطع برفضها، وإنما يناقشها من باب (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود)، فالمسؤولية العلمية تحكم عليه أن يُرجع النص الى صاحبه عبر مصدر معتبر، لأن الميدان في دائرة المعارف الحسينية هو ميدان العقل أولاً، بخاصة وإن الحسين(ع) هو شاخص بنفسه ولا يزيده الإطراء لمعاناً، وكما يقول قاضي المحكمة العليا في نيودلهي الهندوسي ياس ديو مسرا المتقاعد عام 1983م: (إن التحدث عن الحسين والتكلم عن شخصيته الفذة وكذلك التنقيب عن أحواله أشبه شيء ممن يستعين بالسراج ويفحص عن الشمس .. فمن كان بهذه المثابة من العظمة والجلال أنّى يسع البشر وصفه وبيان فضائله).

من هنا يرى المؤلف في التمهيد أن واحدة من أغراض الكتاب: (أن نلقي الضوء على آراء هؤلاء ممن لهم مكانة اجتماعية أو دينية أو سياسية لنعرف وقعه عليه السلام عندهم، وليس القصد من ذلك أن نعرفَ الامام الحسين(ع) بهؤلاء، وإنما لنؤكد على عظمة الامام الحسين(ع) حيث شغل العالم به ولازال، ومثل هذا الرصيد قلما يناله أكبر الشخصيات العالمية، ومن هنا فإن الإمام ونهضته لازالا ماثلين في جميع العهود والأمصار وتستهوي جميع الفئات من كل الأقطار).

ومن أجل سلامة التوثيق فإن العلامة الكرباسي أفرد في الكتاب فصلا سماه "ملابسات" تابع فيه عشرات المقولات وخرج بحصيلة من 15 ملابسة وقع فيها النقلة لهذه الأقوال الذين يأخذونها مأخذ المسلمات وعلى جناح العاطفة المفرطة، فتوقف عندها كثيراً باحثاً ومنقباً ومحللاً ومنتقداً، فبعض العبارات حتى وإن جاءت على لسان عالم غربي وفيها اسم الحسين(ع)، لكنها من ناحية أخرى تجانب الحقيقة تاريخيا وعقائديا، فعامل الانبهار هو الذي يجعل البعض يتناقلها دون أن يدرك الخلفيات، فيأتي الآخر ليعيد نشرها دون دراية، أو أن بعضهم يرى في النص، نثراً أو شعراً، اسم (الحسين) فيستعجل الأمر ويضفيه على الإمام الحسين(ع) دون أن يقرأ ما قبل أو ما بعد أو حتى مناسبة صدور النص النثري أو الشعري.

 من الأمثلة التي يوردها المؤلف في فصل الملابسات، هي مقولة منسوبة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ المتوفى عام 1976م يقول فيها في معرض الرد على زائريه يطلبون النصرة لقضيتهم: (عندكم الدروس وجئتم تأخذون الدروس منّا، إنها ثورة الحسين) أو قوله المنسوب إليه: (عندكم ثورة الحسين وتريدني أن أعلمك الثورة)، فالطرف الآخر قيل فيه إنه الزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري المتوفى عام 1980م أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، وقيل ثانية انه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات المتوفى عام 2004م، وثالثة الى المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد المولودة عام 1935م. ولكن لم يتوصل المؤلف الى مصدر معتبر يرجع بالنص الى مصدر صيني، ولم ترد هذه النصوص من المعنيين أنفسهم عبر كتابات أو مذكرات، حيث كانوا على قيد الحياة ولم يبق منهم إلا السيدة بوحيرد، وعلى فرض صحة النص وتعدده في مناسبات مختلفة فان الكرباسي يعتقد أنه: (من المستبعد جداً أن يكون ماو تسي تونغ قد رفع راية الإمام الحسين(ع) بهذا الشكل حتى يكررها مع كل زائريه من الثوار المسلمين العرب)، على أن النص في واقعه إن صح صدوره من الزعيم الصيني أو لم يصح، لا يتناقض من حيث المؤدى مع رسالة النهضة الحسينية كونها مدرسة لكل مناضل ومجاهد يستلهم منها الدروس، ومعظم الثورات كان الإمام الحسين ونهضته المباركة أسوتها ومشعل دربها.

ومن الملابسات في هذا المضمار وجود العشرات من المقولات يحرص البعض وبدافع العاطفة أو بدافع الترويج وعرض البضاعة على تداولها دون سند أصلا، فإن المؤلف غض النظر عن متونها دون أن يتجاهل قائليها فأورد أسماءهم فحسب.

ولأن التوثيق هو ديدن الكرباسي وليس مجرد التأليف، فإن التواضع المعرفي هي السمة الضافية على ما يتوصل إليه من حقائق أو لم يتوصل اليها بعد جهد جهيد، فهو يقر في جانبي الوجدان وعدمه، وحتى في الحالة الثانية فهو في نظري وجود بذاته، لأن البحث عن المعلومة المفترضة وعدم الوصول إليها مع بذل الجهد والوسع والخروج برأي معين، هو بحقيقة معلومة جديدة ووجود معرفي، ولهذا فحينما يورد عبارات الأعلام في الإمام الحسين(ع) يرجعه الى مصدره الأم وإلا قال رأيه بكل أمانة علمية، ولهذا نجد في هذا الكتاب عبارات من قبيل: (ولم نحصل على العبارة الرابعة والأخيرة من المقطوعة في الكتاب الأم الذي بحوزتنا)، (لم نحصل على النص الذي تحدث به ستالين، ولكن من خلال المصدر يبدو أن المؤلف قد سمع المقولة من أحد تصريحات ستالين مباشرة حيث ورد في النص: وإني لأذكر قوله. ومن هنا لم نتمكن من الحصول على النص الروسي)، (لم يكن النص الأجنبي في متناول اليد، ولازلنا نحاول الحصول عليه).

 وفي الجانب الإيجابي من الوجدان المعرفي، فإن القارئ سيجد مواضع كثيرة، أفرغ فيه المؤلف وسعه وجهده للحصول على النصوص من مصادرها الأم، فعلى سبيل المثال استدعى الأمر مع نص لصحفي فرنسي متوفى عام 1939م كتب عن الحسين(ع) أن يقوم بمخاطبة الجهة الإعلامية الفرنسية التي تشرف على اصدار مجلة "الالستراسيون" الباريسية، وطلب نسخة من ارشيف العدد الذي يعود لعام 1909م، وقد وقف المؤلف على النص الأصلي بعد مخاطبات مدفوعة الثمن.

بل ويمكن القول في هذا المجال أن المحقق الكرباسي وبعد اربعة عشر قرناً استطاع أن يحلّ لغز شخصية "رأس الجالوت" الذي طالما يرد اسمه في المناظرات التي كانت تعقد في مجالس الخلفاء والملوك منذ عهد الإسلام الأول، فعبر جهود مضنية بالرجوع الى مصادر غربية وعبرية وباستخدام مجموعة من الدلالات والعلامات والشواهد تمكن أن يستخرج اسم "رأس الجالوت"، أو أمير اليهود في بلاد الرافدين، الذي عاش فترة الإمام الحسين(ع) ومقولته المشهورة: (ما مررت في كربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان لأنا كنا نتحدث أنّ وَلَدَ نبي يُقتل بذلك المكان فكنت أخاف، فلما قُتل الحسين أمنت، فكنت أسير ولا أركض)، وأمكنه هذا الاكتشاف العلمي أن يتبحر في المسألة ليقف على أسماء سلسلة "رأس الجالوت" كلهم والذين شاركوا في المناظرات في العصرين الأموي والعباسي، فرأس الجالوت في عهد الحسين(ع) هو: هسداي الأول بن بستان (بستاناي) بن حاناي (حانيناي) المولود في بابل سنة 24هـ (645م) والمتوفي في مسقط رأسه سنة 98هـ (717م) وقد تسلم الزعامة الدينية ليهود المهجر سنة 44هـ بعد وفاة أبيه وحتى عام 65هـ حيث تسلم القيادة ابنه اسحاق، ورأس الجالوت بستان (بستاناي) هو عديل الإمام الحسين(ع)، حيث تزوج رأس الجالوت الأميرة أيزونداد بنت يزدجرد الثالث الساساني فيما تزوج الإمام الحسين(ع) اختها شاه زنان.

بين الخالق والمخلوق

نادرة هي الشخصيات التي وردت في الأحاديث القدسية وأثنى عليها المخلوق من ملائكة وأنبياء وأئمة وفقهاء وعلماء وفلاسفة ورؤساء وشخصيات من طبقات ومشارب مختلفة، والإمام الحسين(ع) من هذه الندرة النادرة، من هنا فإن العلامة الكرباسي في تعامله مع القائلين في الإمام الحسين قسّم الكتاب بعد التمهيد وبيان الملابسات، الى فصول خمسة:

 الأول: تناول الأقوال من رب العزة جلّ جلاله الى الإمام الثاني عشر محمد المهدي ابن الحسن العسكري، مروراً بجبرائيل(ع) والنبي الأكرم(ص) وفاطمة والإمام علي(ع) والإمام الحسن(ع) والإمام الحسين(ع) نفسه الذي قال عن نفسه: "أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر"، والتسعة المعصومين من صلبه.

الثاني: استحضر مقولات في الإمام الحسين(ع) لـ (85) علماً من أعلام الإنسانية لهم حضورهم في مجتمعاتهم على مدى أربعة عشر قرناً، وهذا الفصل في واقعه كما يقول المؤلف: (فصلاً أساساً إذ قام عليه محور كتاب "قالوا في الحسين(ع)"، حيث يتحدث عن مدى أهمية النهضة الحسينية وتأثيرها والمنهجية التي اتخذها ذلك الإمام العظيم الذي أقام الدنيا ولم يقعدها مما توسّعت أمواجها فوصلت اشعاعاتها إلى أوساط المجتمعات المختلفة في العالم على مرّ الزمان وإلى ما لا نهاية من حيث الفكر والعقيدة والتطبع والتطبيق على مدى قرون متمادية).

ولا يقتصر هذا الفصل على بيان الشخصيات ذات التأثير الإيجابي في مجتمعاتها بل يضم مقولات لأعداء الحسين(ع) ورأيهم فيه، مثل قاتل الحسين(ع) شبث بن ربعي.

الثالث: ويضم الفصل الثالث (80) مقولة في الإمام الحسين(ع) لأعلام البشرية من مسلمين وغير مسلمين، من موحدين وغير موحدين، التقوا كلهم على تقريض ثمانين جزءاً من أجزاء دائرة المعارف الحسينية، حيث ألزم الدكتور الكرباسي نفسه بأن ينهي كل جزء بمقدمة لعلم من أعلام الإنسانية ليقف القارئ على رؤية الآخر تجاه الإمام الحسين(ع) والنهضة الحسينية التي طارت آثارها في آفاق الشرق والغرب، وهذه المقدمات بترجمتها العربية توزعت على أربع كتب بواقع عشرين مقدمة لكل كتاب وفقني الله لخط حروفها بيراع المحبة والولاء، وهي بالتتابع: نزهة القلم قراءة نقدية في الموسوعة الحسينية (2010م)، أشرعة البيان قراءة موضوعية في الموسوعة الحسينية (2012م)، أجنحة المعرفة قراءة موضوعية في الموسوعة الحسينية (2014م)، وأرومة المداد قراءة موضوعية في الموسوعة الحسينية (مخطوط).

وتشكل هذه الكوكبة من الأقوال لمجموعة كبيرة تضم زعماء روحيين وزمنيين ومثقفين وأدباء وجامعيين وفلاسفة من مختلف أقطار العالم ومن قوميات وأديان ومذاهب ومعتقدات واتجاهات سياسية مختلفة، خزيناً من الرؤى والأفكار بلغات مختلفة، استطاع المؤلف أن يوظفها في مسار النهضة الحسينية الداعية الى صلاح الإنسان حاكماً ومحكوماً، ونمو الضرع والزرع، وسيادة القيم الإنسانية الفطرية الخالصة، وسلامة العلاقات الست التي طالما يؤكد عليها الفقيه الكرباسي، وهي: علاقة الإنسان بخالقة، وبنفسه، وبنظيره، وبمجتمعه، وبالدولة، وبالبيئة.

الرابع: مع أن الكتاب اهتم بالشخصيات المعروفة ذات التأثير على المجتمع بنحو أو بآخر والتي تداولت وسائل الإعلام أقوالها في الإمام الحسين(ع)، فإنه المؤلف في الفصل الرابع توسع في بيان 30 قولاً لـ: (شخصيات عبّرت عن وجهة نظرها في شخص الإمام الحسين(ع) أو نهضته من مختلف المشارب في تحريرها التأليفي أو المقالي تداولتها بعض المصنفات مما حدا بنا أن لا نهملها بعدما أوردنا نخبة من التصريحات وذلك إتماماً للفائدة، وأن احتواء كل ما قيل أو كُتب أو حُرر لا يمكن حصوله، ولكن اقتصرنا على ما شاع منها نذكرها بايجاز)، وهذا الإيجاز شمل النص نفسه وترجمة القائل، على عكس ما هو قائم في الفصل الثاني الذي تحرى فيه المؤلف كامل قول أو أقوال الشخصية المعنية في الإمام الحسين(ع) وترجمة سيرته الذاتية بشكل مفصّل وبيان خصوصياته كمزيد من التوثيق المعرفي.

الخامس: وهو فصل يخاطب القارئ بالصورة الشخصية لقائل النص الحسيني، بخاصة ونحن نعيش عصر الصورة والصوت إلى جانب النص والمتن، والقارئ يستأنس بالصورة يستحضر عبر عدسة العين النص، هذا ناهيك عن التوثيق كواحدة من الأهداف المهمة التي يبتغيها المؤلف في بيان النص والمتن، فهناك من الناس لا يستوعب وجود شخصيات غير مسلمة تتحدث عن قائد مسلم كالإمام الحسين(ع)، بل يعمد البعض الى التشكيك، لكن الصورة تدمغ المعلومة الصحيحة، على أن المؤلف نفسه قد شكك في بعض الأقوال ونسبتها وأشار إليها بكل روح رياضية في مطاوي الكتاب، فهو لا يريد أن يغري الآخرين بالجهل ببريق العاطفة، فمن اكرمه الله بالشهادة والسيادة في الأرض والسماء ليس بحاجة لثناء هذا ومديح ذاك، فالنفس البشرية بفطرتها تنجذب الى الحسين(ع) من غير استئذان.

وعن الصورة يقول المؤلف: (قد يتصور البعض أنّ إيراد الصورة من الترف الثقافي حيث لا يجد حاجة فيها مادامت مشخصات تلك الشخصيات التي يتحدث عنها موجودة، ولكن قد يغفل ما للصورة من دور في ثبت المعلومة في النفوس أولاً، وتأصيلها حيث هناك من يشكك أحياناً في وجود تلك الشخصية ثانياً، متناسياً ما للصورة من أثر في سرد التاريخ، بل هو جزء من التاريخ الذي يجب أخذه بعين الاعتبار ثالثاً).

وجاء ترتيب الصور كما في الفصول السابقة حسب الحروف الأبجدية لأصحابها، كما حرص المؤلف في الفصول السابقة بيان سبب القول وغرضه ومناسبته، لأن معرفة ذلك يعطي للقول مصداقية، فعندما يرد نص لسيخي أو هندوسي عن الإمام الحسين(ع) فيه ثناء ومديح لرسالته، قد يتساءل المرء عن الحافز الذي يدعو هذا أو ذاك في الخوض في قضية لا تمت الى دينه بصلة، ولكن حينما يقف على السبب من خلال بيان مناسبة الواقعة أن القائل، على سبيل المثال، كان مدعواً للحديث في حفل عن الإمام الحسين(ع)، أو أن المتكلم عاش في بيئة تقيم الشعائر الحسينية، أو أنه كتب في التاريخ الإسلامي الذي لابد وأن يمر على واقعة كربلاء، وغير ذلك من الأسباب، فبيان الغرض فيه جمالية التوثيق المعرفي، وهذا ما حرص عليه العلامة الكرباسي في هذا الجزء والأجزاء الأخرى من دائرة المعارف الحسينية التي بلغ المطبوع منها حتى اليوم 88 مجلداً من بين نحو 900 مجلد.

ومن محاسن الجزء الأول من كتاب "قالوا في الحسين" أن المؤلف وضع لكل عبارة عنواناً يفي بالغرض مستوحى من المتن، كما سيجد القارئ في النص العربي المترجم أكثر من نص أجنبي، فمرة يعيد النص الى اللغة الأم وثانية الى لغة مترجمة اشتهرت بين الناس وثالثة الى لغة اشتهرت بين الناطقين بها كأن يكون النص باللغة الهندوسية وشاعت ترجمته الأردوية كما شاعت ترجمته الفارسية أو الإنجليزية فيوردها جميعاً والمناظرة بينها والتحقق من سلامة الترجمة والنقل.

من داخل النص

ولما كان محور الكتاب هو نظرات الآخرين إلى الإمام الحسين(ع) والتثبت منها، ولما كان الفصل الثالث اختص بمن كتبوا مقدمة لأحد أجزاء الموسوعة الحسينية، فلم يخل هذا الجزء من مقدمة، حيث كتبت وزيرة البرامج الخاصة في كينيا، الدكتورة إيستهر موروغي ماثينجي (esther murugi mathenge) مقدمة عن الجزء الأول من كتاب "قالوا في الحسين" بعد أن اطلعت على الموسوعة بشكل عام والكتاب بشكل خاص، فكتبت باللغة السواحلية تقول: (وجدت من خلال تتبعي للموسوعة الحسينية أن الفقيه المحقق آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي حفظه الله قد انبرى ولأول مرة في تاريخ التأليف بكتابة موسوعة كبيرة في الإمام الحسين(ع) .. وهذا العدد الكبير لأجزاء الموسوعة الحسينية يدل بلا شك على عظمة شخصية الإمام الحسين(ع) الذي أصبح مهوى أفئدة كل أمة تتطلع الى الخير والصلاح والتخلص من براثن الظلم والظالمين، كما تدل على أهمية النهضة الحسينية في حياة الشعوب، فما من أمة إلا واختارت الحسين(ع) نموذجاً حيّا لها).

وأضافت الدكتورة إيستهر موروغي عضو حزب الوحدة الوطنية، المسيحية المعتقد: (ومن الطبيعي أن يكون الإمام الحسين(ع) الذي حمل شعلة الإصلاح والتغيير حاضراً في ثقافة شعوب الأرض التواقة إلى الخير والسلام، وهذا ما حمل قادة العالم من كل الأديان والجنسيات على التأسي بالإمام الحسين(ع) وتجليل نهضته المباركة ودعوة الناس إلى التأسي والاقتداء به).

وحول فحوى الكتاب الذي قدّمت عليه تقول الوزيرة الكينية: (وخلال متابعتي لهذا الجزء من هذا الباب وجدت شخصيات كبيرة ومن جنسيات مختلفة ومذاهب وأديان مختلفة أظهروا رأيهم في الإمام الحسين(ع) وأبانوا عن عقيدتهم تجاهه عليه السلام، وهذا ما يقدم الدليل تلو الآخر بأن الإمام الحسين(ع) شخصية أممية ليست خاصة بالمسلمين أو بطائفة منهم، وهو يجري في ضمير الامم كما يجري الدم في الوريد، وقد وجدت أن الشيخ الكرباسي قد وضع في الكتاب درر الأقوال وكرائمها، فالدرة والجوهرة لا يُقال فيها إلا الكلام الدر).

وأنتهي من هذه القراءة إلى ما انتهت اليه الوزيرة الكينية بالقول: هذه المرة الأولى التي أجد كتاباً فيه شرح مفصل عن المتن وأصله ومصدره، وشرح كامل لحياة الشخصية القائلة، وبذلك يكون المحقق الكرباسي قد تجاوز التكرار وأتى بما لم يأت به الآخرون، وهذا يعطي الانطباع العام بأن الموسوعة الحسينية هي في واقعها موسوعة معرفية تحقيقية قصدها توثيق المعلومة الحسينية بما يجعلها مفيدة وبمتناول القارئ والباحث والمحقق، وهو بذلك يقدم الدروس للكاتب والباحث بأهمية التوثيق والتحقيق فيما يكتب ويبحث.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/آيلول/2014 - 15/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م