إذا جاز لنا اختزال ماهية الديمقراطية بمقولة "حكم بالشعب للشعب "
او حتى "المساواة في الحقوق الإنسانية لكل فرد ". فان ذلك لن يبيح لنا
قصر دلالتها على الوصف بكونها محض آلية للحكم أو مجرد مجموعة من
الضمانات المؤسسية لحماية حرية الأفراد عارية عن كل عمق اجتماعي أو
ثقافي أو حتى تاريخي؛ فهي قبل هذا وذاك أسلوب للحياة الاجتماعية،
والمبادئ التي تستند عليها في (الحرية، العدل، المساواة، العقلانية،
الانفتاح، احترام الاخر، المشاركة، الوعي، وتداول السلطة) تطال مجالات
اخرى من الحياة.
وإذا كان التعليم – كمفهوم – يعني عملية تشكيل للشخصية الإنسانية
لأفراد المجتمع واكتسابهم الصفات الاجتماعية والنفسية التي تجعلهم
مواطنين صالحين في حدود الإطار الأيديولوجي للمجتمع، فان تشكيل الصفات
النفسية والاجتماعية التي يضمها الإطار الديمقراطي يقع في صلب اهتمامات
وأهداف العملية التعليمية؛ وبذلك أضحى التعليم يمارس دورا رئيسا في
ارساء دعائم الديمقراطية وإنضاج ثمارها الاجتماعية عبر توعية الشعب
بمستحقاته وحقوقه السياسية وغير السياسية.
وهكذا امكن القول بعدم امكانية الفصل بين واقع المجتمع وواقع النظام
التعليمي وديمقراطيتهما، فهناك علاقة جدلية تبادلية بين التعليم وواقع
المجتمع بشكل عام وبين ديمقراطية التعليم وديمقراطية المجتمع بشكل خاص،
إذ لا يمكن الحديث عن تحقق مستوى ديمقراطي مقبول للتعليم في غياب
الحريات الخاصة والعامة وانعدام الديمقراطية الحقيقية القائمة على
المساواة وتكافؤ الفرص والمبنية أيضا على العدالة الاجتماعية والإيمان
بالاختلاف وشرعية التعدد؛ واحترام القانون والحق والحرية والعدالة
والكرامة الإنسانية والاحتكام إلى مبادئ حقوق الإنسان.
وبالمثل لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في غياب تربية حقيقية وتعليم
بناء وهادف يتسم بالجودة والإبداع والابتكار وتكوين الكفاءات المنتجة
ويحترم المواهب ويقدر الفاعلين التربويين والمتعلمين المتفانين في
البحث والاستكشاف والتنقيب العلمي والمعرفي؛ فالتعليم أداة الديمقراطية
في تطويرها وترسيخها من خلال تطوير معناها وتنمية مبادئها وتعميق
اخلاقياتها والتدريب على ممارستها والتعريف بمؤسساتها.
وهنا وجب طرح السؤال الاتي: كيف نصل إلى تحقق وتكريس مفهوم
ديمقراطية التعليم؟
قبل الاجابة عن هذا التساؤل لابد من التعريف اولا بمفهوم ديمقراطية
التعليم كمدخل منطقي للموضع مدار البحث، وبعيدا عن لغط الآراء
المتعددة، يمكن تعريف ديمقراطية التعليم ضمن الفهم المعاصر لها بكونها
"عملية لا تعنى مجرد السماح للأفراد بالالتحاق بالتعليم، بل ضمان وجود
فرص تعليمية متساوية اي ضمان فرص النجاح فيه كذلك؛ فضلا عن وجود تعامل
ديمقراطي من قبل المدرسين مع الطلاب وتنمية روح النقد وتعدد الآراء
والتسامح حيال آراء الغير والسعي وراء التفوق واحترام قرار الأغلبية
وتحمل مسؤولية القرار).
فكما هو معلوم فان الديمقراطية سواء كانت بمفهومها الخاص السياسي أو
المفهوم العام من حيث المساواة والحرية لايمكنها أن تنمو بمعزل عن
تربية صحيحة وتنمي توجهات الأفراد وتعمل على توحيد سلوكاتهم وتصحيح
مفاهيمهم بما ينسجم مع المنظومة القيمية للمجتمع الذي يعيشون فيه وبما
يحقق التكامل فيما بينهم، هذا فضلاً عن ايجاد الوعي الذي يزيد من فرص
الديمقراطية ويُحافظ على مقدرات الدول وعدم الاتجاه نحو الغوغائية أو
العديد من الأمراض الاجتماعية كالواسطة والمحسوبية والطبقية التي تعد
عامل هدم في بناء الديمقراطية فضلاً عن أن الديمقراطية تحتاج إلى بنى
مؤسسية ومجتمع مدني ووعي اجتماعي مهيأ حتى يتم ترسيخ هذه المفاهيم.
وبإسقاط ما تقدم على الواقع التعليمي في العراق وتحري امكانية
تحققه، تجابهنا للوهلة الاولى مشكلة رئيسة تقع في مركز دائرة البحث الا
وهي غياب الديمقراطية وحضور التسلط والاستبداد في كل مفاصل العملية
التعليمية.
وعلة غياب الديمقراطية او حضورها الشبحي في مؤسساتنا التعليمية
تنبثق من بؤرتين متداخلتين؛ البؤرة الاولى –وهي خارجية- ترتوي من
التصدعات التسلطية والاقصائية التي يقاسيها المجتمع العربي عامة
والعراقي بصورة خاصة سواء على مستوى علاقاته الافقية والعمودية.
والمتأتية من موروث حضاري وبنية اجتماعية ذكورية تسلطية حدية الملامح
والامزجة تسودها قيم القبيلة وتحكماتها فضلا عن عوامل البيئة
الاقتصادية المساعدة على انتاج قيم الثقافة الوصائية التسلطية المتجلية
بالنظام الريعي والانماط التقليدية من العـلاقات الاقتصادية.
وقد سرى داء التسلط هذا الى تلابيب النظام التعليمي بفعل ما يسمى
بتداعي الاثر لتظهر البؤرة الثانية للإصابة الداخلية بالمرض؛ فاضحت
الفلسفة التعليمية الغائبة كليا او الحاضرة نسبيا باتجاه تأمين هدف
وحيد في خلق انسان خاضع يخدم مصالح النخبة السياسية ورؤاها بعيدا عن اي
حس وطني او رؤية حصيفة للمستقبل، في خضم لجة من الفوضى وغياب التخطيط
وطغيان الشخصنة والمزاجية في اروقة المؤسسة التعليمية الى جانب الموروث
القديم المزمن من متلازمة الاستبداد والافساد مضافا اليها ما استجد في
عراق ما بعد الاحتلال الامريكي من انماط واليات الاقصاء. لتتولد في
دوامة ذلك معادلة مرعبة من الفوضى والتخبط كان التسلط وغياب
الديمقراطية من اهم مخرجاتها.
وهكذا اضحت مدارسنا اليوم تفتقر الى هذه المساحة الديمقراطية،
فالغالب عليها انها تقوم في اغلب الممارسات على أساس التسلط من قمة
الهرم التربوي إلى قاعدته المقهورة، فنلاحظ اللهجة الآمرة جليةً في
آلية تعامل الوزارة مع المديريات، والأخيرة مع المديرين، والمديرين مع
المعلمين، تلك اللهجة التي تفرض الطاعة العمياء على الفئة المستهدفة،
كل حسب موقعه من جانب، وتقوض أي فرصة لخلق مناخ حواري مع المتعلمين من
جانب آخر؛ فالمعلم بناءً على الامتثال والسكون في هذا الجو الاستبدادي
يحاول تأكيد سلطته على الطلبة والغاء شخصيتهم بصورة كلية عبر خلق اجواء
من الرعب والخوف في نفسية الطلبة، ابتداءً من إجبارهم على ارتداء الزيّ
الموحد، وصولاً إلى الأساليب القسرية لاستيعاب المادة التعليمية
وانتهاءا بالنظام الامتحاني المرعب والمستخدم كوسيلة مثلى لإرهاب
الطلبة وسيف مسلط لإجبارهم على الخضوع والتسليم لكل ما يتلى عليهم من
اوامر عليا.
وفي النتيجة النهائية يصبح الطالب قاعدة رخوة لهرمية مخيفة من
السلطات والضغوطات المختلفة التي تبني جدارا عاليا من التهيب وغياب
الثقة بين التدريسيين والطلاب، مع تنامي الاستعداد لدى الاخيرين لتنفيس
ذلك الاحتقان المتراكم عبر اعتماد اساليب العصيان والإقصاء؛ ولعل هذا
ما يفسر ضمنيا الاتجاه نحو العنف بكافة اشكاله كوسيلة يتيمة للتعبير عن
الذات واستعادة الحرية المفقودة. فيصبح التعليم وفق هذا المنعرج مصنعا
لإنتاج قوى التسلط والتطرف في المجتمع لا ينال منه المتخرجون إلا
قشوراً من المعرفة سرعان ما تتفسخ على محك التجارب الحياتية، والسبب في
ذلك راجع لطريقة التعليم القهري التي حُيّد فيها دور العقل والارادة
الحرة؛ وهي الثمرة المرة لأي نظام يبنى على سياسة التلويح بالعصا
والخوف والرعب وسلب الحريات مهما اختلفت أهدافه وتوجهاته.
وما تقدم لا يصرفنا عن الاعتقاد بان مشكلة مدارسنا لا تتحدد في
انعدام ادوات التواصل بين المدرس والطالب فحسب، بل في نوعية المنهج ومن
يدير العملية التعليمية ككل.
فالمنهج الدراسي لم يزل يعكس ارادة المتحكمين بالسلطة وتلك الروح
المعرفية البالية الرتيبة التي خاصمت منذ ردح طويل فضاء التطورات
الديناميكية في عالم المعرفة القائمة على التلقين دون التربية وبناء
العقلية والروحية النقدية والخلاقة.
واما إدارة التعليم، فمرتكسة في لجة موحلة من الروتين والتخلف
والبيروقراطية والجهل وغياب حقوق الإنسان وغياب روح وشرائط المواطنة
الحقيقية، وإقصاء الكفاءات العاملة ناهيك عن التعامل بالغش من أجل
تحقيق المصالح الشخصية والمآرب النفعية، والتفريط في مقوماتنا الحضارية
ومبادئنا الدينية، وتبديد ثرواتنا سفها وتبذيرا، وتهجير طاقاتنا
العلمية والأدمغة المتنورة إلى الخارج أو التخلص منها.
وعلى الرغم من هذا كله تبقى شعلة الأمل بالتغيير متقدة من بصيص
الصبر والإرادة الراسخة في نفوس الثلة المتسلحة بالإيمان والعزيمة من
أبناء هذا الوطن.
ان حل مشكلة الديمقراطية في التعليم لن يأتي إلا بتوفير ديمقراطية
حقيقية في المجتمع العراقي. والديمقراطية المنشودة (الحقيقية) عملية
تراكمية تكتسب من خلال الخبرة العلمية والعملية التي يتلقاها الجيل في
المؤسسات التعليمية وبالتالي ليس هناك طريق لضمان ثباتها واستمرارها
الا بإصلاح التعليم اصلاحا جذرياً حيث يتم استصلاح الارض جيدا، لزرع
نبتة العقلية الحرة المستقلة للطالب العراقي.
وفي رحلة الاصلاح الديمقراطي للتعليم هذه ينبغي في المقام الاول
تبني الاهداف والمنظومة القيمية القادرة على اعلاء المبادئ المحورية
للديمقراطية في الحرية والعقلانية والمشاركة والمساواة، ومن ثم تبني
سياسة تعليمية رشيدة وعملية قادرة على ترويج وتكريس تلك القيم
الديمقراطية في كل المفاصل الرئيسة للمنظومة التربوية (الادارة،
المعلم، والطالب).
وكل ما تقدم لاينصرف او ينفصل عن ضرورة تهيئة الظروف الاجتماعية
والسياسية القادرة على حماية وانضاج المناخ الملائم لإنجاح عملية
الاستنبات الديمقراطي تلك. وبداهة هذا لايتحقق بسهولة ويسر او بصورة
تلقائية وجذرية بل يستدعي ارادة وجهودا وخطط وبرامج وادوات وكوادر ووقت
غير محدود شعارها الحكمة والروية في عملية البناء.
في هذا السياق يمكن تأشير مجموعة من الآليات التطبيقية التي نتمكن
من خلالها وبواسطتها تحقيق الديمقراطية بنجاح داخل مؤسستنا التربوية
بقصد نقلها بعد ذلك إلى المجتمع من خلال دفع المتعلم ليكون ديمقراطيا
في تصرفاته وسلوكياته مع كل أفراد أسرته ومجتمعه ووطنه وأمته بدون
استثناء، وهي الآتي:
1. إعادة التأهيل الديمقراطي للمؤسسة التربوية عن طريق اعادة النظر
في توزيع السلطات، وأنماط التقويم والتوجيه والجزاءات، وفرص المشاركة
والمبادرة واللامركزية، وأساليب اتخاذ القرار الفردي أو الجماعي وتدبير
مختلف العلاقات والتبادلات والممارسات وجعلها مكرسة لقيم التعاون
والسلم، نابِذةً للتسلُّط والعُنف بأشكاله المادية والرمزية، وان تقوم
فلسفتها على احترام آليات واساليب التدابير الديمقراطية، ومن جهة أخرى
على نسق قيمي ثقافي مؤَصَّل في سياقه الاجتماعي والتربوي ومنفتح على
مقومات الديمقراطية والحداثة والتنمية البشرية والاجتماعية الشاملة0
2. تفعيل الكفاءات: من أهم الآليات التطبيقية لتحقيق ديمقراطية
التعلم وتفعيل التربية الديمقراطية هو تكوين الكفاءات الوطنية في ظل
نظام تربوي سليم يؤمن بالجودة الكمية والكيفية، ويستهدي بمنطق الاختلاف
والتعددية، كما يقدر أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، ويثني على ذوي
القدرات المتميزة والمهارات المتخصصة ويشيد بأصحاب المواهب العلمية
والفنية والأدبية والتقنية، ولن يتم هذا إلا بمدرسة إبداعية تعتمد على
الابتكار وخلق القدرات المندمجة لدى التلميذ، وتغرس فيه قيم الابتكار
والإبداع والانفتاح والحوار والتعلم الذاتي والاشتغال في فرق تربوية
وعمل جماعي مثمر. ويقول الامام علي عليه السلام "لا تقسروا أولادكم على
آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم".
3. تحديث مناهج التعليم: وتطويرها باتجاه فَتْح مضامينها على ثقافة
حقوق الإنسان، وعلى تكريس قيم التسامح، والمشاركة، واحترام الغير، ونبذ
العنف، والاعتراف بالحق في التنوع والاختلاف، وإيثار الروح الجماعية
والمصلحة العامة بدل الأنانية والتطرف والانغلاق وحضور هذه المفاهيم في
مناهج التعليم، وإدماجها بِشَكل ممنهج في إطار "ثقافة مدرسية" يفترض
تعميمها على كافة المواطنين، أو على أكبر قدر ممكن منهم على الأقل في
الظروف الراهنة، إن هذا الواقع يبرز أننا ما زلنا في حاجة إلى المزيد
من الجهود لإصلاح وتجديد هذه المناهج لجعلها أكثر تجاوبا مع مقتضيات
الديمقراطية وقادرة على المساهمة في بنائها بشكل عقلاني واضح الأهداف
والتوجهات واستراتيجيات الفعل والتطبيق0
4. التربية على حقوق الإنسان والمواطنة: تعد التربية على حقوق
الإنسان والمواطنة من أهم الآليات لتفعيل الديمقراطية الحقيقية، فتعريف
المتعلم بحقوقه وواجباته تجعله يعرف ماله وما عليه، وتدفعه للتحلي بروح
المواطنة والتسامح والتعايش مع الآخرين مع نبذ الإرهاب والإقصاء
والتطرف، ويعني كل هذا أن تعليم النشء ثقافة حقوق الإنسان من أهم السبل
الحقيقية لتفعيل الديمقراطية المجتمعية والتربوية.
5. العمل الجماعي: يعد العمل من أهم الآليات لتحقيق الديمقراطية
التربوية الحقيقية؛ لأن الاشتغال في فريق تربوي داخل جماعة معينة يساعد
التلميذ على التفتح والنمو واكتساب المعارف والتجارب لدى الغير، كما
يبعده عن كثير من التصرفات الشائنة ويجنبه أيضا الصفات السلبية
كالانكماش والانعزالية والانطواء والإحساس بالخوف والنقص والدونية
ويساعده على التخلص من الأنانية وحب الذات، ولا يمكن للدولة أن تحقق
التقدم والازدهار إلا إذا عملت في إطار فريق جماعي، فمن خلال العمل
داخل فريق يمكن تحقيق ديمقراطية التعلم وديمقراطية التعليم.
* باحث مشارك في مركز الفرات للتنمية
والدراسات الاستراتيجية
www.fcdrs.com |