في التغيير الذاتي.. البحث عن مؤهلات النمو

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: أن يكون الإنسان صالحاً ومنتجاً لنفسه ولمجتمعه، فهو بحاجة الى جملة من عوامل مساعدة للنمو بالاتجاه الصحيح، كما الشجرة الباسقة التي تسر الناظرين في اخضرارها وثمارها وأفيائها.. كل ذلك لم يأت بالهيّن والتمنّي، إنما باجتماع عوامل عديدة في التربة والهواء والطقس وغيرها، حولت تلك البذرة الصغيرة في باطن الارض المظلمة الى شجرة كبيرة مثمرة.

بينما نجد في بعض اوساطنا تنصّل عن هذه المسؤولية والمهمة الحضارية، رغم ان المسألة تتعلق بالبناء الاجتماعي والسياسي للبلد والأمة، فالاهتمام بالإنسان المنتج والناجح، يعني ضمان سلامة جزء او عضو في جسد الأمة، وقدرته على العطاء والإنتاج.

هنالك اسباب عديدة وراء هذه الظاهرة، أهمها؛ قصر النظر وانعدام الرؤية المستقبلية والتفكير المحدود للراهن، وصب كل الجهود الذهنية والعضلية والمادية لتحقيق المكاسب الآنية. أما ان يفكر البعض باعطاء المزيد من الفرص للنمو والتغيير للآخرين على أمل النمو والعطاء، فهي مسألة في نظر هذا البعض، تكلفه المتابعة الطويلة وطول الأناة غير المتوفرة لديهم.

سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين" يشير الى أزمة في الرؤية المستقبلية لدى البعض من العاملين في الساحة، وذلك في مجالات عدة، منها التغيير الذاتي في طريق البناء والنمو. واذا نجد حالة التشضّي في الوضع السياسي والتباعد بين فئات وشرائح المجتمع مع تحسن الحالة المعيشية لدى البعض، فانها تعود بمعظمها الى حالة اليأس والاحباط من البعض الآخر بوجود فرصة لأن يشارك هو في التغيير والبناء، فان كان أميّاً – مثلاً- فالافضل له ان يبقى كذلك، او كان فقيراً لا يملك فرصة العمل المحترمة، والبيت اللائق في المكان اللائق، فانه مجبر ايضاً على تقبل هذا الواقع لانها "مشكلته" كما هو التعبير الدارج.

هذه الطريقة من التعامل هي التي توجد الشريحة المتوترة في المجتمع التي تسعى دائماً للانتقام من الآخرين، والسعي ما أمكنها للكسب بأي طريقة وسط ضجيج الحياة وتقاطع المصالح، وربما يجدون أنفسهم وسط ما يشبه الغابة، بل ونسمع بين فترة وأخرى من يردد: "إن لم تكن ذئباً اكلتك الذئاب.."!! والحديث طويل، عن النمو الخاطئ لهذه الشريحة وأسبابها الأسرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وما ينعكس على الواقع الاجتماعي وحتى السياسي والاقتصادي، حيث تزداد حالات الجريمة وانتهاك القانون وصولاً الى تغذية الارهاب والجريمة المنظمة من قبل جماعات سياسية ذات اهداف تدميرية.

بيد ان المهم هنا؛ البحث في الحؤول دون حصول هذا النمو الخاطئ، بل العكس تحقيق النمو الصحيح والمتكامل بما يضمن الخير للفرد نفسه وللمجتمع بأسره. لذا نجد سماحة الامام الشيرازي – قدس سره- ينبه الى اربع أنماط للتعامل مع الخطأ او القصور – ربما غير المقصود- من هذا وذاك، وليس نمط واحد، كما نلاحظه، وهو الرد العنيف او الإقصاء في أفضل الحالات.. فهنالك الرد الأعنف والأشد، ويعدها من صفات "الفرد غير المتزن"، واكثر ما تنطبق هذه الحالة، على الحكام المعروف عنهم العقاب على انتقاد بسيط او معارضة بالكلام، بالسجن والفصل عن الوظيفة وحتى التهديد بالموت. كما هنالك حالة الرد بالمثل.. ورغم انه – قدس سره- يعدها حالة مشروعة بنصّ القرآن الكريم، بل "هذا ما يفعله غالباً، عقلاء العالم دون الذين يريدون الاستقطاب والجنوح نحو الأفضل". والحالة الثالثة: الرد بالعفو والسماحة، اما الحالة الرابعة والاخيرة – وهي بيت القصيد- "مقابلة المسيئ بالإحسان والاستقطاب.. وهي التي توجب التفاف الناس حول المبدأ وحول صاحب هذا المبدأ..".

النمط الاخير هو خيار الأنبياء والأولياء الصالحين وايضاً المصلحين الناجحين عبر التاريخ، فهم بهذه الطريقة تمكنوا ليس فقط في مساعدة الانسان على التغيير الذاتي والتطور والنمو على الصعيد الشخصي، إنما تمكنوا من توجيه هذا التغيير الذاتي في الصالح العام. واذا نقرأ عن الثورات الجماهيرية الناجحة التي طردت المستعمر وخلصت الشعوب من الطغاة، فهي بفضل ابتاع هذه الطريقة الحكيمة والعقلانية.

وهناك شواهد عديدة من التاريخ القديم والحديث عن اشخاص لم يحالفهم الحظ في البداية لأن يكونوا مفيدين ومنتجين للمجتمع والأمة، لكن حسن التعامل مع الحالة التي هم عليها، أثمر عن تغيير جذري من الداخل لينعكس على الواقع الخارجي ويحيلهم رجال مصلحين ومؤثرين ومنتجين للأمة.

ومن ابرز الشواهد ما نلاحظه في سيرة حياة مراجع الدين الذي حملوا راية الإصلاح والتغيير والبناء، مثل صاحب الكتاب الذي نستقي من أفكاره (سماحة الإمام الراحل) الذي يعد بحق ابرز الشواهد في هذا الطريق الشائك والمعقد. كما هنالك علماء أفذاذ نهضوا بهذا الدور الحضاري، منهم الميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- زعيم الحوزة العلمية في زمانه، وصاحب الفتوى الشهيرة ضد الشركة البريطانية المحتكرة لزراعة  التبغ في ايران. هذه الشخصية القيادية تعرضت للإساءة من طالب علم في الحوزة العلمية في سامراء. ورغم طلب المحيطين به بضرورة طرد هذا الشخص من الحوزة، إلا انه كان يرفض ذلك، بل كان يجري عليه الراتب الشهري، أسوة بأمير المؤمنين، عليه السلام، الذي لم يقطع رواتب الخوارج من بيت المال، وقبله فعل رسول الله ، صلى الله عليه وآله، مع المنافقين في المدينة.

يروي سماحة الامام الراحل، بان هذا الطالب تحول الى احد علماء الدين البارزين، ثم انتقل من سامراء الى طهران ليكون وكيلاً عن المرجع الراحل. في طهرن خاض المواجهة بين ناصر الدين شاه وبين علماء الدين حول تنفيذ فتوى تحريم التبغ، وفي جلسة حوارية في طهران، استشاط الشاه غضباً من موقف العلماء الداعم للفتوى، فقال ماذا تريدون...؟! فلم يجبه أحد سوى هذا العالم الوكيل عن الامام الشيرازي. فقال له: "ان امام المسلمين حرم التبغ لانه ضرر المسلمين ونحن بانتظار تنفيذ الشاه للحكم، فاذا نفذ فبها.. وإلا نحن ننفذ الحكم بالسيف.."!

وصل الخبر الى الميراز الشيرازي في سامراء، فذكر المحيطين به في حوزة سامراء بطلبهم بفصل هذا العالم يوم كان طالباً صغيراً، لمجرد توجيه كلام غير لائق للامام الشيرازي.. ولولا بقائه في الحوزة واستيعابه ثم تطوره نحو الاحسن، لما كان له ذلك الموقف البطولي أمام الشاه العميل للاستعمار البريطاني، ولما سجل اسمه في "ثورة التنباك" الشهيرة.   

ربما يتبادر الى الاذهان فوراً، أن مسؤولية الاستيعاب والاستقطاب، موجهة الى علماء الدين الكبار والحوزة العلمية، والحال كذلك، بيد ان المسؤولية لا يتحملها طرف واحد في المجتمع والامة. إنما هي مشتركة وتقع الى المراكز الاكاديمية والطبقة السياسية والاعلام والمثقفين.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/آب/2014 - 18/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م