النازحون (التركمان) ورسالة التبادل الثقافي في شهر رمضان

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بالرغم من تصرّم أيام شهر رمضان المبارك، ولم يبق سوى القليل، بيد ان دروس وعبر هذا الشهر تبقى طرية وحيّة ليس ليومنا هذا، إنما لسائر الأيام والأزمان. كما تحدثنا في مقال سابق عن غزوة بدر ودرس الحرب الدفاعية الظافرة، وهي الغزوة التي وقعت في شهر رمضان المبارك، وقبل أن يشرّع الاسلام حكم الصوم على المسلمين. وهذا يجعلنا – بالحقيقة- ان نكرر زيارتنا لإحدى المؤلفات الرمضانية لسماحة الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي –  قدس سره- "شهر رمضان، شهر البناء والتقدم"، ونتجول بين الافكار والاضاءات الجميلة لسماحته بما يجعل هذا الشهر الكريم مفيداً وبناءً – حقاً- حتى آخر ساعة فيه.

ومع الاستمرار في متابعة اوضاع النازحين والمرحلين من اتباع اهل البيت، عليهم السلام، من قضاء تلعفر ومناطق اخرى الى الوسط والجنوب، وتداعيات هذا الحدث اجتماعياً واقتصادياً وحتى نفسياً، من الجدير تسليط الضوء على الجانب الثقافي والمعنوي في هذه الاجواء، الى جانب التعبئة الجماهيرية المحمودة للبذل والعطاء بمختلف الاشكال لسد حاجات الأطفال والنساء، وتهيئة مستلزمات العيش الكريم في المدن المضيفة.

وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل في كتابه عندما يتحدث في فصل من الكتاب عن "رعاية المهاجرين والمهجرين"، علماً أن سماحته يوجه دعوته هذه وهو يدون افكاره في مطلع الثمانينات حيث كان الشعب العراقي يشهد أول عملية تهجير من نوعها ارتكبها النظام البائد عندما هجّر آلاف العوائل العراقية من محل سكناهم بعد سلبهم جنسيتهم العراقية، ولأسباب عديدة اهمها شكوكه بولاء هؤلاء لنظام حزب البعث وعدم قناعتهم بقيادة صدام للعراق.

ويستشهد سماحته بأول تجربة حضارية عالجت مسألة الهجرة والتهجير، وكانت على يد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما آخى بين المهاجرين والانصار في المدينة، وقد ذكر سماحته اهدافا عديدة للنبي الأكرم من هذه الخطوة، منها؛ "الهدف التثقيفي"، بمعنى أن المسألة لا يجب ان تنحصر في الجانب العاطفي والانساني، وإن كانت تمثل الوجه الأبرز لحدث التهجير والنزوح، بيد أن الاسباب والعوامل وراء هذه المعاناة هي التي تسجل استحقاقاً جديداً من شانه ان يعطي القضية ابعاداً اوسع ويشكل رسالة مدوية للعالم بأن هناك خطب فظيع وقع، وجرائم مريعة وانتهاكات فاضحة حصلت بحق الانسانية.

الالتفاتة الرائعة لسماحة الامام الراحل، في تحديد المستوى الثقافي لكل من النازحين من جهة والمضيفين من جهة اخرى، فالنازحون يحملون قضيتهم على ظهورهم وفي قلوبهم، وهي تراكمات من هموم وصراعات وشدّ وجذب مع اطراف عديدة تنصب العداء لهم، كما هو حال حاصل مع اتباع اهل البيت، عليهم السلام من التركمان في تلعفر وأقضية كركوك وديالى ومناطق اخرى، حيث كانوا يستيقظون صباحاً على قصاصة ورقية مطوية على رصاصة وتحمل رسالة تهديد؛ "إما النزوح والتخلّي عن البيت، وإما القتل والتدمير..."! بينما نظرائهم في الدين والعقيدة في كربلاء المقدسة او النجف الاشرف – مثلاً لا حصراً- فهم يعيشون حياة فوق الطبيعية – ربما- حيث الأمان بنسبة عالية واوضاع معيشية مقبولة وربما مرفهة احياناً، وكل شيء متوفر للصغير والكبير. أما عن احداث العنف والارهاب، فانها اخبار تسمع من القنوات الفضائية على شكل تقارير مصورة مهمتها زيادة المعلومات لا غير، بينما المطلوب غير ذلك قطعاً.. حتى ان النازحين انفسهم، ربما لا يكتفون بالماء والطعام والمسكن المناسب، إنما سيطلبون فيما بعد بحالة التفهّم والإدارك لما جرى لهم على يد الجماعات التكفيرية والارهابية، وما حلّ بهم؟ وما الذي فعلوه لمواجهة التهديدات؟.

ان عملية التبادل الثقافي والفكري بين النازحين وبين المضيفين (المهاجرين والانصار) تعد خطوة متقدمة نحو إنجاح عملية الاستضافة وجعلها اكثر حيوية وفائدة على المدى البعيد.

بدايةً؛ لنسأل كم من سكان الوسط والجنوب يحفظون اسماء أقضية ونواحي يسكنها اخوانهم الشيعة في المناطق التي يشكلون فيها أقلية؟. ربما تكون تلعفر او طوزخورماتو، من الاقضية المعروفة ليس بالجهد الثقافي، إنما بالجهد الارهابي – الدموي، ثم تأتي وسائل الاعلام لتسلط الضوء على مواقع انفجار السيارات المفخخة او الاحزمة الناسفة، وربما هنالك نواحي وقرى تقع فيها اعتداءات ارهابية يسقط فيها اطفال ونساء، وتقصر يد الاعلاميين وكاميراتهم عن الوصول اليها.

ومن ثمّ القضية التي من اجلها تحمّل هؤلاء كل هذه المعاناة والمحن.. هل لديهم مشكلة مالية او قانونية او نزاع عشائري مع الآخرين حتى يتم تهجيرهم بهذه الطريقة؟. على ما يبدو ان استشهاد سماحة الامام الراحل بالفائدة الثقافية لحادثة المؤاخاة في المدينة بين المهاجرين والانصار، لم تكن على سبيل المثال العابر، لان سماحته كان في طليعة الداعين الى تعريف العالم بجريمة التهجير التي قام بها النظام البائد. وذلك من خلال تأسيس الحسينيات والمكتبات والمستوصفات ومختلف المشاريع والمؤسسات التي يعمل فيها المهجرون، وفيها يتم تلاقي الافكار والرؤى، ويتعرف الناس من اهل البلد المضيف على حقيقة الوضع وتفاصيل القضية التي من اجلها يعيش المهجرون في هذه المدينة او تلك، وليس في مدينتهم وبلدهم. والى ذلك يقول سماحته عن عملية التبادل هذه: "ان المهاجر أعرف بالاسلام من الانصاري، فعبر هذه الاخوّة تنتقل التجربة والخبرة والعلم و التربية من المهاجر إلى الانصاري..".

هذا التعارف على قاعدة الأخوة، هو الذي شكل ذلك المجتمع الاسلامي النموذجي الذي امتد الى الآفاق وغير المجتمعات في العالم وارشدها الى الدين الحق والفضيلة والقيم الانسانية. فالمجتمعات في العالم وجدت الحياة الحقيقية في المجتمع الاسلامي المتآخي والمتسالم الذي تحكمه القيم والمبادئ. وإذن؛ نصل الى نتيجة طبيعية مفادها؛ ان التعارف هذا، من شأنه ان يغير الوضع الراهن من حالة الهزيمة النفسية والاحباط والخوف من المستقبل، الى شعلة من الامل بتغيير الوضع ومواجهة التحديات مهما كانت، عندما يكون الجميع في صف واحد يتحملون المسؤولية ويحبطون المؤامرات الرامية لتفكيك نسيج المجتمع العراقي، والضغط على المعنيين وبقوة لعودتهم الى محال سكناهم معززين مكرمين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تموز/2014 - 25/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م