التعددية السياسية والشورية في فكر الإمام الشيرازي

(في ذكرى رحيله الثالثة عشر)

موقع الإمام الشيرازي

 

تعبّر الأدبيات الإسلامية التراثية، والآثار العلمية والمباحث المعتبرة، للمفكر المجدد، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، عن فكر الشورى والمشروع الشوري، كمفردة تراثية أو فقهية، معبرة عن مضمون الديمقراطية، بما يعكس جوهر الفكر الإسلامي الحقيقي، ومبادئه وأدبياته، والهندسة السياسية للدولة، التي تدعو لها الثقافة الاسلامية.

إن هذه الدعوة، تمثل أساس مدرسة آل البيت، الأخلاقية والسلوكية، في جوانبها الإنسانية والسياسية والمجتمعية، في الحقول الفكرية والثقافية والعلمية، ومرتكزاتها الإستراتيجية، في عناصرها المكوّنة لها، وهي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية الأمنية.

والى ذلك يشير السيد المجدد، ضمن مباحثه في موضوعة "السياسة"، والتي ضمّنها فقها في موسوعته، وكذلك مقاربته لموضوعة "الإدارة"، والتي بحث فيها كذلك فقها، في عدة أجزاء، في موسوعته الفقهية الكبيرة، قائلا "ان العملية السياسية جزء من الإدارة أو العملية الإدارية"، كونها تحصل بين طرفين، لذا ينطبق عليها القوانين العامة للإدارة الصحيحة، في التوصيف بالعلم والفن، وكذلك التحرك بين المثالي والممكن، وممارسة عملية، لا مجرد نظريات وفرضيات، ومع تحمل المسؤولية والولاء للعمل.

وتشمل هذه المقاربة في علم الإدارة الحديثة، تعريف "المنظمة" في تكوينها من عنصر دخل، وعنصر خرج، وعنصر معالجة ضمنية، الذي يمكن إسقاطه، على العملية السياسية بمجملها، وكذا شمولها بتعريف "المرونة"، في جوانبها الإستراتيجية، والذي يعني شكل التخطيط، الذي يؤمن خيارات وبدائل إضافية، كمسالك متوفرة وجاهزة بديلة للعمل، وعليه فإن هذا التخطيط، يكون مطلوبا لقادة العملية السياسية والإدارية، والمخططين لها، في التنسيق والعلاقات الرابطة، وتوضيح الواجبات والمهام، وتخويل الصلاحيات.

وكذا فإن التسلط والقمع والاستبداد، بأشكالها السياسية والدينية والفكرية والثقافية، والتي يصح عليها مفردة "الديكتاتورية"، هي سر سقوط الأنظمة والحكومات والأحزاب، إذ لا دكتاتورية في الإسلام، بدليل سقوط  أصل "العدل" عن الحاكم المستبد، الذي هو خارج نطاق رضا الأمة، في تصرفه بشؤونها.

عليه فإن الإسلام يرفض الاستبداد والتسلط والتفرد بالسلطة، بالأدلة ذاتها التي يرفض بدلالتها الإضرار بالأمة والفرد، وفق قاعدة لاضرر ولاضرار الفقهية، ضمن النص النبوي الشريف، "رفع الله الضرر والضرار عن أمتي"، التي يصح إسقاطها بالتأكيد على التسلط السياسي والتفرد بالسلطة، وعدم قبول الاختلاف في الرأي، ورفض الآخر، والاستئثار بالقرارات التي تخص الأمة والمجتمع، وجني المكاسب الذاتية من خلال السلطة، والإستخدام غير المشروع للمال العام، بما يعكس ضررا بالغا في الناس، وبائنا في المجتمع.

إن هذه التداعيات، في الحياة السياسية، هي شأن كل متسلط،  يأتي الى الناس بما يفهمون ويرضون، ثم يتسلط عليهم بما اخفاه من جوهر مآربه، والى ذلك يعبر سماحة المجدد الفقيد، ضمن رؤاه للسياسة في جوهر الإسلام، "ان التفكير السيء منهي عنه نهي تحريم أو كراهة، والحسن مأمور به أمر وجوب أو إستحباب"، وسماحته يوجز بذلك  جوهر "الشورية" في الإسلام، وهي المقابل الإيجابي لمفردة الديمقراطية، إذ يرى سماحته، أن مبدأ الشورية في الإسلام، يعبر عن إيجابيات الديمقراطية الحديثة، ويطرح البدائل عن تداعياتها وسلبياتها.

والى ذلك ينحو سماحته، في التفريق بين مقاربة الإستشارية الى الديمقراطية، ومقاربتها الى الإستبداد، بين هذين الشكلين من أنظمة الحكم، فيرى أن الإستشارية في الإصطلاح الإسلامي، أو الديمقراطية في الإصطلاح الغربي، هي أفضل أساليب الحكم، كونها تهيأ الجو الكامل للحرية، التي تطلق الكرامة والعدالة الإنسانية، والكفاءة والتفوق في الأداء، وإختيار الأصلح للحكم والمسؤولية، وشغل الوظيفة العامة.

وبرغم أن لسماحته مآخذه على ديمقراطيات الغرب، لجهة إعمال الرقابة الخارجية فيها حصرا، ولاعتماد مبدأ الأكثرية، في مهمة التشريع، وفي احتمالية الاستغلال السيء للحريات، وفي التنصل المحتمل عن المسؤوليات، فضلاً عن مساواتها بين الإنسان العالم وغيره، ضمن مبدأ المساواة المطلقة أمام القانون، بدلاً عن العدل المطلق، مما يخنق الإبداع، لكنه يرى أنها الخيار الأفضل والأمثل للحكم، من خلال إنتخاب الأمة لممثليها بحرية، مقارنة بالإستبداد والديكتاتورية، التي تتفوق فيها القوة على الحقيقة، ويعنى بها القوة الغاشمة، كما أن الديمقراطية، هي الطريق الأقل محذورا، لأن الإختلاف لا يمكن أن يُجعل سببا، لإختلاف القوانين المجعولة، أو "الوضعية" في لغة الفقه القانوني.

حيث تسعى الإستشارية من خلال الحقيقة، لإستخدام القوة لصالح الإنسان، وفق المنهج السليم لها، في تغليب "منطق الحقيقة على منطق القوة"، ويثبت المفكر المجدد، أن "الإستشارية" الإسلامية، تتجاوز المآخذ في الديمقراطية الغربية، من خلال الوازع الإيماني في رقابة الذات، وإعتماد الأدلة الأربعة في التشريع، فضلا عن الجوانب القيمية والسلوكية الإسلامية، إذ تؤدي الى الإستقامة والتقدم، في نزوعها نحو القانون الإلهي السليم.

وعليه فالحل الأمثل للسياسة والحكم، هو في قبول مبادئ الديمقراطية الشورية، من خلال الهندسة السياسية الحضارية، وفق آليات التعددية السياسية الحزبية، وتداول السلطة، وتمثيل الشعب تشريعيا، وبما يضمن الانتخاب المشروع للحكومة، وفصل السلطات في الدولة، دون وصاية أو تأثير أو ترغيب أو ترهيب، تكون نتائج مخرجاته، أن يبطل العملية السياسية، شرعا وقانونا ودستورا، ويفسدها برمتها.

فهذه الرؤى الإسلامية، ليست وليدة الساعة، وقد نبه الى هذه الافكار بوقت مبكر، قبل قرن من الزمن، المفكر الشيخ محمد حسين النائيني، في رسالته "تنبيه الامة وتنزيه الملة"، التي نشرت في جامعة النجف العلمية منذ ذلك الحين، خاصة لجهة الشروط الواجب توفرها بممثل الشعب "النائب"، ليكون أهلا للمسؤولية، من ناحية الكفاءة العلمية والثقافية وليس بشروط إمام الجماعة، فيتجرد بذلك من أشكال الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي، ويكون صالحاً، للمهمة السامية التي يكلف بها، فتستوجب هذه الرسالة استحقاقا، قراءة معاصرة تحليلية واستقرائية، نظرا لأهميتها المعاصرة، في الظرف السياسي والاجتماعي الراهن، والتماهي في الصورة ذاتها .

ويشير المفكر المجدد، الى الشروط الواجب مراعاتها في عمليات الإنتخابات السليمة والصحيحة، وجوهرها ان يراقب عدم تجمع المال، ويكون قبالة خمسة ابواب، وهي "العمل الجسدي، الجهد الفكري، شرائط الزمان والمكان، المواد الأصلية والعلاقات الاجتماعية"، وبذلك لا يكون للمال قبضة على الإعلام، والجماعات الضاغطة، بشكل ديكتاتورية مغلّفة، ويكون الدور لإرادة الشعب.

والى ذلك يؤكد سماحته، في مقارباته في "الاقتصاد" و"السياسية"، ضمن موسوعته الفقهية الكبيرة، مبينا أنه "من المعلوم ان من ينتخبه الشعب بشكل طبيعي، لا يقوم بضرر الشعب بتقليص حرياته، وبتسليط المؤسسات والموظفين عليه".

ان هذا المفهوم المعاصر، هو ما يعبّر عنه معاصرة، بالمجتمع المدني ومنظماته غير الحكومية، ذات الإستقلالية والخصوصية غير الربحية، مثل المؤسسات الإعلامية، والمراكز العلمية البحثية، والمنظمات الانسانية، وجمعيات النفع العام والمنظمات المهنية، ومن بينها هيئات الواجهة للمؤسسة الدينية، والمراكز الثقافية وفعاليات التوعية فيها، وسائر جماعات الضغط في المجتمع، وهي تنظيمات وفعاليات مجتمعية، لا تسعى في أهدافها للحكم والسلطة، لكنها تضطلع بدور رقابي على الحكومة المنتخبة، فضلا عن تشكيلها لمجاميع ضغط، لمراقبة السلطة المنتخبة، في الايفاء بالبرنامج الانتخابي، الذي انتخبت على أساسه.

ومن ثم توجيه الأداء الحكومي، وفق الإرادة الشعبية للأكثرية، التي تكون هذه التنظيمات المجتمعية، قريبة منها أو جزءً منها، تتحسس حاجاتها ومتطلباتها وإرادتها، فتشكّل نسقا صاعداً، يوصل هذه الإرادة الى ممثلي الشعب، ومنهم الى الحكومة المنتخبة، المنشغلة عادة بزخم العمل، وضغط الفعاليات الإدارية، والأداء المهني، ومجمل الوظيفة السياسية.

وعليه تفرض المنظومة "الشورية" في الحكم، الإيمان بآليات الديمقراطية، بنفس الدرجة من الايمان بفلسفة الديمقراطية، وان يكون ذلك دليل عمل للكيانات الداخلة في "اللعبة" السياسية، تمارسه فعلا في الإدارة والسياسة، من خلال الإنسجام بين القول والعمل، أو بين إعتماد المسار الديمقراطي، وسيلة للمسك بالسلطة، وبين السلوك المعبر عن هذه الثقافة وأدبياتها.

إن هذا النهج السياسي، الذي بشّر به سماحة المجدد، يتقاطع فعلا، مع أية قراءة في أدبيات العمل الديمقراطي، تزعم ان الدولة هي مجموعة مؤسسات، تقوم فقط، على أساس بنية قانونية دستورية، لأنها أيضا، وفق تصورات البناء "الشوري" الإسلامي، سلوك وتصرف، يقوم على تكييف النظام السياسي نفسه، ووضعه القانوني والأدبي، تبعاً لخيارات الشعب، الذي يقرر بنفسه، وفق مبادئ الشورى وثقافتها، سلسلة الأنماط المتعلقة بذاته، خارج إطار توجيه السلطة وأشكال الاستبداد.

http://alshirazi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/آب/2014 - 18/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م