ولاية الفقيه.. الإشكالات والمآخذ

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: في الفكر السياسي الشيعي نظريتان للحكم والحكومة: ولاية الفقيه وشورى الفقهاء المراجع... الأولى وجدت تطبيقها على ارض الواقع منذ العام 1979 في ايران بعد ثورتها.. الثانية بقيت مجرد تنظير يبحث عن تطبيق في الواقع السياسي الشيعي.

في التسعينات قدم العديد من الشيعة (رجال دين – مثقفون) مقاربة جديدة تجمع بين الاسلام والديمقراطية، والذين رأوا في الديمقراطية انها يمكن ان تتحول الى حالة ملزمة للاسلاميين من الناحية الشرعية، اذا ماتحولت الى عقد وطني بين كل شركاء الوطن، وذلك لالزامية العقود اسلاميا، وكذلك من خلال القناعة ان الخيار الاسلامي اذا لم يات نتيجة للارادة الحرة للشعب، ستكون اضراره على الاسلام اكثر بكثير من بقاء الاسلاميين خارج السلطة. احتاجت تلك المقاربة الى اكثر من عقدين لتجد موطيء قدم لها في العراق بعد العام 2003، الا انها لازالت في بداياتها بحكم مرجعيات حركات الاسلام السياسي الشيعي، ومدى قربها من النظام السياسي في ايران، والذي يطغى عليها تاثير ولاية الفقيه، رغم ذلك استطاعت المرجعية الدينية في النجف الاشرف ان تنأى بنفسها عن هذا الاستقطاب، وتحاول ان تقدم شكلا مغايرا لتوجهات تلك الحركات، بتاكيدها على الحكومة المدنية والتي هي الى الشكل الديمقراطي الحديث اقرب مما الى تلك النظريتين.

السجالات بين نظرية ولاية الفقيه المطبقة في ايران وشورى الفقهاء المراجع التي تبحث عن ارضية للتطبيق، اقتصر في بداياته على المساحات التنظيرية التي دافع اصحابها عن المباديء العامة لكل من النظريتين، وهي سجالات لايمكن ان تستمد قوتها او ضعفها الا من خلال مساحات التطبيق.

بعد العام 1979 وتجسد نظرية ولاية الفقيه على شكل حاكم ومحكومين ومؤسسات سياسية متعددة في ايران، اخذت السجالات منحى اخر، فهي لم تعد مقتصرة على صحة الطروحات النظرية بل امتدت لتشمل مقارنة تلك الطروحات مع واقع التطبيق والسلبيات الكثيرة التي رافقته..

ولم تكتف تلك السجالات بمدى صحة المنطلقات النظرية لولاية الفقيه او عدم صحتها، وهي التي سادت طيلة قرون الجدال النظري، بل امتدت لمساءلة مركز الولي الفقيه نفسه والسلطات الممنوحة له تبعا لتلك النظرية، يستعين الواقفون في صف معارضتها بما افرزته تلك النظرية من اشكال متعددة من التفرد والاستبداد والأقصاء والالغاء للاخرين، في مؤسسة دينية قامت على مبدأ رئيسي لايتقدم عليه اي مبدأ اخر وهو الاستقلالية في (الاختيار – التمكين -  اصدار الفتوى).

الاختيار يعود الى وعي المقلدين بمكانة من يقلدوه ويرجعون اليه في امورهم، وهم اختيار حر لا احد يتدخل فيه.

التمكين، قدرة (المرجع – المقلد) على انتزاع مكانته مع منافسين اخرين وتكريس حضور تلك المكانة لدى مقلديه.

اصدار الفتوى: هي وظيفة المرجع الاساسية فيما يتعلق بمعاش ومعاد المقلدين، وحتى في النقطة هناك الكثيرين من المقلدين من يذهب الى تقليد مرجع اخر في بعض المناطات الفقهية (التبعيض) او (الاستمرار على تقليد الميت وعدم تقليده) اذا عجز عن الامتثال لفتوى مرجعه في جزئية معينة.

ما هي ولاية الفقيه؟

هي (نيابة الفقيه) الجامع لشروط التقليد و المرجعية الدينية  عن الامام المهدي ( عجل الله فرجه) في ما للامام ( عليه السلام ) من الصلاحيات و الاختيارات المفوضة اليه من قِبَل الله عز و جل عبر نبيه المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) في إدارة شؤون الامة و القيام بمهام الحكومة الاسلامية.

ما هي شروط المرجع – الفقيه؟

(البلوغ – العقل – الإيمان – الذكورة – الاجتهاد – العدالة - طهارة المولد - الحياة - وفي هذا الشرط اختلاف بين مراجع الشيعة - الأعلمية).

وهي شروط لا تقتصر على واحد من الفقهاء الموجودين بل تشمل جميع المتصدين لتلك الوظيفة والحائزين على تلك المكانة، مما يقود الى نفي حصرها في (فقيه – مرجع) واحد، والاستئثار بكل السلطات بيده عند تجسيدها في الحكم والحكومة.

ما هي الاعتراضات على ولاية الفقيه؟

الشيخ مرتضى الانصاري سجل اول اعتىراض عليها من خلال نقده لصاحبها وهو استاذه النراقي في كتابه (المكاسب)، حين قال عن عن الروايات المستدل بها على ولاية الفقيه على فرض صحتها: (لكن الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم (اي الفقهاء) من حيث الأحكام الشرعية, لا كونهم كالنبي والأئمة صلوات الله عليهم في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً). وانتهى إلى القول (فإقامه الدليل على وجوب إطاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل دون خرط القتاد).  ولكنه رغم ذلك أجاز النيابة الجزئية للفقهاء, أي المرجعية الدينية التي يمكن الرجوع إليها في الأمور التي لم تحمل على شخص معين.

وحول الأدلة التي يوردها المؤيدون لولاية الفقيه بشكلها الذي اصبحت عليه كمنهج حكم وبخاصة النصوص النقلية فانها غير كافية للمساواة بين ولاية المعصوم وولاية الفقيه بالطريقة التي ذهب إليها السيد الخميني في وقتنا المعاصر, وعلى نفس المنوال ذهب السيد أبو القاسم الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى كتاب الاجتهاد والتقليد بقوله: (إن ما استدل به على الولاية المطلقة في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه).

وإلى مثله وبنفس السياق ذهب الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه (الخميني والدولة الإسلامية) الذي كتبه عشية انتصار الثورة في إيران واعترض فيه على أن السيد الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي (ص) والإمام المعصوم (ع) إلى الفقيه). وقال: (ولكني لا أثبت إلا بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه).

وحصر ولاية الفقهاء العدول بالفتوى والقضاء والأمور الحسبية وقال: (إن التفاوت في المنزلة يستدعي التفاوت في الآثار لا محالة ومن هنا كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير حتى على المجتهد العادل, ولا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد, وما ذلك إلا لأن نسبة المجتهد إلى المعصوم تماماً كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل).

واعتبر أن مقياس إسلامية أي دولة هو إسلامية القوانين والنظام وليس هيمنة الفقهاء, وأقر بمبدأ الانتخاب ما دام فيه مصلحة وأنه لا بأس بالاستفادة من تجارب الإنسانية ما دامت لا تحلل حراماً أو العكس. والى مثل هذا الرأي أيضا ذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين, وقال بولاية الأمة على نفسها وبضرورة الشرعية السياسية للنظام في غياب المعصوم, وأن ولاية الفقيه منحصرة في القضاء والفتيا وما ماثلها, وأن قيام الدولة منفصل عن الإمامة ومن يتسلم السلطة ليس مغتصباً لحق الإمام المهدي (كما سبق عند النائيني) ولا تسمى ولاية جور, فولاية الجور تتحقق بادعاء صفة الإمام (بما هي منصب تشريعي).

في كتابه (الدولة الاسلامية رؤى وافاق) يقدم الامام الشيرازي الراحل رؤيته لولاية الفقيه ولشورى الفقهاء المراجع من خلال عدد من الاسئلة والاجوبة:

س: إذا استفرد أحد الفقهاء بولاية الفقيه هل تجب طاعته؟

ج: الولاية لشورى الفقهاء المراجع.

س: هل تكون ولاية الفقيه مطلقة؟

ج: كلا، وإنما الولاية لشورى الفقهاء وفي الإطار الشرعي الذي حدده القرآن الكريم والسنة المطهرة المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

س: إذا استفرد أحد الفقهاء بولاية الفقيه وأصدر حكماً أو فتوى بعنوان حكم الحاكم، فهل تكون له الولاية على فقيه آخر؟

ج: لا ولاية لفقيه على فقيه آخر.

س: هل يجوز لفقيه جامع للشرائط أن يفرض سلطته على فقيه آخر جامع للشرائط؟

ج: كلا.

س: هل يشترط في شورى الفقهاء المراجع مضافاً إلى الشروط الفقهية أن تنتخبهم الأمة؟

ج: نعم، فالأمة لها رأيها فيمن سيأخذ بزمام الحكم.

يستفاد من ذلك:

عدم الطاعة لمن يتفرد بالسياسة والحكم – الولاية ليست مطلقة – ما يصدره فقيه ليس ملزما لفقيه اخر – عدم جواز فرض سلطة فقيه على اخر – اشتراط انتخاب الامة للفقهاء المراجع.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 23/آب/2014 - 26/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م