يتحدث التاريخ عن الملك محمد الثاني عشر وهو آخر ملوك غرناطة –
المملكة الأخيرة للمسلمين في الأندلس - الذي كنى نفسه بالغالب بالله،
فيما كناه أعدائه بالصغير، وكناه أهل غرناطة بالتعيس أو المشؤوم، وكيف
انشغل بسبب رغبته الجامحة في السلطة بصراعات عدة منها صراعه مع أبيه
علي بن سعد وعمه أبي عبد الله محمد الزغل، ولم يمنعه طموحه في الوصول
إلى السلطة من الاستعانة بأعداء شعبه ملوك قشتالة وأركون الذين انتهت
علاقتهم به إلى مطالبته في عام 1489 بتسليم غرناطة، وعندما رفض طلبهم
فرضوا عليه حصارا انتهى باستسلام المدينة ونفيه خارجها في عام 1492،
فنظر التعيس الصغير إلى مملكته المهزومة بحسرة وألم وبكى، فقالت له أمه
: ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال.
إن قصة هذا الحاكم الفاشل تفرض نفسها بقوة عند تحليل سلوك الحكومة
العراقية ورئيسها السيد نوري المالكي، لاسيما في الظرف العصيب الذي يمر
به البلد منذ العاشر من حزيران والى الوقت الحاضر، فعلى الرغم من
التحديات الوجودية لكيان دولته السياسي ووحدتها السيادية ومآسي
مكوناتها الاجتماعية المحزنة، لا زال السيد المالكي يعاني من عوز كارثي
بالشعور بالمسؤولية، وعجز كامل عن الاستعداد لتدارك الأمر وإصلاح
مسارات العملية السياسية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الهاوية، لذا
تجد الحديث في أروقة الحكومة العراقية العتيدة يدور بشكل أساس حول
أحقية رئيس الوزراء بالولاية الثالثة، ومشكلة تحديد المقصود بمفردة
الكتلة البرلمانية الأكبر، والإصرار على مراعاة الاستحقاقات الانتخابية،
وإعراب السيد المالكي عن استعداده لتلافي عيوب الولايتين الماضيتين في
حال اختياره للولاية الثالثة..
هذا الخطاب السياسي الفج لا يترك مجالا للشك في أن رئيس وزراء
العراق لم يستوعب بعد الدرس بشكل صحيح ليعود له رشده وتوازنه السياسي،
لأن ما حصل من أحداث منذ سقوط الموصل وما تلاها نسف بشكل كامل كل
منجزاته في سنوات حكمه المنصرمة، فقد بدأ الرجل ولايته الأولى برفع
شعار القضاء على المليشيات المسلحة التي تروع المواطنين وتعيث في الأرض
الفساد مهما كان انتمائها الطائفي أو العرقي، ونجح إلى حد ما في تحقيق
ذلك في فترة ما، لكن هذا المنجز تلاشى في الوقت الحاضر بعد تنامي دور
المليشيات في الدولة واضطرار الحكومة إلى الاستعانة ببعضها من اجل منع
الدولة من الانهيار أمام زحف التنظيمات الإرهابية بزعامة تنظيم داعش.
كما أن سعيه إلى شن حرب لا هوادة فيها على الفساد والمفسدين، لكون
الفساد حسب وصفه –آنذاك- الوجه الثاني للإرهاب لم يكتب له النجاح، فبعد
ثماني سنوات من حكمه لا زال العراق يحتل المراكز المتقدمة بين دول
العالم الأكثر فسادا، بل وتحول الفساد من المستوى الفردي إلى المستوى
المؤسسي الذي يعرقل كفاءة الأداء الحكومي ويزيد من محنة العراقيين.
وصرفت خلال هذه السنوات ميزانيات سماها بالانفجارية من اجل إصلاح
البنية التحتية المهدمة للدولة ووضعها على سكة النهوض والتقدم، إلا أن
هذه الميزانيات أنفقت دون اثر ملموس، إذ لا زال المواطن العراقي يعاني
من نقص حاد في الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والصحة والطرق
والجسور والتعليم وغياب البيئة النظيفة وضعف الدخل وغيرها من ضروريات
الحياة التي يتساوى في الحاجة إليها البشر جميعا، حتى وصل الأمر وبحسب
تقارير المنظمات الدولية إلى حد تصنيف الشعب العراقي في فئة أكثر شعوب
العالم شعورا بالتعاسة وانعدام السعادة.
وعمل المالكي بصفته القائد العام للقوات المسلحة على بناء جيش عراقي
قوي محترف إلى جانب أجهزة أمنية أخرى لا تقل عنه كفاءة، لتحقيق الأمن
والاستقرار للشعب، فأنفقت عشرات المليارات من الدولارات التي تعود
ملكيتها لشعب العراق على تشكيل وتأهيل هذه المؤسسات، وتحمل المواطنون
العراقيون شتى صنوف التضييق نتيجة لوجود الجيش والشرطة وغيرهم بين
صفوفهم وقدموا الأعذار لهم بداعي عملهم على حمايتهم من خطر الإرهاب،
لكن للأسف كشف الاختبار الحقيقي لكفاءة ومهنية وعقائدية هذه المؤسسات
يوم العاشر من حزيران أنها مجرد نمر من ورق يمكنه خنق حياة المواطنين
العاديين، لكنه غير قادر على مجابهة عصابات إجرامية متمرسة تروم سفك
دماء العراقيين وانتهاك أعراضهم ومقدساتهم ونهب أموالهم وتمزيق وحدتهم.
وعندما كانت الأزمات السياسية تشتد بين المالكي وخصومه السياسيين
يحتج عليهم بأن تشدده في مواقفه نابع من حرصه على سيادة ووحدة العراق،
لكن الأحداث الأخيرة وضعت العراق في وضع قريب من الانقسام، إذ خرجت
مساحات شاسعة من أرضه عن سيطرة الدولة وخضعت لسيطرة تنظيمات إرهابية
تتمدد كل يوم على حساب حكومة العراق وحرية وكرامة مواطنيه.
من خلال ما تقدم، نحتاج إلى القول أنه صار من المفيد أن يدرك السيد
المالكي أنه فشل أمام مواطنيه في تحقيق أي من الوعود التي قطعها على
نفسه، وأنه عند تشبثه بالسلطة من جديد لن تكون له وعود بديلة أو برنامج
حكومي جديد يقدمه إلا البرنامج المرتبط بمقتضيات تحقيق الأمن،
والاستقرار، ومحاربة الفساد، وتطوير البنية التحتية للدولة، وحماية
سيادتها ووحدتها، وترسيخ التعايش بين مكوناتها الاجتماعية، وتحسين
علاقتها ببيئتها الإقليمية والدولية، وهي ذات الملفات التي عجز عن
النجاح في انجازها في دورتين انتخابيتين. وفراغ جعبته وعجزه عن تقديم
ما هو جديد لشعبه وشركائه ربما يكون هو السبب الذي دفع المرجعية
الدينية العليا في النجف الأشرف إلى أن تؤكد في مواقفها وبياناتها
المتكررة على ضرورة تشكيل حكومة عراقية جديدة في منهجها وشخوصها تحظى
بقبول وطني واسع، ويكون حكامها مستعدين للتخلي عن مصالحهم الضيقة من
اجل مصلحة وطنهم، وقد اشترك مع المرجعية في رؤيتها هذه كل من إيران
كلاعب إقليمي مؤثر في الساحة العراقية، والولايات المتحدة كلاعب دولي
مهم، فضلا عن الأمم المتحدة كمراقب أممي يمتلك الخبرة الواسعة في توقع
مسار الأزمات ومتطلبات علاجها، مما يدل على أن وعود المالكي وبرامجه
الحكومية لم يعد لها موثوقية لدى الأطراف الفاعلة داخل العراق وخارجه.
إن ما فهمه الجميع من الأحداث الخطيرة التي يمر بها العراق اليوم،
وعجز المالكي عن فهمه أو رفض الاعتراف به هو أنه أصبح عبئا على طائفته
(الشيعة) لكونه بات يهدد تماسكها السياسي وقوتها الانتخابية في حال
استمراره على عناده وتشبثه بالسلطة، وعلى الحزب الذي ينتمي إليه - وهو
حزب عريق ناضل طويلا من أجل إسقاط الدكتاتورية والتأسيس لعراق ديمقراطي
حر- بغلقه البدائل السياسية أمام قيادات هذا الحزب وإضعاف قدرتها على
المناورة والتأثير في الجمهور من خلال فرض نفسه كخيار قيادي وحيد لا
يجرؤ أحد على معارضته أو تعديل منهجه وسلوكه، وعلى شركائه من الأكراد
والسنة العرب الذين أعلنوا مرات عدة عدم استعدادهم للعمل في ظل حكومة
يرأسها، كما أصبح عبئا على حلفائه الإقليميين لاسيما إيران التي ساندته
في مواقف كثيرة، لكن مصلحة إيران الحقيقية لا تكمن في عراق مقسم تتصارع
على أرضه مكونات اجتماعية طائفية وقومية قد تنقل صراعها إلى الداخل
الإيراني تماما كما انتقل الصراع من سوريا إلى العراق، بل إن مصلحة
إيران الحقيقية تكمن في عراق واحد آمن ومستقر ليكون نافذة نفوذها
المتنامي إلى العالم العربي، فضلا عن كونه سوقا تجارية واعدة أمام
بضائعها المختلفة، وهذا ما لم ينجح المالكي في تحقيقه.
كما أن الكثير من الدول الإقليمية والكبرى والأمم المتحدة أرسلت
إشارات صريحة وضمنية تفيد بضرورة إيجاد شخصية جديدة ترأس حكومة العراق،
وهذه المواقف المعلنة والخفية لجميع هذه القوى تستدعي أن يستجيب
المالكي لها ويضعها في نظر الاعتبار، ليفسح المجال أمام تشكيل حكومة
عراقية جديدة بوجوه جديدة ربما تنجح في انجاز ما عجز عن انجازه لأن
الإصرار على مواقف سياسية ضيقة تنعدم فيها الرؤية الإستراتيجية البعيدة
قد تدفعه هو وكل السياسيين العراقيين للبكاء مستقبلا على عراق لم
يحافظوا على وحدته، وسيادته، وكرامة وحرية شعبه، كرجال أمناء وأقوياء
وأكفاء؟.
* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات
الإستراتيجية
www.fcdrs.com
khalidchyad@yahoo.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |