في التغيير الذاتي.. فن التعامل مع استفزاز العدو

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: من المعروف في ساحات المواجهة، حرص أحد الطرفين على معرفة قدرات الطرف المقابل للتصرف بشكل افضل في عملية المواجهة ثم الانتصار عليه، وذلك من خلال استفزازه، واستدراجه الى ساحة المواجهة والقتال، ليكون هو البادئ. ولهذا مصداقية لا تُعد في المواجهات العسكرية بين  الدول، لاسيما دول العالم الاسلامي تحديداً حيث شهدت حروباً طاحنة خلال العقود الماضية، ثم خبت نيرانها، ومن ثم لم يعرف الناس من الغالب ومن المغلوب.. ومن المسؤول الأول عن اندلاع الحرب، لان كل طرف يلقي باللوم على الطرف الآخر. وقد حذرنا من ذلك أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما أوصى ابنه الحسن عليه السلام، بقوله: "لا تدعونّ الى مبارزة، فان دعيت فأجب، فان الداعي باغ، والباغي مصروع..".

وإن صدقت هذه الحقيقة على الصعيد السياسي، فإنها تصدق ايضاً على الصعيد الفكري والثقافي، حيث بات واضحاً أن الحرب اليوم، هي حرب أفكار وحرب وجود، لا حرب حدود، لذا تكون الخطورة كبيرة في استدراج الطرف المقابل للمواجهة الإعلامية والكلامية، وايضاً من خلال تعبئة الساحة بموجات التضليل والتزييف والاتهامات من العبارات كافة. وفي هكذا حالات اذا كان في جعبة الطرف الآخر ما يرد به الصاع صاعين او ربما أكثر، فانه سيبادله بالاتهامات واحياناً بالفضائح وحتى بالإشاعات لرد تلك الاتهامات أو احباط الحرب النفسية المفروضة عليه.

لنلاحظ مفكرين وعلماء وخطباء، بل وقادة ثورات جماهيرية تعرضوا للاتهامات والحرب النفسية للحد من نشاطهم وعرقلة مسيرتهم، بيد أن الناجحين منهم من شقّ طريقه بخطوات ثابتة وراسخة في الارض حتى تحقيق الغايات القصوى. ولنا خير درس وعبرة في سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الذي ربما يكون المثل الأعلى والأبرز في النجاح الباهر في هذا المجال. إذ قلما نجد شخصية علمائية بهذا الوزن العلمي والمكانة الاجتماعية والخلفية  التاريخية العريقة، يتعرض لسيل من الاتهامات والضغوط النفسية، وهو غير عابئ بها، كما لو ان شيئاً لم يكن. وهذا الدرس نفسه نستلهمه من كتابه المميز "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين". فالذين يرومون التغيير الحقيقي، عليهم ان "يتحاشوا  الاصطدام بالعدو بالقدر الممكن، فان التصادم يوجب تركيز العدو لقواه فيتمكن من كسب المعركة..".

ويستشهد سماحته بتجارب الشعوب التي انتفضت وثارت ضد الاستعمار من اجل نيل استقلالها، فالشعب الذي لم ينزلق في المواجهة المباشرة مع الاستعمار وتوخى الحيطة والحذر وانتهج السلم في المواجهة، تمكن من تحقيق اهدافه مع خسائر اقل قياساً بالشعب الذي اندفع نحو المواجهة المباشرة بتشكيل الجماعات المسلحة وخوض حرب عصابات، مما أعطى المسوغ للاستعمار والقوى الكبرى لأن تعد عدتها ومواجهة هؤلاء، حيث أنها حصلت على الشرعية امام العالم -على الأقل – للدفاع عن نفسها، وشن حرب ابادة وقمع شديد ودموي في حرب دائماً تكن غير متكافئة بين شعب مقهور بإمكانات بسيطة، وبين قوة عسكرية عظمى لها قدرات عسكرية ومالية وتخطيط ومنهجية متكاملة للحرب والسلم ايضاً.

مثال سماحة الإمام الراحل للحالة الأولى، الشعب الهندي الذي حصل على استقلاله من الاستعمار البريطاني بتقديم حوالي اربعة ملايين قتيل من مجموع عدد السكان البالغ آنذاك (عام 1947) أربعمائة مليون نسمة، بينما المثال الثاني فهو الجزائر التي حصلت على استقلالها من الاستعمار الفرنسي عام 1962 بعد ان قدمت أكثر من مليون قتيل، وهناك إحصائيات تقول بان العدد يصل الى المليونين، من أصل حوالي تسعة ملايين هو عدد نفوس هذا البلد آنذاك.

والمثير حقاً في التجربتين المختلفتين؛ أن الهند ورغم فترة الاستعمار فيها حوالي أربعة قرون، إلا أنها بنت نظاماً ديمقراطياً ناجحاً، لم تشهد خلاله الهند أية محاولة انقلابية ولا اضطرابات سياسية، بينما نلاحظ الجزائر التي تحدث عنها الكثير وعن ثورتها المسلحة، وأنها "بلد المليون شهيدة"، فأنها لم تسترح حتى الآن من الاضطرابات السياسية، وباتت ضحية الحكام الديكتاتوريين.

هنا يأتي دور "التغيير الذاتي" الذي يفوت الفرصة الى الطرف المقابل (الأعداء) في أن يوجه ضربته او يحقق مكسباً من استفزازاته وتحركاته. فما من عالم او خطيب ذو شأن وتأثير في الساحة او مؤسسة فاعلة او تنظيم ذو مكانة اجتماعية وسياسية مؤثرة، تعمل على تغيير وتطوير ذاتها دون كشف أوراقها للخصوم، إلا ويحقق النصر والغلبة على الطرف المقابل مهما كانت قدراته وإمكاناته، لسبب بسيط وهو امتلاكه عنصر المفاجأة والمباغتة بمشاريع وأعمال كبيرة وأفكار بارعة تأخذ طريقها في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتجد لها مصداقية عملية.

وللحقيقة التاريخية نقول: أن سماحة الإمام الراحل اذا نجح وبرع في شيء – كما يقر له الصديق والعدو- فانه برع في إحباط كل الاستفزازات والضغوط التي مورست ضده طيلة فترة تصديه لقضايا الأمة ومسؤولية التغيير الشامل والحضاري، منذ توليه مهام المرجعية الدينية في عقد الستينات من القرن الماضي. فكان الرد من جانبه هو الكتاب والمهرجان الخطابي والمشروع الخيري او الثقافي او تشييد الحسينيات ونشر الفكر الحسيني وفكر أهل البيت، عليهم السلام، بل وتشييد المؤسسات والجمعيات، التشجيع على التنظيم في الميدان الثقافي والفكري والسياسي ايضاً.

وعليه، نجد اليوم تراث سماحته في الفكر والمؤسسات المشيدة، من حوزات علمية ومؤسسات ثقافية وإعلامية ومكتبات وحسينيات وغيرها كثير.. كلها حيّة نابضة تزخر بالعطاء للأجيال الصاعدة، فهناك من يقرأ مؤلفات سماحته وقد ولد بعد وفاته – قدس سره- بالمقابل، لا نجد لكل أولئك المتربصين والاستفزازيين أي اثر في الساحة، وإن كان، فأنهم يفرضون أنفسهم بالقوة، وبنفس النهج الذي بدأوا به نشاطهم أول مرة .

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 30/آب/2014 - 3/ذو القعدة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م