الموصل وتجربة الإرهاب.. بين الخط العراقي والخط الداعشي

 

شبكة النبأ: عندما تمكنت "داعش" من السيطرة على الموصل ومناطق واسعة حولها، ثم التمدد السريع في مناطق من كركوك ومن ثم الزحف باتجاه بغداد، ساد الاعتقاد أن هذا التنظيم سيكون القوة العسكرية الوحيدة في الساحة، بيد ان وجود عناصر من النظام البائد، من عسكريين وضباط مخابرات، وايضاً بعض ابناء العشائر العراقية المناوئة للحكومة، الى جانب هذا التنظيم في عملياته العسكرية أعطى مدلولات عديدة عن حقيقة العلاقة بين الجانبين، حيث يمكن القول أن أمامنا قوتين مختلفتين؛ الإرهابيين القادمين من الخارج، والإرهابيين من الداخل، و من المسلّم أن أهل الارض يعدون انفسهم المعنيين اكثر بقضية الصراع السياسي مع الدولة العراقية الجديدة، وتحديداً  مع حكومة نوري المالكي، فأنهم يرون المستقبل لهم وليس لغيرهم.

ان نسف مرقد نبي الله يونس ومرقد نبي الله شيت، عليهما السلام، في الموصل، وايضاً عمليات التهجير القسري للأقليات الدينية ونهب ممتلاكتهم ومصادرة عقاراتهم، وحتى استباحة اعراضهم، وفرض الجزية عليهم، كلها جاءت في سياق النهج الطبيعي لهذا التنظيم الذي يستقطب المئات من المتطوعين الشباب من شتى انحاء العالم، بعد إيهامهم بأنهم يقدمون على "أرض الخلافة الاسلامية"!.

هذا الخطأ المتوقع والمنزلق المرسوم أساسا في طريق "داعش"، مهّد الطريق أمام ظهور مليشيات مسلحة تنشق عن القوة الموحدة سابقاً ضد بغداد، لتعلن دفاعها هذه المرة ليس عن "أرض الخلافة"، وإنما عن مدينة الموصل والأقليات المسيحية والايزيدية وغيرها والحفاظ على مقدساتهم وأرواحهم وممتلكاتهم من جرائم ووحشية "داعش".

المراقبون السياسيون رصدوا تحركات في خطين متوازيين داخل العراق للاستفادة من أخطاء ومنزلقات "داعش"؛ الخط الأول، يتمثل في رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي وشقيقه أثيل، الذين يعدان أنفسهما "حماة الموصل"، كون انهما من ابناء المدينة، وذلك في تشكيل مليشيات مسلحة ترفع شعار تحرير المدينة من "داعش"، والخط الآخر، يتمثل في عزة الدوري، الشخصية المتوارية عن الانظار الذي يقود معظم بقايا التشيكلات العسكرية والمخابراتية للنظام البائد، حيث يلتف حوله ضباط مخابرات وعسكريون سابقون اضافة الى أتباعه من "رجال الطريقة النقشبندية". والاثنين بصدد البحث بقوة وجدية عن دور في مستقبل الوضع  السياسي في العراق.

وقد لفت المراقبون تبرؤ عناصر النظام السابق وبشكل سريع من ممارسات "داعش" والإفصاح لأول مرة عن توجهاتهم ومنهجهم في هذا الوقت بالذات، ونُقل عن احد البعثيين السابقين ضمن الجماعات الإرهابية أن "تنظيم داعش لا يسعى الى ان يخسر حاضنته فقط، بل انه يسعى الى تلطيخ سمعتنا وتوريطنا في موضوع تهجير مكونات محافظة نينوى من الشيعة والمسيحيين، في حال سكوتنا على تهجيرهم ونهب ممتلكاتهم.. اذا سكتنا عن ذلك، فهذا يعني أننا راضون عن أفعال داعش، لان السكوت من علامة الرضا كما يقال، اما اذا تصدينا لهذه الافعال فنحن ننقذ اسمنا ونعلن براءتنا منها، ونحن حزب علماني لا نؤمن بهذه الممارسات الطائفية".

هذا الموقف الجديد من خط الارهاب في الداخل العراقي – إن جاز التعبير- من خط الإرهاب الداعشي، دفع بالمراقبين لأن يفسروا الرفض الشديد لمبادرة أسامة النجيفي تشكيل "كتائب الموصل" المسلحة تحت شعار "تطهير الموصل" من الدواعش، إذ العين الواحدة على الشق السياسي من المكوّن السنّي الموجود في بغداد والمشارك بقدر كبير بالقرار السياسي في الدولة، وأكثر من عين على الشق العسكري – الإرهابي الذي يخوض معارك ضارية ضد الجيش العراقي متحدياً الدولة العراقية ومهدداً البلد بالتقسيم والتمزق بحجة استحصال الحقوق التي يتحدثون عنها، والتي طوي ملفها منذ أيام الاعتصامات في الفلوجة وغيرها.

بل ان المراقبين والمتابعين باتوا على قناعة تامة بأن وراء الانتشار العسكري السريع لداعش في بداية الأمر، واستمرار سيطرتهم على الموصل، بل واستمرار تهديدهم لمناطق عديدة، حتى تخوم الخط الفاصل مع اقليم كردستان، والصمت الدولي والإقليمي على ذلك، كل ذلك ينبئ عن وجود ارادة اقليمية ودولية في ايجاد يد عسكرية ضاربة بيد سنّة العراق لتكون الوسيلة الناجحة للحصول على المزيد من المكاسب، ربما الى حد تشكيل نوع من الفيدرالية على اساس طائفي في الموصل والانبار وصلاح الدين على شاكلة التجربة الكردية. فقد حقق "داعش" خلال الايام الماضية، عجز عن تحقيقه سنة العراق خلال العشر سنوات الاخيرة. مما يمكن القول معه إن هناك نوايا واضحة لدى الواقفين في الواجهة السياسية في بغداد، والموجودين في ارض المعركة في البساتين وبين الاحراش وفي الصحاري، من ابناء العشائر وغيرهم، حلّ محل "داعش" كتنظيم وعناصر، وهم حسب عديد المصادر، ليسوا بذاك العدد الكبير المبالغ فيه في الاعلام، حيث نُقل ان هناك المئات من جنسيات مختلفة وصلوا العراق للالتحاق بهذا التنظيم، في حين تؤكد المصادر أن معظم الملثمين المشاركين في عمليات "داعش" إنما هم من ابناء المدن العراقية "الساخنة"، ولعل تخفيهم خلف اللثام يؤكد ويعزز هذا الاعتقاد، في حين نرى الافغاني والشيشاني والمغربي والسعودي مكشوفي الوجوه أمام عدسات الكاميرا الخاصة بالتنظيم.

يبقى الحديث عن احتمال اندلاع معارك طاحنة وعلى نطاق أوسع مما يجري الآن من اغتيالات وتصفيات هنا وهناك للدواعش على يد ابناء الموصل، فهذا متروك للقادم من الايام والتطورات في العراق بشكل خاص والمنطقة بشكل عام. فاذا تيقن "الخط العراقي – الإرهابي" انه يخسر كل شيء في الساحة وانه سيندثر مع "داعش" بفعل الضربات الجوية واكتمال السيناريو المعد لهم، فانهم سيقدمون على كل شيء لإنقاذ أنفسهم وحفظ وجودهم في الساحة، حتى وان اقتضى الامر الاعلان عن حرب مكشوفة مع الدواعش، كما حصل مع تنظيم "القاعدة" في الانبار عام 2006.

في مقابل هذا الرأي، هنالك رأي ربما لا يتقاطع كثيراً من حيث المبدأ، إلا انه يرى ثمناً باهظا تدفعه الجماعات العراقية بمختلف توجهاتها وانتماءاتها وتلحق الدمار والخسائر الفادحة بأهل المناطق السنية ليس في الموصل فقط، وإنما في سائر المناطق ذات الاغلبية السنية، لاسيما اذا عرفنا أن مدينة الفلوجة في محافظة الانبار تعيش تحت ادارة "داعش" وقد غابت عن اهتمام الاعلام بشكل مريب وعجيب، والحقيقة الاخرى أن "القاعدة" لم تخض حرب مفتوحة مع من يسمون بـ "الصحوات" في الانبار او الذين يدعون القتال ضدهم وتحرير اراضيهم من ابناء العشائر، وإنما هنالك اوامر وتعليمات من جهات عليا أوعزت بالانسحاب ثم تفكيك التنظيم، بمغادرة غير العراقيين، وهم قلّة قليلة، وبقاء العراقيين ليتحولوا الى "صحوات" ويشملهم العفو او "الدمج" وغير ذلك. بينما الامر في الموصل مختلف تماماً، فهناك محترفي قتل جاؤوا من بلاد بعيدة، من الشرق والغرب ومن أقاصي العالم يحملون معهم آمال كبيرة، منها مساعدة "اخوانهم السنة"، وهم بين قنّاص وذبّاح وخبير في اعمال التفخيخ والنسف، ومع قلّتهم فانهم يشكلون قنبلة هائلة اذا انفجرت تحدث اهتزازاً عنيفاً في المجتمع السنّي. لذا فان القادم من التطورات ربما يحمل مفاجآت كبيرة مع استمرار الوضع في صفوف الجماعات الارهابية على هذا التناقض والتعارض في الممارسات والتوجهات، وربما هذا تحديداً ما تنتظره النخبة السياسية الحاكمة في بغداد، لصنع نصر او انجاز من خلال تعرض "داعش" الى ضربة قاضية من الداخل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/آب/2014 - 10/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م