تسقيط العلماء والمواجهة الذكية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في تاريخ العلماء والمفكرين والمبدعين، نجد التكريم بنسبة أقل في مقابل التسقيط والتكفير وحتى التصفية الجسدية، رغم ما قدموه في اكتشافات في العلوم الطبيعية والإنسانية تصب كلها في خدمة الإنسان وتساعده في تحقيق السعادة والرخاء. وهناك اسماء كبيرة في قائمة ضحايا التسقيط، أبرزها العالم الفلكي والفيزيائي الايطالي "غاليلو غاليلي" الذي دفع سمعته وحياته ثمناً لبحوثه العلمية واكتشافاته الباهرة في مجالات عديدة، أهمها مسألة مركزية الأرض التي ادعاها علماء اليونان القديمة وتحديداً "بطليموس" و"أرسطو"، بينما أثبت خلاف ذلك، وأن الأرض إنما هي كوكب صغير متحرك يدور حول الشمس. هذا القول جعله في مواجهة الحسّاد والخصوم في المراكز العلمية في ايطاليا، فكادوا له كيداً لدى الكنيسة واختلاق التهم عليه لدى "البابا" بأنه يدعو الى ما يخالف  الكتاب المقدس.. فتم زجّه في متاهات المحاكمات والمرافعات أمام القضاء لسنوات طويلة، فتمت إدانته وحكم عليه بالإقامة الجبرية والتنازل عن نظرياته، بيد أن رفض بشدة، فعاش منطوياً سقيماً بعيداً عن الناس، حتى ألمّ به المرض العضال، ثم كُفّ بصره. وتوفي في بيته بعيداً عن الاضواء والاهتمام سنة 1642. هذا العالم الذي مدحه "اينشتاين" كثيراً، وسُمي في الغرب؛ "ابو العلم الحديث"، حصل على الاعتذار من الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي عام 1983، أي بعد أكثر من ثلاثة قرون..!. وأعربت الكنيسة أنها كانت مخطئة بحق هذا العالم الكبير.

وفي تاريخ العلم الحديث هنالك الكثير من حكايات الايقاع والتآمر والدسائس ضد العلماء والمبتكرين من لدن الخصوم والحسّاد، ومن يجدون أنفسهم في خطر ماحق أمام قامات تعلو وتقدم الخير والرخاء للإنسانية، وهم في المرقاة الدنيا يعجزون عن تقديم شيء مفيد، فلا يجدوا بداً من التسقيط والسعي لدى السلطات الحاكمة، سواء الدينية في زمن ما، او السياسية في الأزمنة الراهنة، او حتى في المراكز العلمية والأكاديمية نفسها، فنلاحظ الطرد والإقصاء والمحاربة، ولو أن التاريخ في هذا المجال، دقيق جداً، فلم يسجل كشفاً علمياً إلا لصاحبه الحقيقي.

هذا المشهد نلاحظه يتكرر في بلادنا الاسلامية ويستهدف علماء الدين والمفكرين الاسلاميين الذين ابدعوا وقدموا الكثير لما يخدم الانسان في نظام حياته ومنظومته الثقافية والأخلاقية. فالابتكار هنا، ليس في علوم الطب والهندسة والفلك والعلوم الطبيعية الأخرى، إنما في العلوم الانسانية والدينية التي تمكّن الانسان من الوصول الى الطريق الصحيح نحو اكتساب تلك العلوم والاستفادة المثلى من عقله و ارادته وقدراته الذاتية. ولعل هذا يشكل – بالحقيقة- البنية التحتية للبناء الذهني والعقلي الانسان. وبما أن العلوم الطبيعية في القرون الماضية، تتميز بسرعة التأثير على واقع الإنسان والحياة، فإنها كانت مثار جدل ومناقشة بين أهل العلم، بينما العلوم الإنسانية والدينية تتطلب نتائج التأثير وقتاً طويلاً، لذا لم نجد تلك الأجواء في أوساطنا، لعدم وجود تلك العقول النيّرة والمبدعة أولاً؛ ثم لوجود الموانع الاخلاقية والدينية التي تحول دون انزلاق البعض في منحدر التسقيط وإقصاء الآخر. وإن حصلت فهي حالات معدودة، مثل اللغط الذي حصل حول نظرية الحكم في الاسلام التي طرحها المرجع الكبير في زمانه الشيخ ميرزا حسين النائيني – قدس سره- والذي دافع عن الحركة الدستورية في إيران، واصدر كتابه الشهير في هذا الشأن تحت عنوان: "تنبيه المّة وتنزيه الأمة" يدعو فيها الملكية الدستورية، والتقليل من سلطات الملك لصالح حقوق وامتيازات للمجتمع. ورغم الجدل الذي أوجده هذا الموقف المتميز، إلا أن الحوزة العلمية كان امامها خطاً احمراً في انتقاد الشيخ النائيني، فبقي عالماً كبيراً في الأوساط الحوزوية والاجتماعية والى اليوم.

بيد أن الذي حصل في العقود الماضية، أن نشاط و إبداع علماء الدين، اصطدم بالطموحات السياسية لطلاب الحكم والسلطة، فمن جهة، كانت بعض المواقف والرؤى تبدد هذه الطموحات التي كانت تدور في أدمغة الحزبيين والسياسيين، ومن جهة أخرى كانت تهدد الحياة السياسية للحكام المتربعين على كرسي الحكم، وابرز أدوات التهديد كان "الوعي"، الذي عُدّ السلاح الفتاك أمامهم، وهو ما كان يسعى اليه العلماء والمفكرون في نشاطهم، من خلال التأليف والخطابة وتأسيس المكتبات والحوزات و دور النشر والمؤسسات الثقافية والخيرية وغيرها، مما كان يؤسس لحالة من الوعي الديني ويكرس الثقافة الإسلامية في حياة الناس، ومن ملاحها، تبني القيم الأخلاقية والإنسانية، وهو بالنتيجة سيزاحم – بالضرورة- الثقافة الحزبية والفئوية التي تدعو الى المصالح الشخصية والأنانية، واللامسؤولية، وتكريسها في النفوس.

من هنا كنا نلاحظ الهجمة المسعورة على كل انجاز ثقافي وفكري في الساحة من قبل الحاسدين والخائفين على وجودهم وكيانهم المهزوز اساساً.. فمن التشكيك بصحة الافكار او اختلاق التناقضات فيها او استهجانها والاستهزاء بها لإبعادها عن الجماهير، بل حتى التشكيك بعلمية أولئك العلماء لتوجيه السهم الأكبر وإسقاط الشرعية الحوزوية عنهم. ولعل سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يكون مثالاً بارزاً في الساحة الثقافية الإسلامية، وفي ذاكرة التسقيط والإقصاء طيلة عقود من الزمن. ولا أنسى كيف أن أحدهم كان يتندّر على سماحته – قبل وفاته- بأنه اصدر كتاب "فقه المرور" وما العلاقة بين الفقه والمرور..؟!. على أن الفقه – حسب اعتقاده- يجب ان ينحصر في احكام الحلال والحرام والفرائض اليومية التي يؤديها الناس فقط، أما المرور والطرق والسكن والعمل وغيرها من القوانين والشؤون الأخرى في الحياة اليومية، فهو من اختصاص الدولة التي تحدد حسب تصوراتها و إيديولوجيتها، الأطر الخاصة بتلكم القوانين.

والسؤال هنا؛ ما العمل لمواجهة هكذا هجوم..؟. وهكذا أجواء لن تنتهي، مادامت الحاجة الإنسانية مستمرة الى الإبداع والتطوير، ما دام هنالك علماء افذاذ ومخلصين يضحون بالغالي والنفيس من اجل القيم والمبادئ.

أثبتت التجارب أن الكلمة الصادقة بالدليل والحجة والبرهان، خير وسيلة لرد كل تلك سهام التسقيط مهما القدرات والإمكانات خلفها.. لان الناس تبحث عن الحقائق وتنبذ الكذب والدجل والالتواء، لاسيما في الزمن الحاضر، حيث تطورت فيه وسائل الاتصال، كما تطورت تقنيات الإعلام وتوسعت نظرياته واتجاهاته، فباتت مسألة التأثير على الرأي العام غير مقتصرة على السلطة الحاكمة، مهما أوتيت من مال وسطوة ونفوذ. فالناس يبحثون عن الجديد والصحيح الذي يغير من نمط حياتهم ويخلصهم من عديد المشاكل.

لذا نجد النجاح حليف المخلصين والمضحين، عندما يستخدموا وسيلة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وكل ما استحدثته تقنيات الاتصال والإعلام، لخدمة الحقيقية والحق. لذا نجد سماحة الامام الراحل يسلط الضوء على مسألة الرأي العام ويحظيه بأهمية بالغة، ويفرد له كتاباً خاصاً بعنوان "الإعلام والرأي العام"، حيث يعده ذو تأثير كبير في عملية التغيير، ".. فبدونه لا تتم العملية، ولو تمت لكانت ناقصة. بالرغم من أن الرأي العام ليس أداة المعركة لكنه هو الذي يهيئ للإنتصار فيها".

وعندما تتجسر العلاقة المتينة والقوية بين العلماء العاملين وبين الجماهير، يكون من الصعب على أية قوة مهما كانت ان تنال من العلماء او تحجب عطائهم، وإن فعلت وأصرت على المواجهة الفاشلة، تكون النتيجة عكسية، لان في مقابل التسقيط، جاءت التوعية والتأليف، وفي مقابل الأوراق الصفراء، جاءت الأوراق الخضراء التي تقدم الفكرة الأصيلة وثقافة السلم والتعايش والتعاون.. فيزداد العلماء تألقاً في سماء الثقافة والفكر، ويتعمق وجودهم في النفوس.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 31/آب/2014 - 4/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م