العبادي.. حامل المصباح في الليل العراقي الطويل

د. علي ياسين

 

في غمرة الأحداث المضطربة التي تفاقمت وتيرة تصعيدها في العراق منذ ما يزيد عن الشهرين بدخول العصابات الإجرامية إلى مدننا الشمالية الحبيبة، وفي ذروة الصراع الحزبي والفئوي والشخصي حول تسمية رئيس الوزراء المناسب لهذه المرحلة الحساسة التي اقترب فيها كيان الدولة العراقية من هاوية انهيار حقيقي، في ظل كل هذه الأمور يبرز إلى قمة المشهد وجه سياسي جديد ظلّ مختبئا خلف كواليس السياسة ودهاليزها المعتمة بكلّ حذر وتواضع، إنّه وجه الدكتور حيدر العبادي الذي كان ظهوره مفاجئا للجميع، فهو قبل أيام قلائل لم يكن مطروحا ضمن الشخصيّات التي تمتلك القدرة على المنافسة، وحين خوّله السيد رئيس الجمهورية (فؤاد معصوم) بمهمّة تشكيل الحكومة الجديدة وإدارتها، فقد أوكل إليه مهمّة جسيمة تزيد الأحداث والوقائع الأخيرة من شدّتها وصعوبتها.

وإذا كانت هذه المهمة قد ولدت بعد مخاض عسير استشعر مكابداته القاصي والداني، فإنّ التأييد الشعبي والدولي الكبير الذي حظيت به هذه الخطوة تعطي أكثر من مؤشّر، وتؤكّد حاجة المجتمع الدولي إلى إعادة الأمن والاستقرار للعراق لما لهذا البلد من دور إقليمي ومن أهمية اقتصادية وسياسية وتجارية على المستوى العالمي، وهو غير ما كانت تروّج له الحكومة السابقة من أقاويل عن عدم التعامل الجدي للقوى العظمى وعبثها بمقدرات العراق وتدخّلها السافر في شؤونه الداخلية الخاصة.

ودون الخوض في التبعات القانونيّة وفي المخالفات الدستوريّة التي تتهمُ فيها الحكومة السابقة المرشح الجديد إسوة بالاتهامات السابقة التي توزّعها في اتجاهات مختلفة، فإن السيد العبادي صار أمرا واقعا يحظى بتأييد كبير لا يمكن أن يحظى به منافسوه، إلى درجة تجعله قادرا على النهوض بمقاومة التهديدات والإشكالات التي يثيرها بين حين وآخر نوابٌ ومسؤولون مقرّبون من دولة القانون ومن زعيمها المالكي الذي تراجع في اللحظة الأخيرة وبعد ضغوط عديدة على سحب شكواه واعتراضه على هذا الترشيح، وترك الساحة للسيد حيدر العبادي ليجرّب حظه وقابلياته في هذا المخاض العسير والتركة الثقيلة التي خلّفتها سلوكيات من سبقه وإجراءاته غير المدروسة.

وبما أن القيادة السياسية الناجحة تلعب دورا مهما في توجيه المسيرة التاريخيّة للشعوب، ولأنّ تجربة الحكومة السابقة التي استمرت أكثر من ثمانية أعوام لم تقدم إنجازا تفخر به على المستوى الخدمي والتعليمي والصحي والعمراني قدر استماتتها في التشبث بالسلطة وإيمانها بحقها في ممارسة الحكم الفردي وسعيها لتكريس أيديولوجيات مطلقة تؤمن بحتميات تاريخية محدودة؛ متذرعة بحجج وادّعات كثيرة أبرزها التصدي للإرهاب وضرورة محاسبة الخونة وسوى ذلك من شعارات؛ فإن اللحظة الحرجة التي وصل إليها العراق بسبب تلك السياسات هي التي أفرزت السيد حيدر العبادي - بالزمن الضائع- في محاولة جريئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن داخل الكيان الحزبي نفسه.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما مدى قدرة السيد العبادي في الانتقال بالبلد من الوضعية المزرية التي هو عليها الآن إلى وضعية تناسب رؤيته السياسيّة وأفكاره الشخصيّة الخاصة وتجربته الثقافية التي صقلتها سنوات التغرّب في بلاد الضباب للدراسة في حقل تقني خالص (الهندسة الكهربائية) ثمّ التفرّغ للعمل المؤسساتي، والكفاح الحزبي ذي التوجهات الإسلاميّة؟

إن العبادي اليوم أمام مسؤولية تاريخيّة حقيقيّة، ولكي يثبت لنفسه أولا ولكلّ العراقيين ثانيا أنّ اختياره لم يكن وليدا للمصادفة التي أفرزت سابقَه، وإنما هو مرشّح فرضته الظروف التاريخيّة وأفرزه الواقع السياسي المأساوي الذي أدخلَ البلاد في دهليز مظلم، لكي يثبت كلّ ذلك؛ فعليه أن يقوم بمجموعة إجراءات وإصلاحات تصحح المسار الخاطئ الذي أفضى بنا إلى هذه المتاهة التي بتنا نحلم بالخروج منها جميعا! كي يستعيد العراق عافيته ودوره الريادي والحضاري، ذلك الدور الذي تعطّل لعقود طويلة بسبب السياسات الخاطئة التي تصدّى لها مستشارون فاشلون، وبسبب الإدارات العشوائيّة التي أُنيطت بمسؤولين لا يمتلكون القدر الأدنى من المسؤولية والضمير. أمّا أهم هذه الإجراءات التي تنسجم وطبيعة المرحلة الحساسة التي يمرّ بها البلد، فهي:

- لكون التغيير لم يأت من أجل استبدال شخص بآخر، وإنما بناء على رغبة شديدة لإعادة معادلات التوازن بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، لذا يتوجب الاعتماد على نسبة كبيرة من الوزراء الوطنيين المستقلّين من ذوي التوجّهات الإصلاحيّة الذين لا ينقادون إلى إيديولوجيا محدّدة ولا يحاولون الترويج لها في أروقة وزاراتهم، لا سيما الأمر في الوزارات الحساسة، كالتربية، والتعليم العالي، والخارجية والداخلية والدفاع، والنفط، والماليّة، وسوى ذلك.

- إنّ الاختيار الموفّق لإدارة الوزارات الحساسة والوزارات الأخرى سيُلقي عن كاهل العبادي مسؤولية مراقبة أدائها، مع ضرورة منح الوزراء المختارين صلاحيات مطلقة وسلطات فعليّة للنهوض بأعباء التغيير والإصلاح الحقيقي.

- العمل على ترميم مفهوم الدولة الذي بدأ بالتلاشي، فالمجتمع العراقي يعيش منذ سقوط الطاغية وحتى يومن هذا حالة أشبه بوضعية (المدينة الجماعية) أو اللادولة حيث الكلمة الفصل للميليشيات المسلحة، وللعشائر والمتنفّذين وليس للسلطة المركزية، وحيث التعيينات - وهي مصدر رزق الطبقة الوسطى التي تنهض بمسؤولية التغيير في المجتمع العراقي- تتم على وفق الولاءات والمحسوبية لا على وفق الكفاءة والحاجة التي تحددها رغبة القوى العاملة المرتبطة بأجهزة ونظم مركزية.

- إن التحول من مجتمع اللادولة إلى مجتمع الدولة ليس بالعملية الهينة، بل هو قفزة تتطلب جهودا جبارة من تفتيت التخندقات الطائفية وتفكيك الاصطفافات الفئوية الضيقة والعمل على تغليب المصلحة العليا للبلاد، وهذه الخطوة تتطلب أول ما تتطلب تدشين قطيعة نهائيّة مع بعض السلوكيّات التي فرضتها طبيعة الظروف التي رافقت سير أعمال (حزب الدعوة) ممثلا بدولة القانون في دورته السابقة، وبما أنّ السيد حيدر العبادي ينتمي إلى الكيان المذكور، فإنّ هذه الخطوة ستكون من العقبات الكأداء التي ستقف بوجهه وتهدد إرادته في التعامل مع الملفات الشائكة.

- الاهتمام الجاد بملف حقوق الإنسان والعمل على تجذير ثقافة الاختلاف وتقديس حرية الرأي الآخر، وتشريع القوانين التي تحرم وتدين هدر الدم العراقي بغض النظر عن الانتماءات والديانات والقوميات.

- التأسيس لثقافة (الاستقالة من المنصب) والتشجيع عليها بالمكافآت والحوافز، فالمنصب ما هو بالنتيجة إلا وظيفة أو عقد استئجار بين جهتين أو طرفين: مؤسسة وموظف، إذا ما أخفق الطرف الثاني فمن المروءة والشجاعة أن يعترف بالخطأ وينسحب تاركا المكان لمن هو أكثر لياقة وحنكة في إدارته.

- معالجة استشراء ظاهرة الفساد، ومراقبة المسؤولين كافة ابتداء من رئيس الوزراء نفسه، ومحاسبة المقصرين والفاسدين منهم بغض النظر عن مواقعهم السياسية والاجتماعيّة، وهذا يعني ضرورة إعادة النظر في تشريعات الحصانة التي منحت الكثيرين فرصة الإثراء الفاحش وخلق حالة من الطبقية المقيتة التي تُسهم في تحطيم المجتمع.

- العمل على إبعاد الجيش عن المعترك السياسي، فالعسكر في البلدان المتحضّرة داخل ثكناته الخاصة بعيدا عن المسرح السياسي، له واجبات وطنيّة محدّدة أهمها حماية الحدود من الاعتداءات الخارجيّة، وحفظ الأمن الداخلي بكل حرفيّة ومهنيّة وحياديّة انطلاقا من مبادئ المواطنة الخالصة.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/آب/2014 - 21/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م