شبكة النبأ: يتفق معظم المؤرخين
والباحثين على أن مستوى الالتزام الديني والتحفّظ الاجتماعي في ايران،
مدين الى الكفاح والنضال الذي خاضه علماء الدين لتكريس هذا الالتزام
وتعميق الثقافة الدينية، ثم لمواجهة أي خطر يهدد هذه الثقافة من الداخل
او الخارج. لذا نجد أن ثمة علاقة وثيقة وعميقة عقدت بين المجتمع
الايراني وعلماء الدين الذين آثروا مصلحة المجتمع وتماسكه، على
المصالح الشخصية والحياة الهانئة، فتعرضوا للاعتقال والتنكيل والتشريد
وحتى القتل. ولعل هذا يكون السمة البارزة لايران بين عديد الدول
الاسلامية التي جرت محاولات تغيير وإصلاح طيلة عقود من الزمن ولم تفلح
في ذلك.
طبعاً؛ هذا لم يأت من فراغ، او حصل بين ليلة وضحاها، إنما يعود
بالفضل الى جذور تاريخية، والى العهد الصفوي حيث ازدهرت الحوزة العلمية
بشكل عام، واصبح لعالم الدين مكانة اجتماعية على خلفية تبني الملوك
الصفويين للمذهب، وعدّه المذهب الرسمي للدولة آنذاك، فكان التكريم
والتقريب والحماية الكاملة للحوزة العلمية ورجالاتها. مع ذلك، فان
الفضل يعود ايضاً الى الجهد المتواصل والاصرار على النهج طيلة قرون من
الزمن، وهذا بحد ذاته نقطة اساس في نجاح المشروع التغييري لعلماء الدين
في التأثير على الواقع الاجتماعي بشكل كبير.
حملة "السفور" والدفاع عن كرامة المرأة
ومن ابرز الشواهد التاريخية على هذا الكفاح، ما سطّره علماء الدين
من ملامح بطولية في مواجهة قرار الشاه البهلوي الأول، بفرض السفور على
النساء ومحاربة الحجاب. وقد عُرف عن البهلوي الأول، تأثره الشديد بنمط
الحياة الغربية وكرهه للقيم الاخلاقية المستوحاة من الاحكام الدينية،
فكان له زيارة الى تركيا واللقاء بصديقه الحميم "أتاتورك"، ولدى عودته
تحدث عن إعجابه بمنظر النساء السافرات في تركيا، مدعياً أنهن يشاركن
الرجل من خلال التبرّج والسفور، في عملية النهوض الاقتصادي وتقدم وتطور
البلاد.. ثم قال في خطاب جماهيري في طهران: "لقد كرهت أي نوع من الحجاب
اراه امامي.."!
ومن أجل إضفاء طابع قانوني على مشروعه التغريبي أوعز الى البرلمان
الايراني (المجلس الوطني الايراني) لاصدار قانون يقضي بأن تكون المرأة
في الشارع والاماكن العامة بدون غطاء للرأس بأي شكل من الاشكال، وذلك
في عام 1935، بل جاء في نص القانون، بأن "المرأة حرة في التخلّي عن
الحجاب، وأي شخص يعارض إمرأة سافرة، سواءً رجل عادي أو من الملالي
(عالم دين) فان قوى الشرطة تدافع عن هذه المرأة.."!
وفي ذاكرة المجتمع الايراني قصص وحكايات مذهلة عن مطاردات رجال
الشرطة في الازقة والشوارع، في عديد المدن الايرانية، خلف النساء
المحجبات ومحاولات تجريدهن من الحجاب. هذا التطور الخطير في السياسة
الداخلية للشاه، أثار غضباً واستنكاراً في الحوزة العلمية، فانبرى
العلماء والخطباء لمواجهة هذه الهجمة الشرسة على القيم الدينية
المتجذرة في المجتمع منذ قرون. وحسب المؤرخين فان هناك اسماء لمعت في
ساحة المواجهة آنذاك، منهم: آية الله السيد حسين القمي وآية الله
السيد حسين الطباطبائي و آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري و آية
الله السيد محمد تقي الخوانساري و آية الله حجت كوه كمرهأي، وغيرهم
من علماء الدين اتخذوا مواقفاً معارضة بمخلتف الطرق والاساليب ضد هذا
القرار الجائر. وقد لقي هذا الموقف تفاعلاً كبيراً من لدن العشائر
والقبائل الايرانية وتحول الى مد جماهيري صاعد ضد السياسات البهلوية.
هذه المواجهة تمخضت عن حادث مريعة في مدينة مشهد المقدسة، تحولت
فيما بعد الى مَعلم من معالم التصدّي الشجاع لعلماء الدين بوجه
الانحراف والتضليل في الانظمة الحاكمة في ايران.
فبعد ايام قلائل على حملة السفور، غادر السيد الطباطبائي مدينة مشهد
الى طهران معلناً أنه سيلتقي "رضا شاه" لتحذيره من قراره المعارض
للاسلام، وترك وصيته عند ابنائه و اهل مدينته في حال حصل له مكروه. ومن
كربلاء المقدسة، وصل السيد حسين القمي الى طهران، وتوجه الى مرقد السيد
عبد العظيم الحسني، جنوب طهران، عازماً على لقاء الشاه للغرض نفسه. إلا
ان الاخير الذي كان يخشى هيبة علماء الدين، وخاصة آية الله السيد القمي،
الذي كان قد أمر بنفيه الى العراق سابقاً، أمر باعتقاله في طهران، ولدي
وصول الخبر الى مشهد تجمع اهالي المدينة في مسجد "كوهرشاد" الملاصق
لمرقد الامام الرضا، عليه السلام. وفي هذا المسجد حصل نوع من الاعتصام
والتجمع الجماهيري المهيب، مما أثار قلق الشاه فأمر بقمع التجمع بشكل
عنيف ودموي، فكان أن اقتحمت قوة عسكرية حرم الإمام والمسجد، واطلقوا
الرصاص على الناس داخل المسجد، مما أدى الى استشهاد وجرح اعداد كبيرة،
تراوح الرقم – حسب المؤرخين بين ألفين الى خمسة ألاف شخص، في مجزرة
مريعة لم تشهد لها المدينة المقدسة مثيلاً.
الحفاظ على الثمار
بالرغم من السياسات الممنهجة التي اتبعها البهلوي الثاني (محمد رضا
شاه)، لترويج السفور والاباحية في المجتمع الايراني، مع تجميد القانون
الذي سنّه والده من قبل، إلا ان نشاط علماء الدين والخطباء لم يتوقف في
نشر الفكر الديني وتكريس الثقافة والقيم لدى ابناء الجيل الجديد،
لاسيما في اوساط الجامعات والطبقة المتوسطة، حيث انتشرت المحاضرات
الثقافية والفكرية في المساجد والحسينيات وحتى الاماكن الخاصة، يحضرها
عدد غفير من الرجال والنساء والشباب، وهي تدعو الى تماسك المجتمع
والحفاظ على الهوية الدينية من التقاليد والانماط الاجتماعية الوافدة
من الخارج، وصد محاولات فرض هذه الانماط على الواقع الاجتماعي
الايراني.
يقول الباحثون في الشأن الايراني، إن التداعيات الاجتماعية والتهديد
الماحق الذي تعرض له المجتمع الايراني من إصرار شاه ايران على تمييعه
وتذويب هويته الثقافية والدينية، كان من أولى عوامل انهيار نظام الشاه
وسقوطه المريع على يد هذا المجتمع نفسه الذي انتفض في تظاهرات جماهيرية
عارمة طالبت بالدرجة الاولى بإعادة الكرامة المهدورة للانسان والمجتمع.
وبما أن مسألة المؤثرات الخارجية على السلوك والتقاليد والعادات
الاجتماعية، لا تتوقف ولا يمكن إلغائها لاسيما مع التطور المستمر
لوسائل الاتصال وتقنية الاعلام، فان التحدي الثقافي يبقى مهدداً الوضع
الاجتماعي في ايران، كما هو الحال في سائر البلاد الاسلامية. وبما ان ا
يران تمر حالياً بمخاض سياسي عسير، بسبب خوضها صراعاً مريراً مع الغرب
على النفوذ والهيمنة السياسية في المنطقة، وتعيش في ظل عقوبات اقتصادية
وضغوطات سياسية دولية، مما يترك ضلاله السيئة – بالضرورة- على الوضع
الاجتماعي، لاسيما المنظومة الثقافية، حيث سيكون على الانسان الايراني
ان يبذل جهوداً مضاعفة ويضحي بالكثير من راحته واستقراره في الحياة، من
اجل المشاركة في هذه المواجهة، وفي هذا الطريق، ربما يتساقط البعض لعدم
تحمّله التداعيات الاقتصادية و صعوبة ادارة الحياة اليومية، مما يجعله
يبحث عن البدائل او عن المتنفس من خارج البلاد، فيجد في الانماط
والاساليب الموجودة خارج بلاده، بديلاً عما هو عليه. لذا نجد ثمة حرص
واضح من الحوزة العلمية وبعض رجالاتها من علماء الدين والخطباء، ممن
يتحمل مسؤولية التغيير والإصلاح مهما كان الثمن، فنسمع بين فترة واخرى
انتقادات صريحة لبعض الاجراءات او التصرفات التي تناقض القيم والهوية
الاجتماعية، وفي مقدمتها ما يتعلق بأوضاع المرأة والحفاظ على كرامتها
ومنزلتها، وهم بذلك يشكلون الامتداد الحقيقي لاسلافهم الذين ضحوا
بالغالي والنفيس من اجل القيم والمبادئ، وان تكون حيّة نابضة وسط
المجتمع الايراني.
حيث يرى أغلب الباحثين والمحققين أن لعلماء الدين دور كبير، في
توحيد المجتمعات على الرغم من محاولة بعض الانظمة الشمولية
والدكتاتورية، قمعهم وتسييس الحوزات العلمية لصالحهم، الا ان صمود
العلماء الاجلاء بوجه الطغاة والمفسدين، يمثل مرتكزا اساسيا لاستقرار
البلدان المسلمة، ودفعها نحو التغيير الافضل من خلال نشر العدالة
والوسطية والاعتدال، وحث الناس على السير وفق مبادئ الاسلام القيمة،
لذا يشكل وجود علماء الدين صمام أمان للمجتمعات والشعوب الاسلامية
كافة. |