الاستقلال.. تجاوزته الشعوب وتتوقف عنده النخبة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ما أن يطرح الحديث عن العمل الثقافي في الساحة على صعيد الإعلام والنشر والبحث والدراسة، حتى يطرح البعض الى جانبه حديثاً عن "الاستقلال" لهذه المؤسسة الاعلامية - الثقافية، او ذاك المركز الدراساتي وهكذا.. فثمة من يقول او يشترط: اذا تحققت الاستقلالية لدى المدير والمحرر والكاتب، حينها يمكن توقع النجاح، لان الناس – بحسب هؤلاء- لديهم حساسية من بعض الجهات الممولة او المغذية فكرياً وعقائدياً.. وهذا له جانب من الصواب لقربه من الواقع، فالناس قبل ان يقرأون الكتاب، او يقلبون الصحيفة او المجلة، او يختارون قناة فضائية، او حتى يتوجهون الى مركز ثقافي، يسألوا لمن هذا؟.

ان جانب الصواب في هذا الموقف العفوي، هو للتحقق من هوية الفكر والثقافة التي تتبناها هذه المؤسسة او ذلك المفكر، لاسيما مع دخول العوامل المساعدة الى حد الانطلاق الصاروخي في النشر الثقافي والفكري، اهمها العامل السياسي متمثلاً في "الحرية"، والعامل التقني متمثلاً في التطور المذهل في عالم الاتصالات المجانية عبر "الانترنت" حول العالم. إذن؛ هنالك قاعدة يستند عليها الناس في تمييزهم الجيد عن الرديء من الفكر والثقافة، ولو بنسبة معينة.

ثم لا تنسى هذه الشريحة المثقفة التي تعد نخبة المجتمع، انها خاضت تجربة الاستقلال أول مرة على صعيد التراب والوطن ضد المستعمرين والغزاة، وبعد تسطير ملاحم بطولية، استعادت الشعوب استقلالها بطرد المستعمر ولو ظاهرياً وعسكرياً. هذه الملاحم والمواقف البطولية، لم تأت من أشخاص "لا منتمون" او اشخاص نازلون من السماء!. انما هم ابناء الارض الذين انطلقوا إما من دوافع دينية كما حصل في ثورة العشرين العراقية، او دوافع وطنية كما حصل في سوريا ولبنان والجزائر وغيرها. وفي المرحلة اللاحقة بدأت الشعوب تتطلع الى الأفضل من الحياة، حيث الوعي والتطور والعمران من خلال نهضة ثقافية وعلمية أسوة بالشعوب التحضرة والمتقدمة في العالم، فهي ليست بأفضل منها من حيث القدرات الانسانية والخيرات والثروات والموقع الاستراتيجي الذي تحظى به معظم بلادنا في المنطقة، اذ لا بلد اسلامي اليوم، إلا وله موقع مؤثر على الصعيد الجيوسياسي في خارطة العالم.

واليوم فان شعوبنا، وتحديداً الشعب العراقي، لم تتحقق له الاستقلالية من الاستعمار الخارجي، إنما من الاستعمار الداخلي ايضاً، متمثلاً بالديكتاتورية والنظام السياسي الفاسد الذي جسّد كل معاني الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات.

بينما اليوم فانه يقرر مصيره بيده من خلال التجربة الديمقراطية، رغم المآخذ عليها، فهي لم تكن بأسوء من النظام البائد في كل الاحوال. مع كل ذلك، ما يزال البعض يطالب بـ"الاستقلال" وعدم ربط هذه الوسيلة الاعلامية او تلك المؤسسة الثقافية بجهة ما، كما لو أن عقدة "الاستعمار" و"الاستبداد" عصية على الحل لدى هذا البعض، او ان ثمة تصور بعدم امكانية أية جهة او تيار ثقافي او ديني من النجاح، مازال له "طعم ولون ورائحة"!.

هنالك اعتقاد من البعض، انه حتى هذا الموقف التشنّج من "الانتماء" له ما يبرره – مع ظهور مساوئ بعض التيارات الثقافية والفكرية، وتحولها من الكتب والدراسات والمنتديات وحتى التنظيمات بهدف الإصلاح والبناء والتغيير في بلادها، الى عصابات مسلحة وقطاع طرق تنتهج التكفير ثم القتل بأبشع الطرق، فالفكر الذي يدفع صاحبه الى ارتكاب جرائم مريعة مثل حرق انسان او قتل طفل رضيع او هدم المساجد ومراقد الأولياء الصالحين والاغتصاب وغيرها كثير.. تدعو كل انسان، مهما كان، للتوقف والتأمل في أمر الفكر والثقافة بشكل عام. وهل بامكان تيار ثقافي او تنظيم طلابي او عمالي او حزب سياسي من انتاج الوعي والثقافة ثم بناء البلد وخلق الأمن والاستقرار؟.

الاجابة عن السؤال الطويل – العريض، سهلاً جداً اذا تذكرنا حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "لا يعرف الحق بالرجال.. اعرف الحق تعرف أهله". أما كيف يُعرف الحق..؟ فالامام، عليه السلام، في احاديثه ومواقفه الكثيرة، أشار الى القرآن الكريم والى السيرة النبوية المطهرة وايضاً الى العقل، وربما يكون جلّ ما جاء في "نهج البلاغة" من خطب وكلمات ورسائل، هي لإثارة "دفائن العقول"، لابناء تلك الحقبة التي عاصرها، وكذلك لابناء جيلنا الحاضر، بل وكل الانسانية الى يوم القيامة، ان يلتزموا الطريق الذي لا يتناقض مع العقل والضمير ومع الثوابت التي جاءت بها السماء لمصلحة الانسانية.

وللحقيقة نقول: ان المرحلة التي يمر بها الشعب العراقي، وايضاً الشعوب الاسلامية، تُعد من أخطر المراحل في تاريخها، إذ تتم كتابة التاريخ من جديد، وتتم صياغة نمط جديد من الحياة وفق افكار وثقافات معينة، الامر الذي يتعين على النخبة المثقفة التعجيل في أمر الانتماء والهوية لتكون الشعوب على بينه من أمرها إزاء كل ما يقدم لها من بدائل وخيارات، وهذا بدوره يسهّل عليها معرفة الحق وأهله". واعتقد ان هناك من يتفق معي، بأن معظم المشاكل والازمات السياسية والفكرية الدائرة في بلادنا، مردّها الى الغموض المخيف في الرؤية والصعوبة في التقييم الى حد الشعور بالخطر، الامر الذي يدفع بالكثير الى العزلة والانكفاء على الذات او اتخاذ حالة "اللاموقف"!. وهذا تحديداً ما يجعل جماعة من الافراد، غامضة في فكرها ومنبع قدراتها المالية والتنظيمية، مثل "داعش" من أن تكتسح الارض وتستبيح الدماء والاعراض وتعمل كل شيء تحت مسمّيات وشعارات تدعي انها استقتها من الاسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/آب/2014 - 7/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م