التخوين.. ثمن جهاد الكلمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ليس من الغريب ان يتعرض شخص او جماعة غريبة في افكارها ورموزها، لشبهات او اتهامات بالتخوين والعمالة عندما تسعى للنفوذ في اوساط المجتمع وتحاول شقّ طريقها نحو السلطة، كما هو حال بعض الاحزاب السياسية او حتى الشخصيات الباحثة عن دور ونقطة ضوء للظهور. بيد أن نسمع باتهامات تُلصق بتيار فكري – ثقافي أو بعلماء دين او خطباء او مصلحين اجتماعيين، فهو حقاً لأمر عجيب يثير التساؤل عن الدوافع والاسباب التي تجعل اصحاب هذا الاتهام يجازفون بحرف الحقائق والمغالطة المفضوحة امام الناس.

يزول العجب عندما نعرف السبب.. فالذي يرمي تهمة التخوين بعيداً عنه، مثله، مثل ذلك الذي يصرخ وسط الحيّ بأنه ليس لصّاً..!. فالحكومات والانظمة الديكتاتورية في البلدان الشمولية، من عادتها إلقاء هذه التهمة على المصلحين والعلماء وكل من له صلة وصل مع القاعدة الجماهيرية، بحيث يترك بصماته على ثقافة المجتمع ويؤثر على حياته العامة. وهنا يتضح سببين لتخوين هؤلاء:

الاول: الخشية على القاعدة الجماهيرية من أن تكون مصدر خطر على حياتهم السياسية، لذا نجد انهم دائماً يحرصون على أنهم الممثلون الحقيقيون للشعب وطموحاته واهدافه، وهم الذين يتمكنون من توفير كل شيء، وهذه القدرات غير متوفرة لآخرين، وإن توفر شيء منها، فهو دليل على العمالة والارتباط بالاجنبي، وإلا من أين تأتي الاموال التي يمول بها هذا العالم او ذاك المرجع، مؤسساته الثقافية والخيرية؟!.

الثاني: مسألة  الولاء المطلق.. وهو ما لا تتهاون فيه الديكتاتورية بأي ثمن كان، لأن بقائها مرهونٌ بالطاعة العمياء حيث "نفذ ثم نقاش" او في تطور آخر: "نفذ ولا تناقش".. بينما الخطاب العلمائي – الديني، يزخر بالنقاش العلمي وتغليب منطق العقل وتحكيم الفطرة الانسانية السليمة للوصول الى الحقائق والمعارف، وهو ما يجعل الانسان – الفرد، وايضاً المجتمع بشكل عام، مكرماً بالاختيار والارادة بفضل الفكر الاسلامي الأصيل، فلا يجد خياراً افضل من تولّي هذا الفكر وتبنيه، ثم اتخاذ رموزه قدوة له في الحياة.

هذا الصراع ليس وليد الفترة الراهنة التي نعيشها، ولا حتى هذه الحقبة التاريخية، إنما يعود الى الصراع الاول بين اول ديكتاتورية في تاريخ الاسلام ابتدعها الحكام الأمويون ثم العباسيون، حيث كان التهمة الاولى والوحيدة آنذاك للايقاع بالأئمة المعصومين، عليهم السلام، لدى الحكام، هو "أنهم يجمعون المال والافراد عليكم.. ويدعون لانفسهم..". وفي مرحلة تاريخية لاحقة، حيث اصبحت هنالك دول وانظمة سياسية متعددة في البلاد الاسلامية، تشكلت تهمة جديدة لاهل الحكم والسلطة اسمها "التخوين" بأن يجعلون الشخص الذي يعيش في ظل هذا النظام او الدولة، على صلة مع دولة اخرى معادية او منافسة على السلطة والهيمنة والمصالح السياسية والاقتصادية.

من هنا؛ نلاحظ اكثر الانظمة الديكتاتورية المبتدعة للتخوين، هي المدعية "للثورية" وأنها تشيد نظامها السياسي وحكوماتها على اساس الارادة الجماهيرية، متمثلة في شريحة العمال والمزارعين والمتعلمين والاطفال وحتى الأميين..! وهذا ما لاحظناه في تجربة حزب البعث في العراق، الذي أسس وجوده وأرسى دعائمه على فكرة واحدة لا غير: "الحزب والثورة او الخيانة"، فالانسان الصالح والسوي في المجتمع الذي لا غبار عليه، هو ذاك الذي يوالي وينصر "الحزب والثورة" التي تقود البلاد، وفي غير ذلك، فهو عميل وخائن لامحالة.. وعليه إما أن يُزج في السجن وتطبق عليه احكاماً قاسية، من الناحية الظاهرية، كما تطبق عليه مختلف انواع التعذيب النفسي والجسدي في أقبية السجون المظلمة ثم ينتهي أمره بهدوء. وإما ان يختار هو الهجرة الطوعية ويغادر البلاد بشكل او بآخر، وهو ما شجع عليه النظام البائد بشدة خلال فترة حكمه للعراق، حتى يخلي الساحة الجماهيرية من أي معارض او حتى منتقد لـ "القائد الضرورة"!.

إن نشوة الحكم والهيمنة السياسية في الداخل والخارج، حيث يشعر الحاكم أنه مطاع وله التأثير داخل بلده وعلى شعبه، كما له اليد الطولى والكلمة المسموعة في الخارج، كل ذلك وغيره، يجعله امام جدار سميك يفصله عن الحقائق التاريخية عندما يوجه تهمة الخيانة والارتباط بالاجنبي او بدولة ما، لاسيما اذا كانت بريطانيا والغرب، حيث بات معروفاً لدى شريحة واسعة من المسلمين في غير بلد اسلامي، تصدّي اثنين من ابرز علماء الدين ورجالات الحوزة العلمية للاستعمار البريطاني، وتذوقه الهزيمة المرّة، بما لم تجربه طيلة فترة استعمارها للبلاد الاسلامية خلال قرون من الزمن، الهزيمة الاولى في ايران، من خلال فتوى تحريم العمل في مزارع التبغ الايرانية بعد بيع الشاه الايراني "ناصر الدين القاجاري" امتياز زراعة وانتاج التبغ لشركة بريطانية عام 1890، والتي عُرفت فيما بعد بـ "ثورة التبغ"، وكانت القيادة آنذاك للامام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي – قدس سره-، أما الهزيمة الثانية فكانت في العراق، عندما أفتى الامام الميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني لتندلع "ثورة العشرين" عام 1920، وتجبر البريطانيين على التخلّي عن الحكم والسيطرة على مقدرات الشعب العراقي بشكل مباشر.

أمام هذه الحقائق نجد أن البعث العراقي الحريص حتى الموت على السلطة والهيمنة والولاء المطلق، يطلق تهمة الخيانة ضد المفكر الاسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي، بتهمة كيدية على أنه ضليع في محاولة انقلابية في الايام الاولى من استيلائهم على السلطة عام 1968. وبعد اعتقاله عام 1970، وتعرضه لشتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي، التي ربما جربها البعثيون لأول مرة في تاريخهم –حسب ما ينقل عن الشهيد نفسه- طلب منه المحققون اتهام السيد مهدي الحكيم – نجل الامام الحكيم الراحل- بالعمالة للبريطانيين وانه كان متورطاً في قيادة الانقلاب. وربما كان السيد الشهيد موعوداً بالافراج عنه حال الاستجابة لطلبهم، بيد أنه اختار تحمّل الآلام الفظيعة على سمعة الحوزة العلمية وكرامة رموزها وشخصياتها.

لقد كشفت الايام حقائق التاريخ فيما يتعلق بحزب البعث العراقي، وكيف انه جاء "بقطار انكلو اميركي" كما صرح بذلك "علي صالح السعدي" أحد قيادات حزب البعث الذي شارك في الانقلاب على عبد الكريم قاسم. نفس هذا الحزب كان يعلق الابرياء على أعواد المشانق في ساحة التحرير بتهمة التآمر والعمالة للبريطانيين والامريكيين. وحتى الآيام الاخيرة لحياة هذا النظام وشخص "صدام"، ثبت للعالم حجم الارتباط بينه وبين الغرب وتحديداً الولايات المتحدة، حيث سعى الاخير في حديث متلفز مع صحفي امريكي وقبلها مع سياسي بريطاني بثه التلفزيون العراقي في الايام الاخيرة، لأن يتفادى القرار الامريكي – الغربي بالاطاحة به، من خلال ابعاد كل التهم والمبررات لاسقاطه، وانه الجدير بالحكم اكثر من غيره. في الوقت نفسه اتضح أن العلماء والمفكرين والمصلحين الذين استهدفهم طيلة العقود الاربعة الماضية، خلفوا للعراق وللأمة مشروعاً نهضوياً – ثقافياً، وإرثاً فكرياً عظيماً، يسهل عليه الوصول على غاياته واهدافه في الحياة بالعيش بعيداً عن العنف والكراهية والظلم والانحراف، ولعل في طليعة هؤلاء، نفس الشهيد الشيرازي، الذي خرج محمّلاً بآثار التعذيب الوحشي على جسده، إلا انه انفجر فكراً وهاجاً وسعياً دؤوباً لنشر الوعي والثقافة ليس في العراق، وحسب وإنما في جميع البلاد الاسلامية. حقاً أنه واجه الاتهام والاعتقال والتهديد بالموت، بالكلمة الصادقة التي تهب الحياة للجميع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 3/آيلول/2014 - 7/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م