عندما تتقزم الدول أمام الإعلام

 

شبكة النبأ: تسمى السلطة الرابعة في الدول المتحضرة، والسبب في دورها التكاملي والبناء، وليس في كونها "سلطة" للهيمنة والحكم والتلاعب بمصائر الناس، كما هو التصور السائد. الاعلام باختصار، يمثل الغذاء المعنوي للناس، فالمعرفة والوعي والثقافة.. يُسهم الاعلام بنشرها بمختلف وسائله، لذا نرى المجلة او القناة الفضائية لبلد ما، تعكس ثقافة البلد وهوية شعبه، وفي العلاقة بين المجتمع والدولة، يلعب الاعلام دور الرقيب لصالح الشعب، وكما المحكّم لثقافة القانون لصالح الدولة والحكومة. وإذن، لا وجود لحالة صراع بين الاعلام وبين السلطات الثلاث (الحكومة والبرلمان والقضاء) في بلاد الحريات والتعددية السياسية والعمل المؤسساتي واحترام حقوق الانسان.

هذه السمة لا يمكن ان تكون للاعلام في العالم العربي ودول العالم الثالث، والسبب أن الدولة (الحكومة) التي تعد نفسها السلطة الاولى، ترفض الرقابة والمحاسبة من خارج نطاق الدولة وبعيداً المصالح السياسية والحزبية والفئوية، لذا فانها ترى في الاعلام مصدر خطر عظيم على مصالحها ووجودها، حتى وإن وجدت بعض المؤسسات الثقافية النزيهة ذات النوايا الحسنة والافكار البناءة التي ترفد وسائل الاعلام بما يفيد المخاطب (القارئ – المشاهد - المستمع..) في مستواه الثقافي والمعرفي. فهي الاخرى لن تشفع لها هذه الدوافع الايجابية والشفافية في إقامة علاقات ودية مع الحكم، لذا نلاحظ جدار عدم الثقة عالياً بين وسائل الاعلام، وبين السلطة في بلادنا بشكل عام، وبما أن إعلام اليوم، هو إعلام الصورة قبل ان يكون الكلمة، فان الصورة في بلاد "السلطة الاولى" يجب ان تكون للقائد الضرورة او الزعيم أو... وما الاعلام إلا وسيلة لتكريس صورة الحاكم والثقافة الصمنية في الاذهان، لا أن تقدم صورة عن الوعي والفضيلة والإصلاح وكل ما من شأنه بناء الانسان والمجتمع.

ومهما كان الزعيم والقائد من الخصال والصفات الحسنة، إلا انه لن يتمثلها ويتجسدها بالكامل، فهو غير معصوم، وهذه قاعدة مفهومة لدى معظم الناس في بلادنا، وهو يفسر ميول المشاهدين بشكل واضح نحو المسلسلات الدرامية العربية و الاجنبية لانها تحمل مضامين ثقافية، بغض النظر عن صحتها او سقمها، وهي تقدم باسلوب خاص يتقنه المعنيون بالاعلام المرأي ويحققون من ورائه مكاسب عديدة، فالمشاهد – على الاغلب- يبحث عن القناة التي تعطيه النمط والاسلوب والطريقة بشكل جاهز ليعيش على ضوئه، اكثر مما يبحث عن القناة التي تقدم له الزعيم الذي يبحث عن الاسلوب والطريقة الفضلى لفرض وجوده في عيون الناس.

وهنا يكمن الخط الفاصل حيث تشخص قامات طوال أمام أقزام.. فما فائدة القائد والزعيم غير المؤثر والذي لا يتابع اخباره احد، بينما يلاحظ المتابعة والتأثير من وسيلة اعلامية، ربما تكون قناة فضائية او مجلة او صحيفة..؟ لذا نلاحظ التوتر والارتباك يبين على ملامح دول كبيرة ذات امكانات عظيمة عندما تظهر قناة فضائية – مثلاً- بطرح فكري جديد تعطي للانسان حرية التفكير والاختيار وتعيده الى فطرته وشخصيته الحقيقية.

لكن ما الذي يدفع بعض الدول لان تكون لها هكذا عاقبة، رغم ما لديها من القدرات والامكانات..؟

لاشك هنالك اسباب عديدة وراء هذه الظاهرة الخطيرة نذكر منها اثنين على سبيل الاختصار:

الاول: حالة الاستبداد بالرأي

فهي بداية نشوء الديكتاتورية الحزبية والسياسية، وبذرة في داخل النفس الانسانية، تقود شعوب بكاملها الى المخازي والمهالك، عندما يكون القرار واحداً لشن حرب معينة، او اتخاذ موقف او اجراء إزاء قضية مبدأية وكبيرة، تتعلق بمصير وهوية وعقيدة الناس.

هذا الاستبداد والديكتاتورية هو السيف المسموم الذي يضرب حرية  الرأي والعقيدة، ويختزل حرية التعبير على فئة معينة محيطة بالحاكم، في مؤسساتها ووسائل اعلامها، بل حتى مفكريها ومثقفيها.

الثاني: الشعور بالضعف والنقص

انه الهاجس القاتل الذي طالما يقضّ مضاجع الحكام في قصورهم الرئاسية أمام مؤسسات ثقافية فاعلة ووسائل اعلام لها عمق في الخطاب وجذور في الفكرة. هذا الشعور نابع من الصراع على الوجود مع قوى اخرى تفوقها في الامكانات والقدرات، لذا فان هذا الحاكم او ذاك، يبذل كل ما تمتلك بلاده من قوى انسانية وثروات لضخ عوامل القوة والمنعة في جهازه الحاكم والظهور بمظهر المتماسك العصي على الضغوط والاستفزاز او الانهيار. ومن الطبيعي ان يتسم هذا الوضعبالحساسية، فأي كلمة تنشر لابد ان تكون في هذا الاطار حتى لا يخسر الحاكم يوماً واحداً من التعبئة والتأييد من الجميع، أما الخارج عن الاطار، فهو مدعاة للقلق وتكريس لحالة الضعف واستشعار بمزيد من الضعة أمام القوى الاخرى.

البعض يتصور أن هكذا اجواء اعلامية، لن يكون في صالح اصحاب الرسالة الاعلامية مهما كانوا، لأن السلطة الحاكمة تفرض الامر الواقع، كما فعلت الانظمة السياسية خلال العقود الماضية، لذا عليها، ومن اجل البقاء والاستمرار، ان تبدي نوعاً من الليونة والتعاطي، بل والتنازل عن بعض المبادئ الى حين، بحجة خطورة الوضع السياسي واستحقاق المرحلة لتعبئة الجهود والطاقات لمواجهة العدو المشترك، الذي يتمثل اليوم إما بالارهاب او بالتحدي الغربي والصهيوني، وايضاً لضمان الامن والاستقرار وعدم جر البلاد الى الاضطراب، بما يضر بحياة الناس.

نعم؛ هذه ركائز الانظمة السياسية الديكتاتورية.. التخلف في الفرد والهشاشة في المجتمع والشعب، والخوف من القادم، وطالما عملت الانظمة السياسية العربية التي اصبحت اليوم في خبر كان، على تكريس هذه النظرية لضمان فترة اطول في الحكم، وبذلك تحارب "الاعلام الرسالي"، الذي يضخ القوة والتماسك في الفكر والعقيدة ويجعل الانسان يثق بنفسه وبانتمائه وهويته، قبل ان يثق بالسلطة التي تحكمه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 10/آب/2014 - 13/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م