تعبئة المشاعر أم تسطيح الوعي؟

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: من عادة الشعوب في بلادنا استباق الاحداث واستعجال النتائج مندفعين بشحنات عاطفية وتصورات ذهنية يعتقدون انها كافية لاصدار الاحكام بما يحقق لهم المكاسب، ومنها التغيير نحو الافضل، او الحفاظ على الموجود رغم مساوئه. ومن اجل ذلك، نرى الشعارات البراقة والعبارات الرنانة، تجارة لا تبور في سوق السياسة لدينا. وعلى هذه القاعدة قامت انقلابات عسكرية وأطيح بحكام، ثم حصل حكام على عوامل البقاء في الحكم لسنوات طوال. فالرابح هنا، الحاكم وحزبه وجماعته، بينما الخاسر الشعب الذي يهتف ويصفق دون أن يعي العواقب، او يعارض دون أن يدرك الفوائد.

عندما أطيح بالطاغية صدام، تصور الكثير أن ثمة تحولاً ثقافياً وفكرياً سوف يحصل، الى جانب التحول السياسي بفضل نعمة الحرية التي حرم منها العراقيون لعقود طويلة من الزمن، و وجود مشاريع وافكار تحول بعضها الى مؤسسات عمل، لكن يبدو ان الهمّ السياسي له من القوة أن فرض سطوته على المشاعر والعقول، و استقطب الاهتمام العام نحوه، مستفيداً من الاجواء والظروف المعقدة، التي أولدت شعارات جاهزة للتسويق الاعلامي، مثل "محاربة الارهاب" او "دعم العملية السياسية والديمقراطية".

لكن كيف يحصل ذلك..؟ ولماذا نفتقد البوصلة التي ترشدنا الى بر الأمان؟

في كتابه القيّم "السبيل الى إنهاض المسلمين" لسماحة الامام الشيرازي – قدس سره- يتحدث سماحته عن "الوعي" كأحد الشروط الاساس "لإعادة الاسلام الى الحياة"، واشار الى محاولات عديدة لمفكرين ومصلحين في القرن الماضي، ثم تسائل عن سبب اخفاقهم في نهاية المطاف في تحقيق هدفهم المنشود. ويجيب سماحته بان السبب يكمن في "أن الأمة كانت تعتمد على الجزء السلبي فقط، أما الجزء الإيجابي في طرح برنامج بديل متكامل فلم يكن مطروحاً عندها، أو كان مطروحاً ولكن لم يخرج إلى حيز التنفيذ". ويوضح سماحته "الجزء الايجابي في معرفة كيفية الحكم في المستقبل وفقاً للمقاييس الاسلامية..".

لكن من اين تأتي هذه المعرفة..؟ هل من خلال الخطابات الحماسية والشعارات والوعود والنظريات..؟

انه "الوعي" لا غير.. الذي يضيئ للناس طريق الرشاد والسير بخطى ثابتة مطمئنة نحو تحقيق الاهداف المرجوة، حتى وإن طال المشوار، المهم سلامة الطريق و شفافية الرؤية، لذا نلاحظ سماحته يدعونا الى حملة توعية شاملة "بين الجماهير عبر مئات الملايين من الكتب التي تضع بديلاً متكامل الجوانب ، محدد البرامج، واضح المعالم، بينة أساليبه وأهدافه.. وما لم نفعل ذلك سوف تتكرر المأساة مرة أخرى".

ولنا امثلة كثيرة يذكر سماحته بعضها في خسارة الامة لكثير من الفرص التاريخية، وضياع جهود جبارة ودماء غزيرة وتضحيات جسام، بسبب تغليب الحماسة والعاطفة على الحكمة والعقل والمعرفة. فاضافة الى ما يذكره سماحته من تجربة المسلمين والقاعدة الجماهيرية آنذاك التي أسهمت بشكل فعال في الاطاحة بالدولة الأموية، ثم سرقة الثورة من قبل العباسيين، امامنا تجارب حديثة منها، ثورة العشرين بقيادة الامام الراحل الميرزا محمد تقي الشيرازي ضد الاحتلال البريطاني، والتي انطلقت واستمرت بالحماس والعواطف وانتهت بنفس النهج ولم تتقدم خطوة الى الامام بخلق حالة من الوعي واليقظة والتفكير لما بعد الثورة وكيفية الاستفادة من الثمار والفرص التاريخية .

ويضع سماحته – قدس سره- النقاط على الحروف في دراسة الحالة النفسية للجماهير المندفعة دون وعي باتجاه المجهول، عندما يصف حالة المسلمين بعد سقوط الدولة الاموية بانهم: "تصوّروا أن أبا مسلم الخراساني وأبا سلمة الخلاّل والمنصور والسفاح وأشباههم لو استلموا الحكم فستمطر السماء ذهباً، ولم يفكروا أن الخلافة من حق الإمام المعصوم، عليه السلام، وهو أجدر الناس بها، فكيف أسلموها لغيره؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى: لم يفكروا أن القدرات لو تجمعت بيد شخص واحد أو حزب واحد أو عائلة واحدة لاستأثروا بها ولأسكرتهم كما أسكرت الذين من قبلهم، قال الله تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}، و ورد في الحديث عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "من ملك استأثر".

الشعب العراقي اليوم أمام تجربة جديدة، بعد تكليف الدكتور حيدر العبادي لتشكيل الحكومة بدلاً عن نوري المالكي، وهو يمر في منعطفات خطيرة، تتخللها تحديات الارهاب والامن والتمزق الداخلي.مما يدعونا الى عدم تكرار أخطاء الماضي والعمل على إضاءة الطريق بنور المعرفة والثقافة لتكريس الوعي والدعوة الى اليقظة والحذر في اتخاذ المواقف واصدار الاحكام مهما كانت الاسباب، لان هذه العوامل هي التي تساعد بسط الامن والاستقرار في العراق، وليست العوامل الخارجية القادمة من وراء الحدود.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 14/آب/2014 - 17/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م