في ذكراه الثالثة عشر: الإمام الشيرازي ظاهرة موسوعية فكرية شاملة

 

شبكة النبأ: يشكل الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، بفكره الموسوعي المتوقد، ظاهرة فكرية شاملة، أحاطت بجميع المجالات وسبرت أغوارها، وبحثت فيها وفق ضوابط علمية وحدسية، تمكنت من تقديم الكثير من المعالجات والبدائل، التي تتميز بالوضوح وسهولة التطبيق، عندما يقرر أولى الامر واصحاب القرار الاخذ بها، لتحسين الواقع المعاش لعموم المسلمين في العالم، وقد وردت هذه المشاريع والفكرية ذات الطابع الموسوعي، في مؤلفات الامام الشيرازي، التي ربتْ على (1400) مؤلَّف وكراس، قدم فيها كل ما تحتاج إليه أمة الاسلام في السياسة والاقتصاد والادارة والتعليم والصحية والبيئة وسواها من مجالات الحياة التي يتحرك الانسان ضمن فضاءاتها.

فقد انشغل الامام الشيرازي بقضية التنوير أيما انشغال، وقدم في هذا المفهوم كل ما يُسهم في تطوير العقل والرؤية الاسلامية الصحيحة لعالم اليوم، وقد جاءت هذه الرؤية الموسوعية في ما قدمه الامام من افكار ومفاهيم غاية في الوضوح عبر مؤلفاته المختلفة، يقول الكاتب (شاكر سعيد) في مقاله الذي يحمل عنوان (مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي): إن الشيرازي بحر متلاطم الامواج ليس من السهولة سبر اغواره لما عرف عنه سعة العلم وشفافية الاسلوب ووقوفه على علوم انسانية مختلفة وكثرة مؤلفاته التي ناهزت 1200 كتاب حتى لقب بنابغة الدهر وسلطان المؤلفين. وهذا البحث باوراقه المعدودة ليقصر عن الاحاطة بفكرة شمولية راودت الشيرازي وسخر الكثير من وقته لاجلها ودبجها بيراعه الشريف، الا وهي التنوير، والتي آثرنا ان نعطيها سمة (المفهومية) اشارة إلى مضامين الفكرة في كلماته رضوان الله عليه.

ويضيف الكاتب نفسه: لقد انصب اهتمام الامام الشيرازي على تهيئة قادة الفكر بالشكل الذي يجمع بين روح الاسلام ومتطلبات العصر كي تفهم فئات القاعدة من المجتمع الاسلامي ان الاسلام يجاري التطور بكافة الوانه بما يجلب المنفعة ويدفع المفسدة وفق الاصول والمسائل الفقهية المألوفة.

هذه بعض هموم الامام الشيرازي التي أحالها الى افكار قابلة للتطبيق، وتشمل كل ما يتعلق بالحياة العملية والعلمية، وهذه بطبيعة الحال تتطلب أولا توافر القادة الفكريين، أولئك الذين يتميزون بصناعة الافكار القادرة على تطوير حياة الامة.

الشيرازي ونظرية اللاعنف

من الامور المهمة التي انشغل فيها الامام الشيرازي، هي قضية اللاعنف كطريقة حياة للفرد والمجتمع، فقد وضع الامام نظريته المعرفة (بنظرية اللاعنف)، وقدم فيها للمسلمين وللبشرية جمعاء، قواعد واضحة، يمكنها أن تحتوي الصراع ولا تلغيه، بمعنى عدم الانجرار الى الحروب من خلال الفشل في احتواء الصراع.

يقول الكاتب حسن آل حمادة في مقاله (السلام واللاعنف في فكر الامام الشيرازي): لعلّ المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، يُعد واحداً (من أبرز العلماء والفقهاء، الذين مارسوا نقداً لاذعاً ضد العنف)، وقد تميز (رحمه الله) عند تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف أنه ذهب بها عريضة؛ لتشمل مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته، وبأفراد أسرته، ومحيطه الاجتماعي، وكذا علاقته بالدولة والنظام الحاكم فيها، وانتهاءً بعلاقته بالآخر، أياً يكن هذا الآخر. وبمعنى ثانٍ؛ فإن الإمام الشيرازي لم يُقصر تنظيره -حول فقه السلم واللاعنف- فيما يرتبط بالجانب السياسي فحسب، بل انطلق بطرحه ليضفي على هذا المفهوم بُعداً أوسع وأشمل؛ لذا نجده (يرفض العنف بكل أشكاله، كما يعتبر اللاعنف نظرية متكاملة، ومنهج سلوك متواصل، وخياراً حضارياً ينبغي أن نوفر عوامل نجاحه الذاتية والموضوعية).. ويقول في هذا الصدد: (إذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح، والاجتماع على رأي صائب، لكي نحصل على النتيجة المطلوبة، يجب علينا أن نسلك طريقاً بعيداً عن العنف، ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين، حينئذ نصل موفقين إن شاء الله تعالى إلى الغاية والهدف.

وعندما نطبق مبدأ اللاعنف في حياتنا، فإن الاصلاح سوف يصبح قاب قوسين او ادنى من الجميع، يقول الشيخ ناجي زواد في هذا المجال: قليلون هم الذين نذروا أنفسهم طوال الحقب التاريخية للتصدي لعملية التغيير والإصلاح في تاريخ الأمة، وقد بدلوا كل ما بوسعهم رغم ما يجري عليهم من ظروف قهرية، وأحوال صعبة، لتصحيح مسيرة الأمة وتجديد فاعليتها وفكرها وثقافتها، وعلى ممر التاريخ الإنساني قلما برز من يقوم على صياغة مناهجها وتراثها ضمن نظريات ورؤى تنهض بها من وهدة الضياع والشتات، وتدفع بها إلى ركب الحضارة والانطلاق. ومن الذين غدوا بإسهاماتهم وعطاءاتهم لإصلاح وتغيير الوضع الداخلي في الأمة، وتجديد فكرها وثقافتها لاستنهاض قدراتها وإمكانياتها الإمام الشيرازي (قدس سره) وقد طرق الكثير من الأبواب وتعرض لمحاور متعددة، وكان له في هذا الفن خبرة واسعة، حيث أثرى ساحة الأمة بإعماله الأدبية والفكرية والمهنية.

أصالة مشروع الامام الشيرازي

لذلك يتميز مشروع الامام الشيرازي بأصالته، كونه ينبع من واقع المسلمين أنفسهم، مع الاخذ بالاعتبار، التداخل مع التجارب الانسانية وإمكانية وضعها في خدمة المسلمين وتطوير حياتهم نحو الافضل، واصالة المشروع، تعني القدرة على التجديد في معالجة جوانب الحياة كافة، فضلا عن القدرة على تقديم الخطوات العملية اللازمة للتجديد والتغيير نحو الأحسن.

يقول الكاتب برير علوي السادة في دراسة له عن مشروع الامام الشيرازي: (إن أهم ما يميز هذا المشروع أصالته وانبثاقه من المنهج الإسلامي، فقد استطاع الإمام الشيرازي أن يقدم أطروحة رائعة في التجديد دون أن يمس بأصالة المنهج، فهو قد أشبع البحوث الجديدة مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والحقوق... بالكثير من الآيات والروايات، ففي السياسة طرح نظرية العدالة والمساواة والحرية والاستقلال والشورى وتعدد الأحزاب). ويضيف الكاتب نفسه: لقد اشتهر الامام الشيرازي بتبحره في العلم، وغزارته في المعرفة، وله نظريات حديثة في مختلف العلوم، يقول د. أياد محمود في كتابه - دراسات في فكر الإمام الشيرازي- وهو يتحدث عن المصادر الإنجليزية: (أما المصادر الإنجليزية التي أفدت منها فهي ما بين كتب في علم السياسة وكتب في علم الاقتصاد وأخرى في الاجتماع، وقد استشهدت ببعضها حينا، وناقشت بعضها حينا آخر، وقارنت بين ما جاء به كتّابها وبين كتابات سماحة الإمام الشيرازي، ووصلت إلى قناعة تامة بأن كتابات سماحته قد أثرت في كثير منهم، حتى وإن كابروا ولم يعترفوا بذلك، كما أن بعضهم قد انتقى من سماحته بعضا، وذلك بناء على توجهات ذلك البعض وانتمائهم الفكرية ومصالح دولهم).

وقد قدم الامام الشيرازي مشروعه الذي يتميز بالتجديد والأصالة، عبر مئات الكتب والمجلدات التي أفنى حياته كي يضعها بين ايدي المسلمين وقادة النخب كافة.. لذا يقول الكاتب باسم الحمراني في دراسة له: حينما يُذكر الإمام الشيرازي، لا بدّ أن نتذكر معه الكتاب والكتابة، فعليهما كان يعوِّل الإمام الشيرازي كثيراً في إنهاض الأمة وبثّ روح الوعي بين أبنائها؛ لذا، كم كان يدعو ويحرِّض طلابه وزوَّاره ومريديه على الكتابة والتأليف ونشر الكتب بشكل ملفت للانتباه، وفي المقابل كان سماحته ينتقد حالة الأمة التي هجرت الكتاب، بما يتضمنه ذلك من اهتمام بالبحث العلمي، وحرصٍ على امتلاك الوعي والثقافة، في سبيل إحراز تقدم على المستوى الحضاري للأمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 4/آب/2014 - 7/شوال/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م