نهاية الحكومات التقليدية

رؤية الى الشكل النهائي لحكومات المستقبل

محمد بن سعيد الفطيسي

 

عند محاولة البحث عن تعريف دارج لمفهوم الحكومة لدى اغلب الناس فانه يتبادر لأذهاننا من أول وهلة عدد كبير من المؤسسات الحكومية والموظفين العاملين تحت مظلتها بداية من الحاكم والوزراء حتى اصغر عامل فيها، وعدد اكبر من القوانين والقرارات والتوجيهات التي تقوم بتسيير العمل الرسمي في تلك الحكومة بغض النظر عن أنواعها وأشكالها وتوجهاتها او تسمياتها ومسمياتها التي تحدد تكوينها وبناءها، كالتكوين الفلسفي مثالا على ذلك حكومة ليبرالية متحررة او حكومة اشتراكية او جماعية او إسلامية، او بناء على بناءها الدستوري كحكومة ملكية او جمهورية او التصنيفات الجديدة كالحكومة الفردية: الملكية المطلقة – الجمهورية الديكتاتورية، او حكومة القلة: الملكية – الجمهورية او حكومة الأغلبية أو الحكومة الشعبية الديموقراطية ذات النظام البرلماني – النظام الرئاسي، لذلك يختلف تعريفها اصطلاحا باختلاف تكوينها وشكلها النهائي.

 وتجمع اغلب المعاجم على تعاريف متقاربة حول مفهومها، فتعرف بأنها الهيئة التي تمتلك القوة الشرعية لفرض الترتيبات والأحكام والقوانين اللازمة للحفاظ على الأمن والاستقرار في المجتمع وتنظيم حياة الأفراد المشتركة، ويعرفها البعض بأنها: شكل من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات، ويعرفها آخرون بأنها تلك الأجهزة التي تمارس الدولة عن طريقها سلطتها السياسية من حيث كيفية إسناد السلطة وكيفية ممارستها، وباختصار يمكننا القول بأنها: مجموعة المؤسسات الرسمية والأفراد الذين يعملون تحت مضلتها، ويمارسون السلطة باسمها وبقوة القوانين والتوجهات التي تعمل بناء عليها.

 ونحن عندما نتحدث عن نهاية الحكومة التقليدية بتسمياتها ومسمياتها سالفة الذكر او الشكل النهائي للحكومات فإننا لا نقصد فشل بعض تلك الحكومات السابقة بشكل نهائي بمقوماتها ومعاييرها التي تعمل عليها ومن خلالها اليوم، بقدر ما نؤكد على إمكانية صلاحيتها من عدمه للبقاء والاستمرار في الألفية الثالثة بكل رسوخ وثبات وقوة بناء على العديد من المعطيات والتحولات القائمة والقادمة في تكوين بناء وهياكل حكومات المستقبل من جهة، وبناء على معايير وقواعد ومقاييس ومقومات نجاح الحكومة في الألفية الثالثة والتي نرى من وجهة نظرنا أنها وحدها ستؤكد بقاء واستمرار تلك الحكومات او انقراضها وتلاشيها في العقود المتبقية من القرن 21 من جهة أخرى.

 وتتركز ابرز تلك التحديات والعقبات القائمة والقادمة والتي تواجه وستواجه الحكومات بكل أشكالها وتوجهاتها، ومنها ومن خلالها يمكن استنتاج ابرز الأوراق الرابحة والتي ستشكل مواضع القوة والرسوخ والثبات للحكومات القائمة، وبناء عليها يمكن تسميتها حكومة مستقبلية سيكتب لها الاستمرار والنجاح والتفوق في الألفية الثالثة، وتلك التحديات والعقبات والعوائق هي:

(1) تراجع او انعدام منسوب ثقة المواطن بحكومته، نظرا لتقلص مشاركة الرأي العام او أبناء المجتمع في الحياة الرسمية، كالمشاركة في اتخاذ القرار على سبيل المثال لا الحصر وتفرد الحكومة بكل ذلك، والتي نعتقد من وجهة نظرنا أنها ابرز العقبات التي تعاني منها معظم الحكومات الراهنة بمختلف مسمياتها وتوجهاتها، ومنها تبرز معظم التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية وغير ذلك، والتي تتسبب اليوم بالصراعات والانقسامات والثورات الداخلية والمشاققات السياسية والثقافية بين الشعوب وحكوماتهم، وهي بكل تأكيد نتاج واضح لعدم وجود الشخصيات القيادية والاختصاصية المناسبة.

(2) افتقاد المجتمع لدستور عادل وقوانين شاملة يتم تطبيقها على الجميع دون استثناء او تمييز من جهة، ومرنة وقابلة لمواكبة تغيرات وتطورات المراحل الزمنية ومتطلبات العصر من جهة أخرى، وكذلك افتقادها لمؤسسات مجتمع مدني قوية وفاعلة، ويقصد بمؤسسات المجتمع المدني إجرائيا: مجموعة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمهنية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيقها أغراض متعددة سواء كانت نقابية او ثقافية او اجتماعية، فالقوانين هي من يحقق العدل والذي هو أساس الملك والاستقرار والطمأنينة من جهة، أما مؤسسات المجتمع المدني فهي ما يحقق التوازن في عملية بناء الدولة بمختلف جوانبها وتقوم على تعزيز مفاهيم الحكم الرشيد فيها من جهة أخرى.

(3) سيطرة المركزية الحكومية على الحياة العامة والبعد الاستراتيجي والاستشرافي للتخطيط، وتفشي بيروقراطية المكاتب في عصر التقدم التكنولوجي والحواسيب العملاقة، حيث ولدت البيروقراطية مع نشوء الدولة الحديثة المعززة بجيش ضخم من الموظفين، ويعرفها مبتكرها العالم الألماني ماكس ويبر بأنها: (تنظيم المكاتب الذي يتبع مبدأ الهيكلية المكاتبية، أي أن مكتبا صغيرا في السلطة والصلاحية يتبع مكتبا أعلى منه، والمكتب الأعلى منه يتبع مكتبا أعلى آخر، والبيروقراطية هي المكاتب التي تستخدمها مؤسسات الدولة لتسيير الشئون العامة)، انظر في أسباب فشل البيروقراطية في دراسة لنا تحت عنوان: قراءة استشرافية: مستقبل البيروقراطية الإدارية ومركزية السلطة الحكومية في الألفية الثالثة.

(4) وجود أفراد وشخصيات غير مناسبين في مناصب يفترض أنها مناصب قيادية واختصاصية لابد ان يتوفر في شخوص من يتقلدها المعايير القيادية او الاختصاصية السليمة والمناسبة لإدارة المرحلة الزمنية الراهنة بكل تحدياتها الداخلية او الخارجية والتي تنعكس سلبا او إيجابا على مجتمع والدولة، لان وجود القيادات المناسبة يترتب عليه وجود قوانين عادلة وشاملة وقرارات سليمة ومناسبة ومرئيات وخطط ذات بعد ورؤية مستقبلية قادرة على تحقيق مفهوم الرسوخ والثبات والاستمرار لحكومة المستقبل من جهة، وبناء عليها يتحقق الأمن والاستقرار والطمأنينة والكرامة والديمقراطية في ذلك الكيان الوطني.

 إذا ومن خلال النقاط سالفة الذكر يمكننا التعرف على أهم وابرز الأوراق الرابحة والتي ستشكل مواضع القوة والرسوخ والثبات للحكومات القائمة في الألفية الثالثة والتي نجملها في النقاط التالية:

(1) الشفافية الحكومية والعمل على توطيد ثقة المواطن بكل الوسائل والسبل في المؤسسات الرسمية والموظفين العاملين بها والقوانين والقرارات والخطط والمرئيات الحكومية، فبدون الثقة في كل ذلك سيرتفع منسوب الشك والريبة والخوف من كل تحركاتها وتوجهاتها وقوانينها وموظفيها، بداية من الحاكم وحتى اصغر عامل بها، ما سيؤدي في نهاية المطاف الى تفتت النظام وانقسام الدولة.

(2) ضرورة وجود دستور عادل وشامل تنبثق منه جميع القوانين ويحتكم إليه في كل اختلاف، فالدستور والقوانين هي الحاكم الحقيقي لأي دولة مدنية تسعى لتحقيق الشكل النهائي لإنسانية الإنسان، وكذلك ضرورة العمل على تقوية مؤسسات المجتمع المدني سواء كانت تلك المؤسسات برلمانية او ثقافية او اجتماعية، فالدولة (من اجل تهيئة شروط صيرورتها كدولة وطنية حقا، ومن اجل مواجهة عوائق تلك الصيرورة، فإنها تحتاج الى إطلاق صيرورة ونمو مؤسسات المجتمع المدني من اجل توسعة جغرافيته، ومعها توسعة مساحة المجال السياسي فيه)، و(تخطئ نخبة الدولة والسلطة ان هي اعتقدت ان قيام مجتمع مدني حديث يهدد كيانها، بل ان استقرار من حيث هي دولة ومعه استقرار المجتمع المدني برمته، رهن برسوخ مؤسسات هذا المجتمع، وثقافة هذا المجتمع الحديثة في الحياة الوطنية).

(3) تقليص المركزية الحكومية والعمل على مبدأ فصل السلطات الثلاث، السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية، فمبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية يخدم فكرة التخصص ويرسي سيادة القانون وهو من أهم الشروط لبناء مجتمع ديمقراطيّ، حيث يحول الفصل دون جمعها وتركيزها في يد فئه أو مجموعه من الأفراد، (كما يعد هذا المبدأ خير ضمانة لحماية حقوق وحريات الأفراد، ومنع الحكام من الاستبداد وإساءة استعمال السلطة، فجمع السلطات بيد شخص واحد أو هيئة واحدة يتيح الفرصة لإساءة استعمال السلطة وانتهاك حقوق وحريات الأفراد من دون وجود رقيب، ومن دون إعطاء فرصة للأفراد للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم أمام جهة أخرى......

......... أما توزيع السلطات بين عدة هيئات عديدة مع الفصل بينها، فانه يفسح المجال لكل هيئات في مراقبة أعمال الهيئتين الاخريين. بما يؤدي إلى منعها من التجاوز أو الإساءة وانتهاك حقوق وحريات الأفراد وقد عبر عن هذه الميزة المفكر الفرنسي مونتسكي قائلا: إن مبدأ الفصل بين السلطات قد وجد لكي توقف كل سلطة من السلطات الأخرى عند حدها وانه إذا اجتمعت سلطتان أو أكثر في يد واحدة انعدمت الحرية ولو كانت يد الشعب ذاته كذلك فان مبدأ الفصل بين السلطات يؤدي إلى ضمان تحقيق مبدأ المشروعية وسيادة القانون).

(4) تولي المناصب الحكومية وخصوصا القيادية منها ومن ثم التخصصية بناء على شرعية الانجاز والسيرة الذاتية والشهادات العلمية وليس شرعية التقليد، فلا يمكن بحال من الأحوال ان تتقدم امة وطنية يديرها شخوص ولوا ذلك إكراما لأجدادهم وآباءهم او لانتماءاتهم القبلية او المذهبية او الحزبية او غير ذلك من الشرعيات المدمرة فقط، وهم لا يملكون أي شيء يقدمونه لوطنهم، لا انجاز علمي ولا فكري، ففاقد الشيء لا يعطيه، بل على العكس من ذلك فأنهم سيصبحون العائق الأكبر أمام تقدم الوطن وتنميته ونهضته، وسيكونون المعطل الأبرز للتحديث والتطوير وسبب رئيسي لانخفاض او تراجع وانعدام منسوب الثقة سالف الذكر، كذلك ومما يجب التنبه إليه في هذه الناحية وهو المدة الزمنية لتولي المناصب القيادية والتخصصية، بحيث يتوجب ان لا تزيد من وجهة نظري عن دورتان برلمانيتان كأقصى تقدير.

 عليه فان الحكومات التقليدية اليوم ستتوجه نحو التآكل وستسير نحو الانهيار مع الوقت نظرا لعدم قدرتها على مواكبة التغيرات المعاصرة في تطور الوعي الإنساني والمجتمعي تجاه قضايا الحكم وإدارة الدولة الحديثة كما سبق واشرنا من جهة، ولعدم قدرة الأكثر منها على مواكبة المتغيرات التكنولوجية السريعة في الألفية الثالثة من جهة أخرى، وهو أمر لابد من إدراكه والتنبيه إليه والسعي الى تقليص اكبر قدر ممكن من تبعاته واحتواء ما يمكن احتواءه من انعكاساته السلبية على كيان الدولة ومستقبل الحكومة التي تقوم بتسيير الحياة اليومية بكل أشكالها فيها، وليؤكد على استمرار شكل واحد من أشكال الحكومات خلال الفترة القادمة، وهو الشكل النهائي لها في الألفية الثالثة، الا وهو حكومات المستقبل " الحكومة الالكتروشعبية" والتي ستنجح في تحقيق المعايير سالفة الذكر فقط.

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

[email protected]

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 12/آب/2014 - 15/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م