أخلاقيات التغيير.. ترويض الحرص والشره والطمع

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما الذي يؤدي الى الارتفاع في وتيرة الاستهلاك في مجتمعاتنا المعاصرة؟، انها الرغبة في الحصول على السلع والخدمات واقتنائها.

ما هي نتيجة ارتفاع تلك الوتيرة من الاستهلاك؟

انقلابات اجتماعية – اضطرابات سياسية – اضطرابات اقتصادية، وغير ذلك من نتائج مدمرة. هذه الاضطرابات هي بمثابة اختلالات كبرى يشهدها عالمنا المعاصر، بسبب الضغط على الموارد الطبيعية بما فيها النفط، والماء العذب، والمواد الاولية، واللحم، والسمك، والحبوب وغيرها.

وهي لاجل الحصول عليها تقتضي الكفاح المتواصل لاجل السيطرة على مناطق انتاجها، واستماتة بعضهم في الحصول على حصته، وهذا كله يغذي النزاعات الفتاكة العديدة التي نشهدها حاليا وحتى في المستقبل.

غالبا ما يتم إشباع الحاجات المتزايدة للاستهلاك البشري عن طريق الكثير من الاساليب الملتوية وغير القانونية والشرعية، مما يؤدي بدوره الى انحدار في قيمنا الخلقية وتفشي الفساد المالي والرشوة والسرقات والكثير من الانحرافات الاجتماعية.

الخطاب القرآني في جميع مراميه لا ينطلق من الفضاء الشخصي والذاتي للانسان، الا لبناء المجموعة الفاضلة وتشييد اركانها من خلال بناء الفرد الفاضل وتمكينه من اداء رسالته في مجتمعه، المتكون من افراد اخرين يشغلهم نفس الهموم والامال.

ينضاف الى الخطاب القرآني، الاحاديث والروايات للنبي المصطفى (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته (عليهم السلام) لتعبيد تلك الطرق امام الافراد وبالتالي تكوين وبناء تلك الجماعة الفاضلة.

فالفرد هو المجموع والمجموع هو الفرد، وما يبدأ ترويضا للذات المتفردة ينتهي الى ترويض الذوات الجماعية داخل المجتمع.

واحدة من تلك العيوب والمساويء الفردية الاخلاقية والنفسية التي يدور كثير من الخطاب القرآني ومن الاحاديث الشريفة حولها هي الشره والحرص والطمع.

يعالج المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في كتابه (نهج الشيعة.. تدبرات في رسالة الامام الصادق عليه السلام الى الشيعة) تلك المفردة، مفردة (الشره) انطلاقا من مقطع في الرسالة للامام الصادق عليه السلام وهو قوله: (واياكم ان تشره انفسكم الى شيء مما حرم الله عليكم، فانه من انتهك ماحرم الله عليه هاهنا في الدنيا، حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لاهل الجنة ابد الابدين).

ما هو الشره؟

انه وحسب القاموس اللغوي العربي، (شدة الطلب للشيء والحرص عليه – عدم الشبع - غلبة الحرص) وهو في الطب (جوع شديد يرافق بعض الأمراض ، وداء السّكّريّ أحيانًا).

وهو ايضا يأتي بمعنى (اسوأ الحرص)، ويتفق السيد المرجع الشيرازي مع العلامة المجلسي في تفسيره للشره في مواطن عديدة من بحار الانوار بعبارات مختلفة منها (شدة الحرص) و(اسوأ الحرص).

وفي شرحه لهذا المقطع من الرسالة، يرى السيد المرجع الشيرازي، ان النفس (ترغّب صاحبها بمآربها وتتولد فيه الرغبة الى ذلك فانه يسعى الى تحقيقه.. وهنا يصدق عليه انه قد اصيب بالحرص، فاذا تابع نفسه فيما تريد واستمر في الطاعة العمياء لها اشتد حرصه واصبح شرها).

ويرى السيد صادق الشيرازي، ان نسبة الشره الى النفس يعود الى ان (النفس الامارة بالسوء تجر الانسان الى مستنقع الشره)، وهو مستنقع او منزلق (حتى اصحاب المستويات العلمية الرفيعة مشمولين بهذا التهديد الجدي، ومن الضروري جدا حل هذه المشكلة الاخلاقية والنفسية).

لا يعد إشباع حاجات الإنسان ضمن الحدود الطبيعية نوعا من الحرص او الشره، وذلك لان (الله أودع الانسان الشهوات، فبداعي الشهوة ينبعث الانسان نحو حاجاته، واذا كان هذا الانبعاث ضمن الحدود الطبيعية والمنطقية، وتوقف عليه قوام حياته فهو ليس بحرص لان ذلك من مستلزمات الحياة ويتوقف عليه مصير العنصر البشري، فمن لا يتناول الطعام ولا يشرب الماء مثلا، ينتهي امره الى الموت المؤكد. ولعل من لا يشبع غريزته الجنسية يصاب بالمرض). كما يذهب الى ذلك السيد المرجع الشيرازي.

وعليه لا تسمى رغبات الإنسان المقيدة بهذه الحدود حرصا، بل هي تلبية لضرورات الحياة، وقد احل الشارع المقدس تلبية الرغبات ضمن الحدود المعقولة.

هذا الاشباع الطبيعي وضمن الحدود، ينسجم مع كون (النعم التي بين يدي الانسان ليست سوى امتحان ينبغي له استثمارها)، وهو الاستثمار الحسن والممدوح لها، لكنه (لو احتكرها لنفسه ولم يوصل منها للآخرين شيئا او تصرف بها اكثر من حاجته، فيلعلم انه مصاب بداء الحرص) .. ولو استفحل فيه هذا الداء تحول شيئا فشيئا الى الشره الذي منع الامام الصادق عليه السلام اتباعه عنه.

عدم الاندفاع نحو الاشباع بغاياته القصوى هو ما اصطلح عليه بالقناعة، حيث يكتفي الانسان ويقنع بمقدار حاجته.

وفي كلام لاحد علماء الاخلاق حول القناعة، قال: ليس كل ما يقع بيد الإنسان هو ملك له ويجب ان يستفيد منه. فلا يصح ان يستثمر الفرد كل ما هو تحت تصرفه من النعم بمفرده، كما لاينبغي له التفكير بان مالديه مختص به وحده.

يرى السيد المرجع الشيرازي، ان الشره الذي يصاب به الانسان له مصاديق متعددة، منها (شره الغريزة الجنسية، شره تناول الطعام او النوم او الراحة وهكذا).

ان تجاوز الحدود في كل اشباع للحاجات (يقود الانسان الى الحرص، وما لم يسيطر على الحرص يتطور الى الشره الذي يفسد دنيا الانسان واخرته ويقوده الى الامراض).

وعليه، يقول السيد المرجع وهو يكمل شرح هذا المقطع من الرسالة: (لا ينبغي للمؤمنين أن ينتهي بهم الامر، جراء الحرص والطمع الى ارتكاب المحرمات وانتهاك الحرمات. والانتهاك هو التمزيق، حيث جعل الله عز وجل حدودا للناس سهلة الاختراق، لذا حذر الامام الصادق عليه السلام الشيعة من ارتكاب المحرمات الالهية كالنظرة والسماع واللمس والتفكير الحرام. وغير ذلك من المحرمات التي لا ينبغي للمؤمن الاقتراب منها).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/تموز/2014 - 28/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م