الحرب العالمية الأولى... ذكرى مؤلمة تفتح أبواب الحاضر المخيف

 

شبكة النبأ: تجتمع اوربا مرة أخرى على أنقاض واقع مأساوي، حدث قبل مئة عام، لتجدد التزامها امام العالم بحفظ السلام والامن العالميين، فبعد احداث الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها الملايين، نتيجة الصراعات الدموية والمجاعة والاوبئة التي اجتاحت المنطقة، ونزوح ملايين أخرى، إضافة الى ما سببته من تدهور اقتصادي وخلافات حادة بين المجتمعات الاوربية، يحاول قادة اوربا، بناء مجتمع اوربي متماسك، من خلال السعي نحو الاتحاد والتكامل الاقتصادي.

ويبدو ان اوربا تعيش اليوم تحت ضغط سياسي واقتصادي وأمني كبير، كما يرى محللون، فدول الاتحاد الأوربي التي بالكاد نجت من انهيار اقتصادي وشيك عام 2008، ما زالت تعيش على واقع التقشف والسياسات الاقتصادية الحذرة لتجنب المزيد من الانهيار من جهة، ومنع انفراط عقد الاتحاد من جهة أخرى.

فيما تحول الخلافات السياسية، والتي أدت الى صعود اليمين المتطرف الى البرلمان الأوربي في سابقة هي الأولى من نوعها، دون الاتفاق على الخطوات القادمة بشأن اوربا الموحدة، سيما وان العديد من الدول الاوربية أعلنت انها من الممكن ان تنسحب من الاتحاد الأوربي اقتصاديا، الامر الذي ينعكس، بصورة او أخرى، على الوحدة السياسية للاتحاد ككل.

اما على المستوى الأمني، فخطر التنظيمات الإسلامية المتطرفة، التي دعت الى القيام بهجمات انتحارية داخل اوربا، اخذت على محمل الجد، بعد ان وجدت لها أصداء من جهاديين اوربيين شاركوا بعمليات انتحارية في سوريا والعراق، وجاءوا من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا والنمسا وغيرها من دول اوربا، وقد حذر العديد من الخبراء الأمنيين، من الخلايا النائمة داخل الاتحاد، إضافة من عودة الجهاديين الاوربيين من سوريا وغيرها بعد ان تلقوا التدريبات التي تؤهلهم للقيام بهجمات داخل بلدانهم.

استخلاص دروس الماضي

فقد دعا القادة الاوروبيون المجتمعون في لييج (شرق بلجيكا) لاحياء ذكرى اجتياح القوات الالمانية بلجيكا قبل مئة سنة الى "استخلاص العبر" من الماضي وسط تصاعد الازمات من اوكرانيا الى غزة، وقال ملك بلجيكا فيليب، في خطابه ان "اوروبا التي يسودها السلام، اوروبا الموحدة، اوروبا الديموقراطية، جدودنا حلموا بها وانجزناها اليوم، فلنعتز بها ونواصل تحسينها"، من جانبه شدد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند على انه "لا يمكننا ان نكون مجرد حراس للسلام نستعيد ذكريات الماضي  نحن ايضا امام مسؤولياتنا" وتطرق مطولا الى الازمة في اوكرانيا حيث اسقطت طائرة مدنية ماليزية والى "المجازر بحق المدنيين" في سوريا والعراق ومأساة قطاع غزة.

وقال الامير وليام ممثل بريطانيا وبلدان الكومنولث التي شاركت في تلك الحرب الدامية، ان "احداث اوكرانيا تذكرنا بان انعدام الاستقرار ما زال ينتشر في قارتنا"، واعلن رئيس الوزراء البلجيكي ايليو دي روبيو "من دون احترام الاخر والتسامح، ليس من سلام ممكن"، بعد تكريم الاف الضحايا المدنيين البلجيكيين الذين "قتلوا في هذا الشهر المشؤوم في اب/اغسطس 1914، بيد المحتل"، ولم يطلب الرئيس الالماني يواكيم غاوك في كلمته العفو لكن دعا باقتضاب الى "استخلاص العبر المريرة والرهيبة" من الماضي، وقال "اليوم في اوروبا حلت قوة القانون محل قانون الغاب"، ومثل النمسا وارمينيا وايرلندا وصربيا ومونتينيغرو ورومانيا وبلغاريا والبانيا ايضا رؤساؤها، وفي المجموع دعا ملك بلجيكا 83 دولة شاركت في الحرب العالمية الاولى الى احياء تلك الذكرى.

وبالمناسبة انتشرت تعزيزات امنية كبيرة شملت 650 شرطيا في المدينة لضمان امن حوالى 15 من الملوك ورؤساء الدول بمن فيهم الملك فيليبي السادس ملك اسبانيا والرئيسان الفرنسي فرنسوا هولاند والالماني يواكيم غاوك والامير وليام ممثل بريطانيا ترافقه زوجته كايت، وبالتالي اضطرت اغلبية السكان الى الاكتفاء بشاشات عملاقة لمتابعة الاحتفالات، اما سكان الجوار فقد امروا بملازمة منازلهم واغلاق نوافذهم، وتوجه الامير وليام وزوجته الى مقبرة سانت سمفوريان العسكرية الصغيرة في مونس، للمشاركة في مراسم تكريم الجنود القتلى مع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون والامير هاري، وفي هذه المقبرة يرقد اول جندي بريطاني قتل خلال الحرب العالمية الاولى وآخرهم الذي قتل في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 يوم وقف اطلاق النار الذي وضع حدا للأعمال العسكرية. بحسب فرانس برس.

وبعد اختلاط بالحشود برفقة الزوجين الملكيين البلجيكين شارك هولاند من جهته في حفل فرنسي بلجيكي في مبنى بلدية لييج، وصرح هولاند "قبل 100 عام نشأ" بين فرنسا وبلجيكا رابط دم لا يمكن لشيء حله، وفي الوقت نفسه، ارادة مشتركة في السلام"، وفي بريطانيا ايضا احتفل بالذكرى المئوية لاعلان الحرب على المانيا بسهرة شموع في دير وستمينستر في لندن، وتسيير موكب مؤلف من سيارات تعود الى تلك الفترة ومراسم دينية، وعلى مسافة الاف الكيلومترات، في استراليا ونيوزيلندا، تم تكريم عشرات الجنود المتحدرين من هذين البلدين الذين سقطوا في المعارك خلال الحرب العالمية الأولى، وبحكم التحالفات، اثار اجتياح بلجيكا في الرابع من آب/اغسطس 1914 الاعمال العدائية في الحرب العالمية الاولى، بعد انتهاك المانيا حياد المملكة الصغيرة للاطباق على القوات الفرنسية.

وصمدت الحاميات والابراج الاثنا عشر المحيطة بلييج عدة ايام امام قصف المدفعية الالمانية التي لم تتغلب عليها الا باللجوء لاول مرة الى مدافع من عيار 420 ملم المعروفة باسم "برتا الضخمة"، ورغم سقوط المدينة في 16 اب/اغسطس، سمحت مقاومتها غير المتوقعة بتأخير زحف قسم من القوات الالمانية، فوفرت مهلة قصيرة ثمينة للحليفين الفرنسي والبريطاني، واشادت الصحافة الانغلو-سكسونية "ببلجيكا الصغيرة الشجاعة"، وانتقمت القوات الالمانية من تلك المقاومة بارتكاب فظائع اودت ب 6500 مدني واثارت استنكار العالم الغربي.

سراييفو ورسالة الوحدة

فيما أحيت سراييفو الذكرى المئة لاغتيال أمير نمساوي وهو الحادث الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى بحفل أحياه اوركسترا فيينا السيمفوني بعث برسالة وحدة في بلد منقسم وقارة تعاني وطأة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وبث الحفل على عشرات من محطات التلفزيون والإذاعة وتحدث عن فترة امبراطورية الهابسبرج، ودفع اغتيال الأمير فرانز فرديناند ولي عهد النمسا والمجر وزوجته صوفي صباح أحد أيام شهر يونيو حزيران عام 1914 على يد البوسني الصربي جافريلو برينسيب (19 عاما) القوى الكبرى إلى خوض الحرب، وقتل أكثر من عشرة ملايين جندي وانهارت امبراطوريات بسبب الحرب.

وبحلول نهاية القرن العشرين كانت سراييفو تحت حصار قوات صرب البوسنة أثناء انفصال البوسنة الدامي عن يوغوسلافيا السابقة، وبينما تسعى البلاد للتصالح مع تاريخها تباينت مواقف الاطراف المختلفة من دوافع برينسيب والأثر الذي تركه في التاريخ، ويرى زعماء صربيا وصرب البوسنة في برينسيب بطلا لذا قرروا مقاطعة فعاليات احياء الذكرى في سراييفو وعبروا عن غضبهم مما وصفوه بأنه محاولة للربط بين الحرب العالمية الأولى وحرب البوسنة وإلقاء اللوم عليهم، ويقول ميلوراد دوديك وهو زعيم صربي بوسني كثيرا ما يهدد بانفصال الصرب "رصاص جافريلو برينسيب لم يكن ضد ولي عهد النمسا والمجر لكنه كان من أجل الحرية والتحرير". بحسب رويترز.

وفي مدينة فايزجراد الشرقية المطلة على نهر درينا سيعاد تمثيل حادثة الاغتيال ومحاكمة برينسيب، وترتبط المدينة في ذاكرة الكثيرين في منطقة البلقان ببعض من أفظع الجرائم التي ارتكبتها قوات صرب البوسنة بين عامي 1992 و1995، وفي سراييفو حل الرئيس النمساوي هاينز فيشر ضيف شرف على الحفل في قاعة مجلس البلدية التي أعيد ترميمها والتي تعرف باسم فيتشنيشتا حيث حضر فرديناند حفل استقبال يوم 28 يونيو حزيران 1914، وغادر الأمير وزوجته في سيارة مكشوفة لكن السائق أخد طريقا خاطئا وأطلق برينسيب عليهم النار من مسدس من طراز براونينج على ضفاف النهر.

وهاجمت النمسا الصرب بعد الاغتيال بشهر وسارعت الدول العظمى بالمشاركة في القتال، واحترقت قاعة فيتشنيتشا التي أصبحت فيما بعد المكتبة الوطنية عام 1992 بنيران قوات صرب البوسنة واحترق نحو مليوني كتاب، ويحمل المبنى لوحة تذكارية تدين "الصرب المجرمين" الذين قصفو المكان، وقال رئيس الوزراء الصربي الكسندر فوتشيتش ان هذه اللوحة هي السبب في عدم حضوره، وذهب إلى فايزجراد بدلا من ذلك، وقال كليمينز هيلزبرج رئيس الأوركسترا وعازف الكمان الرئيسي في مؤتمر صحفي "إنه حفل رمزية في مكان رمزي، نريد تقديم رؤية لمستقبل مشترك في سلام"، وكشف الصرب النقاب عن تمثال لبرينسيب في شرق سراييفو، وقاموا بترميم منزل عائلته الذي احترق أثناء حرب البوسنة ليصبح متحفا.

القاتل الذي يتذكره صرب البوسنة

الى ذلك يبدو شرق سراييفو عالما آخر بعيدا عن أفكار أباطرة آل هابسبورغ وذلك القاتل المثالي الذي أشعلت طلقاته الحرب العالمية الأولى، وتمتد البنايات ذات الارتفاعات المتوسطة التي تتميز بلونها الواضح، بطول الشوارع العريضة الخالية من الأشجار، فيما تشير اللافتات المكتوبة بالحروف السيريالية أن زائر المكان يوجد في القطاع الصربي من البوسنة أي جمهورية صربسكا، لكن على رقعة من الأرض البائسة المعرضة بشكل كامل إلى شمس فصل الصيف الحارقة في منطقة بالبلقان، يقف العمال هناك وهم يتصببون عرقا إجلالا للرجل الذي أوصل نفوذ الإمبراطورية النمساوية-المجرية على البوسنة إلى نهاية مأساوية.

ويسرع العمال هناك لاستكمال حديقة البلدية الصغيرة التي ستكون مركزا لتمثال غافريلو برينسيب، الشاب البوسني الذين أطلق النار على الأرشيدوق فرانز فرديناند في 28 يونيو/ حزيران 1914، ويقول رجل عقب خروجه من متجر للديكورات، "فتاريخيا، كان جافريلو برينسيب شخصا مهما، اعتاد برينسيب أن يلعب دورا هاما في مجتمعنا ثم فجأة تغير هذا الدور"، وتقول سيدة أخرى: "أعتقد بأن جافريلو برينسيب يستحق أن يُشيد له نصب تذكاري"، وفي نزهة قصيرة وبعيدة إلى قاعة مبنى البلدة، يقدم عمدة يوبيسا كوسيتش مشروب الراكيجا، وهو مشروب كحولي تشتهر به منطقة البلقان ومصنوع من التفاح.

وأضاف العمدة: "هناك العديد من النقاشات المختلفة التي دارت حول دوره وما قام به، فنحن نعتقد بأنه (برينسيب) ليس إرهابيا، بل كان لديه أفكار ثورية عن الحرية، وليس فقط بالنسبة للصرب، وكان ينتمي إلى الحركة السلافية"، ففي يوغوسلافيا السابقة، وهو دولة السلاف القومية التي خرجت من رحم الحرب العالمية الأولى، لم تكن تلك التصريحات تثير إلى حد كبير أي جدل، إلا أنه بعد صراعات منطقة البلقان التي كانت تغذيها النزعات العرقية في التسعينيات، أصبحت سيرة برينسيب، كشخص ينتمي إلى صرب البوسنة، تشير انقساما كبيرا.

ولا يزال يصر عمدة كوسيتش على أن تشييد نصب تذكاري لقاتل الأرشيدوق النمساوي لا ينبغي أن ينظر إليه باعتباره عملا استفزازيا للجماعات العرقية الأخرى في البوسنة، ويضيف: "تشييد تمثال لبرينسيب ليس عملا ضد المصالحة، فلدي وجهة نظري الخاصة عن التاريخ، كما هي وجهات نظر المواطنين في بلدتي، إذ ينظرون إلى برينسيب كبطل"، فوجهة النظر تلك قد تكون مختلفة إلى حد كبير وسط مدينة سراييفو، التي تبعد نحو 20 دقيقة بالسيارة، ويعود العديد من المباني هنا إلى فترة ما قبل عام 1914، وهي بمثابة تذكرة يومية بأن البوسنة كانت ذات يوم جزءا من الإمبراطورية النمساوية-المجرية، وبالنسبة لبعض مسلمي البوشناق (مسلمي البوسنة)، وهم الغالبية هنا، كانت طلقة برينسيب بمثابة الشرارة التي دفعت البلاد نحو تلك المأساة. بحسب بي بي سي.

ويقول فيدزاد فورتو، المحرر في وكالة أنباء تابعة لعرقية كروات البوسنة: "كانت عواقب ما قام به برينسيب وخيمة بالنسبة للبوسنة"، وأضاف: "لم تكمل البوسنة وجودها في يوغوسلافيا، ولم يجرى الاعتراف بمسلمي البوسنة حتى عام 1968"، ويعتبر فيدزاد برينسيب إرهابيا، وهو الموقف غير مثير للجدل في مناطق البوشناق في البلاد، حيث يعتبر سكان تلك المناطق برينسيب شخصا قوميا من الكيان الصربي بدلا من شخص مثالي ينتمي للعرقية السلافية، حتى إن الإشارة إلى أن الأمبراطورية النمساوية-المجرية كقوة احتلال فشلت في إقناع المراقبين بأن برينسيب ساهم في تحرير البوسنة.

ويضف فيدزاد الذي تعود أصوله إلى آل هابسبورغ: "كانوا لا يزالون حكاما أفضل من مملكة يوغوسلافيا أو يوغوسلافيا الشيوعية، يمكنك البحث في السجلات التاريخية، لترى كيف اهتمت الإمبراطورية النمساوية-المجرية بقضايا، مثل سيادة القانو، لقد خسرنا كثيرا في 1918"، وبالتالي، فإن الاحتفالات التي ستقام في وسط سراييفو ستتخذ شكلا مختلفة تماما لتلك الموجودة في الجزء الشرقي من المدينة، وستزرو أوركسترا فيينا الفيلهارموني، مقر بلدية سراييفو (سيتي هول)، وستعزف هناك مجموعة مختارة ترجع إلى عهد آل هابسبورغ، بما في رباعية الإمبراطور لهايدن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/آب/2014 - 10/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م