المرجعية الدينية والتماسك الاجتماعي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بموازاة الهجمة الاستعمارية على البلاد الإسلامية وما رافقه من غزو ثقافي يعاضده لإيجاد الأرضية والقاعدة التي تقوم عليها المصالح الاقتصادية والسياسية في بلادنا، انطلقت المرجعية الدينية بكل قواها وقدراتها لمواجهة هذا الخطر الداهم والحفاظ بدافع المسؤولية الدينية إزاء المجتمع والأمة، فوظفت قواها وقدراتها لإبعاد شبح الانحراف والتضليل والتمزق عن المجتمع. وقد شهدت بعض الدول الإسلامية، مواقف تاريخية خالدة لعلماء الدين، اثبتوا فيها جدارتهم في قيادة الأمة والحفاظ على هويتها وتحقيق طموحاتها في الاستقلال والحرية والعيش الكريم.

وما ميّز الدور القيادي لعلماء الدين، قربهم الى عامة الناس اطلاعهم المباشر على تفاصيل حياة المجتمع، فكانوا على اطلاع دائم بأوضاع السوق والتجارة والمهن الحرة، والعلاقات الأسرية والاجتماعية، وحتى أوضاع المرأة والطفل، ومسائل البطالة والسكن، وكانوا يسعون دائماً لحل هذه المشاكل ما استطاعوا إليه سبيلا.

هذه العلاقة الوثيقة بين المرجعية والأمة، استهدفتها القوى والجهات التي حاولت – وما تزال- إيجاد موطئ قدم لها في الوسط الاجتماعي، فعملت بكل الوسائل والطرق على تمزيقها وقطعتها بالكامل، وإبعاد الناس عن المرجعية الدينية.

ومن رواد هذه العلاقة الحضارية، المرجع الديني السيد حسين  القمي (1311هـ - 1366هـ) الذي عُرف بين علماء الدين في ايران بمواقفه الثائرة بوجه شاه ايران الاول (رضا بهلوي) في عقد الاربعينات من القرن الماضي. ومن مدينة مشهد المقدسة، حيث كان يدرس البحث الخارج في الفقه، وفي الوقت نفسه كان يتابع عن كثب تحركات البلهوي المعادية للقيم الدينية والاخلاقية ومحاربته للمجتمع محاولة تمزيقه. فكان في طليعة المعترضين على قرار فرض السفور ومنع ارتداء الحجاب، واشاعة المنكرات، وحظر اقامة الشعائر الدينية.

هذه المواقف كلفته النفي الى العراق، ليستقر في كربلاء المقدسة، وتشاء الصدفة أن يرافق ويصادق المرجع الديني الراحل الميرزا مهدي الحسيني الشيرازي – قدس سره- فتكون المواقف الاصلاحية واحدة امام قرارات الانظمة الجائرة.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإزاحة رضا بهلوي من كرسي الحكم على يد البريطانيين انفسهم، قرر السيد القمي العودة الى ايران لمتابعة مشاريعه الاصلاحية، والتحقق من سلامة الوضع الاجتماعي والهوية الدينية التي ناضل من اجلها سنوات طويلة.

يروي سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- ان والده رافق السيد القمي في رحلته الى ايران وشهد متابعته وتأكيده على تطبيق التوجيهات الاصلاحية من قبل الشاه الجديد (الابن)، فقد "بقي في طهران فترة من الزمن، مصراً على السلطات لارجاع الامور الى نصابها، وقد وفقه الله تعالى، لانجاز ما اراد، والى اليوم ينعم الايرانيون بنتائج الاعمال الجبارة التي قام بها في ايران..".

وهنا لابد ان نعرف حقيقة هامة فيما يتعلق بايران، فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت ايران تتجه بسرعة نحو الهيمنة الامريكية، وبنفس السرعة كانت تبتعد عن بريطانيا، وبدأت مذ ذاك مشاريع واعمال مكثفة استهدفت الهوية الدينية والتقاليد الاجتماعية، وذلك من خلال وسائل عدّة، لم تكن متوفرة لدى البريطانيين، اهمها الشركات والمعامل المصنعة للمواد الاستهلاكية، مثل المواد المنزلية والسيارات والالكترونيات وغيرها، وايضاً الشركات المصنعة للافلام السينمائية، فانطلقت محاولات كبيرة وواسعة لتغيير ملامح المجتمع الايراني، ورسم صورة اخرى عنه للعالم.

بيد أن هذه المحاولات باءت بالفشل، وإن حققت بعض النجاح في فترات معينة، بسبب القمع الشديد لعلماء الدين، إلا استمرار النضال والجهاد من لدن الحوزة العلمية والخطباء والعلماء والمصلحين، تمكن الشعب الايراني من الاحتفاظ بالقدر الكبير من هويته الدينية وتقاليده الاجتماعية من خطر الانحراف والسقوط.

وببساطة يمكن مقارنة الشعب الايراني مع شعوب اخرى عاشت الفترة ذاتها في بدايات القرن الماضي، مثل الشعب التركي في ظل "أتاتورك" والشعب التونسي في ظل "بورقيبة"، ثم لننظر ملامح المجتمع الذي يفترض ان يكون مسلماً.. ففي الايام الاولى من الاطاحة بنظام حكم "بن علي" في تونس تفاجأ الناس بالأذان يرفع من على شاشة التلفزيون، حيث قالوا انها المرة الاولى التي يسمعون فيها الأذان من التلفزيون منذ حكم "بورقيبة"..! أما تركيا فحالها ليس بأفضل من تونس.

لذا فان حقائق التاريخ تشهد أنه بالقدر الذي يتم إبعاد علماء الدين عن المجتمع، يتعرض هذا المجتمع الى مزيد من الازمات والمشاكل المعقدة التي تخلقها سياسات الانظمة القائمة على ايديولوجيات وافدة وافكار لا تمت بصلة الى واقع المجتمع وهويته وجذوره، من قبيل عدم التطلع الى التاريخ والتراث بدعوى القِدم، والبحث عن الجديد والمثير مهما كان..! وايضاً الحرية الفردية، و"أن الانسان وحده المسؤول عن تصرفاته..".

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 25/آب/2014 - 28/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م