ما حاجتنا الى دموع التمساح الدولي؟

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ليس من العيب إثارة العواطف وتحريك المشاعر الإنسانية لنصرة قضية حقّة وانصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم.. بل هي وسيلة اخرى لتعبئة القوى في ساحة المواجهة ثم تحقيق النصر او كسب القضية سياسياً او قانونياً. وهذا كان مسار شعوب تعرضت للاضطهاد والإبادة والظلم، فبلغت مبلغها بهذا الأسلوب، ومثالنا الأبرز أمامنا؛ الشعب الكردي المجاور لنا، بيد ان هذا الاسلوب لم يكن الاوحد، فقد نشروا المظلومية عبر العالم عبر الصور والبوسترات والمؤتمرات، وحرك منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والاتحادات والمراكز الاكاديمية والشرائح المثقفة في الغرب لجلب لاقناعهم بأن ثمة شعب تعرض للابادة والتمييز العرقي والظلم.. كما تحركوا في الوقت نفسه على الصعيد الميداني، فبعد ان نجحوا في التعبئة القانونية والاعلامية في الغرب، فانهم صنعوا "لوبياً كردياً" في عديد البلاد الغربية ذات العلاقة، في مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا على وجه التحديد. ومن هذا الجسر وصلوا الى مبتغاهم بمسك الأرض وإقامة أول اقليم كردي وحكومة شبه مستقلة عن بغداد. واليوم حيث نعيش جميعاً الأزمة المتفجرة في العراق، نرى أنهم يقطفون ثمار تلك الجهود التي بذلوها منذ اكثر من  ثلاثين عاماً. فهم ليس فقط يحمون مناطقهم من شظايا ارهاب "داعش"، إنما يستقبلون افواج المساعدات العسكرية الغربية لمجرد تعرض "خطوط التماس" لخطر اجتياها من قبل "داعش".

بالنسبة للوضع الشيعي الذي لا يمكن مقارنته بالوضع الكردي، من حيث سجل الظلم والاضطهاد والإبادة الذي تعرض له في العراق، لان القضية لا تتعلق بالصراع مع نظام حكم معين او شخص معين مثل "صدام"، إنما القضية تعود الى عقود وعهود طويلة من الزمن، تعرض الشيعة فيها الى تهميش وتمييز واعتداءات وحشية، جاءت مرة من الجنوب السعودي – الوهابي، ومرة من الشمال، حيث الدولة العثمانية ذات النفس الطائفي. وبعدها الاستعمار البريطاني، ومن ثم اذنابه ورموزه في الحكم الذين طالما ادعوا "الوطنية"، فيما هم مارسوا الطائفية والفئوية بأبشع صورها.

كل شيء تغير خلال العقود الماضية.. الانظمة الديكتاتورية- الطائفية، وقبلها تغيرت المنظومة السياسية الدولية، وبات للشعوب الحق في ابداء رأيها وافكارها وهويتها، وتساقطت اصنام الديكتاتورية مثل اوراق الخريف الواحد بعد الآخر، بيد ان الذي بقي معلقاً؛ دموع الأسى والالم على ما مضى من الظلم، ثم الاستعداد لاستدرار المزيد مع ظهور أدوات جديدة مبتكرة للظلم والعدوان، ليست على شاكلة أنظمة الحكم القائمة على الايديولوجيا القومية او الماركسية او الاشتراكية وغيرها.. إنما هي جماعات منظمة تحمل افكار شمولية هذه المرة برداء "اسلامي"، تفتك وتدمر وتضرب بقسوة وعنف قلّ نظيره بدافع التكفير ونشر "الاسلام الصحيح" الذي جاء به "السلف"..!. 

وفي الوقت الحاضر، تعيش ناحية "امرلي" ذات الأغلبية الشيعية، حصاراً خانقاً من عناصر "داعش" منذ اكثر من شهرين، وقد رشحت المعلومات من هناك انه الاهالي يتعرضون تدريجياً الى موت بطيء بعد نفاذ الطعام والماء الصالح للشرب والدواء، علاوة على الامن، حيث تمطرهم "داعش" يومياً بالقذائف والصواريخ لكسرة آخر شوكة صمود فيهم. أما عن ردود الفعل، او المواقف المطلوبة، فهي حتى الآن لم تعدُ حد الإدانة والتحشيد الإعلامي والسياسي بالاستفادة من التجارب الماضية، ومحاولة كسب المشاعر والعواطف داخل وخارج العراق، والمثير حقاً، أن يتبارى البعض على أن يقدم الافضل على ما قدمته النائبة عن الطائفة "الايزدية" ايفان دخيل عندما هتفت بصوت عالٍ ضمن اعتصام داخل البرلمان، داعية اعضاء البرلمان والرأي العام لنصرة النساء من ابناء طائفتها من انتهاك حقوقهن على يد "داعش".

وفي موقف مميز لاحد نواب التحالف الوطني، كشف عن أن ناحية "امرلي" باتت "ضمن منطقة الاغاثة الامريكية.."، في حين هنالك دعوات في الداخل لأن تتحمل الحكومة والبرلمان والمسؤولين العراقيين بجامعهم، المسؤولية الاخلاقية والقانونية والانسانية إزاء ابناء وطنهم، سواء بتقديم مواد الاغاثة والمساعدات للمحاصرين، او محاولة كسر الحصار المفروض، بشكل او بآخر.. وبالنسبة لكاتب السطور؛ ما يزال السؤال حائراً دون جواب، عن سبب التريث في شن هجوم صاعق على الزُمر الارهابية التي تحاصر هذه الناحية الصغيرة وتنهي الامر؟.

اما واشنطن من جانبها، فقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنها تنتهج سياسة جديدة بصفحة جديدة من العلاقات مع بغداد منذ سيناريو احتلال الموصل من قبل "داعش" في تموز الماضي. وجاء تصريح الرئيس الامريكي باراك اوباما ليضع النقاط على الحروف، عندما قال موجهاً كلامه للحكومة العراقية الحالية برئاسة نوري المالكي، بان "الشيعة حصلوا على فرص ثمينة لكنهم اضاعوا الفرص..". وحسب اوساط سياسية فان مفردة "إضاعة الفرصة" تُعد في العقلية السياسية الامريكية، مخالفة تستدعي العقاب، وكانت البداية في التجاهل وغض الطرف إزاء ما جرى في الموصل وحتى كاد الامر يتطور على تخوم بغداد، لولا التلويح الامريكي بالخطوط الحمراء. في المقابل كان التفاعل والتضامن السريع مع الكُرد لمجرد احساسهم بالخطر.

ان البحث عن المشاعر والعواطف، يذكرني بالفترة التي اعقبت الانتفاضة الشعبانية المسلحة في وسط وجنوب العراق في اذار عام 1991، وكانت بهدف الاطاحة بنظام صدام، حيث تسابقت شخصيات وجماعات لا عدّ وحصر لها، على تعبئة  المشاعر والعواطف، خارج العراق، اقليمياً؛ في ايران وسوريا والخليج، ودولياً في اوربا وامريكا، ومحاولة تسويق الألم والمعاناة الى العالم، دون ان يكون هنالك مشروعاً جوهرياً ضمن الاطار العام للمأساة، ويكون الهدف او الغاية القصوى لتلك التعبئة. فقد تم قمع تلك الانتفاضة بوحشية وقسوة مفرطة، وبتوثيق من النظام نفسه، ثم تعرضت المدن المنتفضة الى عقاب جماعي رهيب، بفرض ضغوط شديدة وقاتلة على الحالة المعيشية، ترافقت مع العقوبات المفروضة دولياً على خلفية غزو الكويت. فجاء الانفراج الاقتصادي ونسمة الرخاء على الشعب العراقي، على يد الأمم المتحدة من خلال "اتفاقية النفط مقابل الغذاء" عام 1996، ثم جاء الانفراج السياسي والاطاحة بنظام صدام كليةً على يد الامريكان عام 2003.

هذا ما كان من الماضي، اما اليوم، فان المسؤولية ثقيلة جداً على المسؤولين في بغداد، بحجم القدرات والامكانات المتوفرة، فالعراق بلد ثري بموارده، ومميز بموقعه وعلاقاته مع الجوار والعالم، وهذا وغيره، يمكن استثماره لخير أهله، وصياغة مشروع وطني متكامل يحظى بدعم ومساندة الداخل، كما يكسب الدعم من الخارج الاقليمي والدولي المؤثر في الساحة. وربما يكون هذا مفتاح لازمة "امرلي" وسائر المناطق الساخنة التي تشهد نزاعاً طائفياً. ولا ننسى أن الدموع القادمة من الخارج يكون لها ثمن باهض، بينما هي سخية دون مقابل اذا كانت من ابناء الشعب العراقي، لانها بدافع البناء والرخاء والأمان.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 24/آب/2014 - 27/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م