يبدو أن عصر نوري المالكي في العراق قد انتهى. أقول "يبدو" لأنه على
الرغم من أنه وفقاً لما ورد في وسائل الإعلام بأن رئيس الوزراء العراقي
أبلغ قواته الأكثر ولاءً له بإلغاء حالة الاستعداد التي وُضعوا فيها
وقبول نتائج العملية الدستورية، إلا أنه ليس لدى خلفه المفترض، حيدر
العبادي، سوى 30 يوماً لتشكيل مجلس وزراء شامل وبرنامج يمكنه أن يفوز
بأغلبية مطلقة في البرلمان العراقي الذي يضم 329 عضواً. لذا فإن اللعبة
لم تنته بعد، ووفقاً لذلك يستمر المالكي في منصبه إلى أن يفوز حيدر
العبادي، أو أي مرشح آخر، بالتصويت البرلماني. ومع ذلك، هناك القليل من
الأشخاص المستعدين لأن يطلبوا منه تشكيل حكومة حتى إذا فشل العبادي في
مهمته - فقد شهد العراق العديد من الأخطاء أثناء فترة المالكي التي
دامت ثماني سنوات، كما أنه أبعد الكثيرين بسبب تكتيكات سياسة الإقصاء
والتهميش التي اتبعها وعدم كفاءته (وخاصة في المسائل العسكرية)، فضلاً
عن المحسوبية والفساد التي تفشت أثناء فترة حكمه.
ويشكل هذا الأمر تغييراً غير اعتيادي في مجرى الأحداث بالنسبة إلى
زعيم حقق أفضل النتائج في انتخابات آذار/مارس 2014، بحصوله على رصيد
شخصي شمل 700 ألف صوت، أي أكثر بكثير من أي منافس آخر. فما الذي حدث؟
الجواب المختصر هو سقوط الموصل - ثاني أكبر مدن العراق - بالإضافة إلى
ثلث أراضي العراق تقريباً التي تشمل قسم كبير من الأقلية العربية
السنية في البلاد، في أيدي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»
[«داعش»]، وذلك في مواجهة تراجعت فيها عشرات الآلاف من القوات العراقية
أمام بضعة آلاف من مقاتلي «داعش» المسلحين بشكل جيد ولكنهم غوغاء جاؤوا
من هنا وهناك. أما أبعاد القصة الأكثر عمقاً فتتضمن تحول بقايا تنظيم «القاعدة
في العراق» إلى جماعة «داعش» القتالية القوية في الحرب الأهلية السورية.
إلا أنه لا يمكن إلقاء اللوم في كارثة وطنية بهذه الضخامة على قوة
خارجية فقط. فالعرب السنّة الذين انضموا إلى "الطفرة" التي حدثت في
عمليات تنظيم «داعش» وفي عدد مقاتليه فعلوا ذلك لأن المالكي قام
بإقصائهم. كما أن الجيش الذي انهار في الموصل كان تحت قيادة جنرالات تم
اختيارهم بناءً على ولائهم للمالكي، وليس على كفاءتهم. ويُذكر أن إدارة
المالكي للقرارات العسكرية كان ضمن إطار ضيق بسبب خوفه من قيام انقلاب،
وتسامحه مع حالات الفساد ولا مبالاته النسبية للوجود العسكري الأمريكي
الهادف إلى المساعدة على تدريب الجيش العراقي وتقييمه، جميعها عوامل
ساهمت في الفشل الكبير الذي نشهده في الوقت الحالي. ولكن السبب الأساسي
هو عدم قدرة المالكي على الثقة بالآخرين وعلى الوصول إلى مجموعات أخرى
وتقاسم السلطة حتى في داخل مجتمعه الشيعي. وخلافاً لبعض معاصريه في حزب
"الدعوة" الديني الشيعي/الحركة السرية، لم يكن قادراً بتاتاً على
التغلب على ميوله التآمرية وفهم الجماعات الأخرى أو تقدير القيم
الغربية التي سعت الولايات المتحدة إلى تطبيقها في العراق. وربما هذه
مجرد صفات لا تنطبق عليه، بل على مجمل النظام السياسي العراقي الذي كان
يقوده.
وللنظر في هذه المسألة الأكثر عمقاً، لا بد من مراجعة أهداف
الولايات المتحدة في العراق. فكما استفاض الرئيس الأمريكي السابق جورج
دبليو. بوش في التوضيح في كانون الثاني/يناير 2005 في سياق خطابه
الافتتاحي في فترة ولايته الثانية، فإن مجمل الهدف الأخلاقي الأمريكي،
والوضع الأمني ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، يقومان على
إرساء الديمقراطية في العالم، بدءاً من الشرق الأوسط. وهناك شكّل
العراق، بموقعه المركزي وثرواته النفطية التي تأتي في المرتبة الثانية
بعد المملكة العربية السعودية، جائزة بحد ذاته.
لكن العراق، وبعد الانتصار العسكري الأمريكي عام 2003، لم يلتزم
بالخطة الديمقراطية الأمريكية كما كانت محددة، حتى مع قيام الآلاف من
القوات الأمريكية بدوريات في شوارع البلاد التي كانت تتناثر فيها
القمامة. وعلى الرغم من النجاحات المتعددة، مثل الانتصارات على تنظيم
«القاعدة» في الفلوجة وعلى «جيش المهدي» الشيعي المتطرف في النجف عام
2004، وانتخابات "الإصبع الأرجواني" عام 2005 واعتماد دستور مستوحى من
الغرب، إلا أن المشروع الأمريكي في العراق كان في حالة يرثى لها، بحلول
منتصف عام 2006، عندما قامت فرق الموت الشيعية والسنية بدفع البلاد إلى
شفا حرب أهلية.
وفي إطار هذا الوضع اليائس، أسفرت الانتخابات العراقية الجديدة إلى
قيام أزمة؛ وكل ما استطاع القادة السياسيون العراقيون والحكومة
الأمريكية الاتفاق عليه هو ضرورة رحيل إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء
العراقي سيء الحظ في ذلك الوقت. ومع مرور الأشهر، وعدم ظهور أي مرشح
قوي، اتجه الأمريكيون والعراقيون نحو نوري المالكي، الذي كان في ذلك
الوقت عضواً في حزب "الدعوة" وعضواً في البرلمان. وكان هناك قليلون فقط
يعرفونه جيداً، لكنه بدا حاسماً وشجاعاً وقادراً على ممارسة السلطة.
وهكذا انتخب رئيساً للوزراء قبل منتصف عام 2006.
لم تكن بداية فترتَيْ ولاية المالكي بمثابة كارثة، إذ كان سجله
مختلطاً في البداية. فلم يكن محبوباً من أي شخص، وكان لا يثق بأحد سوى
بأقرب أتباعه وأفراد أسرته بما يشابه الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد
نيكسون. وقد تصدر العرب السنّة والأكراد قائمة أعدائه، وكلاهما ذوي
أهمية بالغة بالنسبة إلى النظام الإتحادي في العراق. ومع ذلك، أعرب عن
تأييده لزيادة عدد القوات الأمريكية وتجنيد 100 ألف شخص معظمهم من
العشائر السنية ليصبحوا أعضاء في "الصحوة"، كما تحدّى رجل الدين الشيعي
المتطرف مقتدى الصدر و «جيش المهدي» التابع له الذي تدعمه إيران عام
2008، ومن ثم وافق على تمديد فترة وجود القوات الأمريكية حتى كانون
الأول/ديسمبر 2011. وفي تعامله معي ومع مسؤولين أمريكيين آخرين، كان من
الصعب الضغط عليه، ولكن كان بالإمكان إقناعه إذا اعتبر أن التعامل مع
الولايات المتحدة يصب في مصلحته. وعندما كان يلتزم بالعمل مع واشنطن،
كان دائماً يحافظ على تلك الالتزامات، وهي سمة هامة في الدبلوماسية.
إلا أن نزعته السلطوية ظهرت في انتخابات عام 2010، عندما نجح تحالف
القائمة "العراقية"، المكوّن غالبيته من العرب السنّة بقيادة رئيس
الوزراء السابق إياد علاوي، في إلحاق الهزيمة بحزب "دولة القانون"
برئاسة المالكي. وفي هذا الإطار يزعم الكثيرون أن إدارة الرئيس أوباما
دعمت المالكي. وهذا ليس صحيحاً. فالاحزاب الشيعية التي تدعمها إيران
والمؤسسة الدينية، كانت مصممة على أن يكون رئيس الوزراء الجديد من
القوائم التابعة لها. وكان الشيعة قد حصلوا على نصف مقاعد البرلمان،
ومع إضافة الأحزاب الكردية التي تميل أيضاً إلى الشيعة وحصلت على مقاعد
تصل إلى حوالي 20 بالمائة من أعضاء البرلمان، كان المالكي خيار الجميع
ولم يكن هناك مفر من ذلك.
أثناء فترة ولايته الثانية، بدأت فطنة المالكي السياسية تأخذ
بالإضمحلال. فقد كان منافساه، إياد علاوي والزعيم الكردي مسعود بارزاني
انتهازيين - بارزاني من خلال حفاظه على خيار الاستقلال تحت الضوء
وعلاوي من خلال نكثه بالتزاماته - مما أعطى نوري المالكي الذريعة
لاتباع سياسات طائفية. وقد كان تمرد «القاعدة» يتجه نحو الفشل، وكان
العراق يكسب 100 مليار دولار من عائدات النفط سنوياً، وبدا وكأنه واحة
من الاستقرار في ظل "الربيع العربي". وبعد أن رأى المالكي أنه لا حاجة
كبيرة لوجود عسكري أمريكي في البلاد بعد عام 2011، لم يكن متحمساً
لمتابعة "اتفاقية وضع القوات"، ورفض الالتزام بالتصويت البرلماني. وبعد
أن تُرك ليحكم كما يشاء بعد عام 2011، وجه ضربات متكررة إلى زعماء
السنّة مثل نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ووزير المالية رافع
العيساوي، وأخلّ بتحالفه الذي دام فترة طويلة مع الأكراد حول السياسة
النفطية في كردستان، وساعده في ذلك "مبالغة" الأكراد أنفسهم فيما يتعلق
بهذه السياسة.
لقد تم سرد القصة التالية من قبل: يتخلى زعيم معزول ومنغمس بنفسه عن
حلفائه ويسعى إلى المزيد من السلطة، وينجح بإرادته البحتة إلى أن تقوم
قوة خارجية باجتياح كل ما في طريقها قبل أن تبيّن الفساد الكامن في
الصميم - وهذا ما يتجلى هنا في سلطة المالكي. ولكن هل يجب أن نلقي
اللوم في كل هذا الوضع على المالكي فقط، أو حتى على القادة الأمريكيين
الذين يبدو أنهم يدعمون دائماً "الرجل غير المناسب"؟ ماذا لو كان هناك
عدد قليل من الرجال والنساء "المناسبون" في الشرق الأوسط الكبير؟ ربما
تكون أراضيه، سواء العراق... أو أفغانستان، مصر أو غزة ... غير ملائمة
لبذور السياسية الغربية؟
إن ذلك ممكن. ولكن في ظل ظروف شبيهة بالأيام المظلمة للحرب الأهلية
الأمريكية، ومع هيمنة "الشياطين" على ثلث البلاد، لا يزال العراقيون من
كافة الأطياف يحاولون جعل دستورهم الليبرالي الغربي دستوراً فعّالاً.
وطالما يحاولون، فمن واجب الولايات المتحدة ومن مصلحتها الوقوف إلى
جانبهم. أما واجب المالكي الأخير، إذا كان بإمكانه الإنسحاب بكرامة،
فيكمن في إظهاره موقف نادر من نوعه يتجلى في قيام زعيم في الشرق الأوسط
بالتنازل عن السلطة بسبب فشله.
* جيمس إف. جيفري هو زميل زائر متميز في
زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق إلى
العراق.
http://www.washingtoninstitute.org/
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |