كيف يمرض العقل

أسحار رمضانيّة (١٣)

نزار حيدر

 

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

 لا يختلف الانسان عن الحيوان بالخِلقة، فلكل منهما (قلبٌ وعين ٌوأُذن) وإنما يختلف الاول عن الثاني بالجوهر، الا وهو العقل، فبينما يهتدي الانسان لعمل الخير بعقله، يهتدي اليه الحيوان بفطرته التي يسميها القران الكريم بالوحي، كما في قوله تعالى {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

 وفي الاية إشارة الى ان القلب، وربما المقصود به النية المعقودة بيقين، والعين والأذن، هي مصادر التغذية للعقل، فإذا تم تفعيلها وتنشيطها بشكل سليم وصحيح، فان العقل سيعمل بشكل سليم وصحيح، اما اذا لم يوظّفها الانسان بالشكل السليم، فان العقل سيمرُض ولا يُنتج المطلوب منه والذي ينبغي ان ينتهي بالعمل الصالح، ولهذا السبب تصف الاية المباركة بعض الناس على انهم يمتلكون (القلب والعين والأذن) من ناحية الخَلق، الناحية الفسيولوجية، الا انهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون، كيف؟.

 اولا: فعندما لا يتعامل الانسان مع الفكر بشكل سليم، فيبحث عن التوافه ولا يعير اهتماما للفكرة الحقيقية، يقبل بأن يكون طبالا في جوقة القائد الضرورة، عندها يكون من مصاديق الاية الكريمة، كما يقول تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

 ثانيا: وعندما يرفض ان يصغي الى الحقيقة من اجل ان يؤمن بها، فتراه يهرب منها مستكبرا ومعاندا، إما لمصلحة شخصية او خوفا على منافع يستفيدها من القائد الضرورة، او خوفا من جلاوزة السلطة، عندها، كذلك، سيكون مصداق الاية المباركة، ولهذا المعنى أشار القران الكريم بقوله {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

 ثالثا: أولئك الذين يتجاهلون قول الحق، ويتغافلون عنه، لحاجة في انفسهم، الذين يصغون بآذانهم ويرفضون بقلوبهم، أولئك، كذلك، مصداق الاية الكريمة، وهم يظنّون انهم يخادعون الله والذين آمنوا {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ولقد تحدث عنهم القران الكريم بقوله {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}.

 رابعا: وإنّ للحُجُب التي يضعها الانسان على قلبه وسمعه لها دورٌ كذلك في ان يكون مصداق الاية الكريمة، فلقد تحدّث القران الكريم عن ذلك بقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}.

 خامسا: فان للتزمت والعصبيّة والعناد والإصرار على الباطل واتباع الهوى حد العبادة ليتحكم بالعقل بشكل مطلق، كلها عوامل تحوّل الأعضاء الثلاثة المذكورة في الاية المباركة الى مجرد أشكال وأحجام ليس لها اي معنى او فائدة، فيكون المرء مصداق الاية، كما يتحدث القران الكريم عن ذلك بقوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.

 وإنّ من هذه الحجب تقديم المصالح الحزبية والفئوية على الصالح العام، ومنها الخوف وعبادة الشخصية والتقليد الأعمى، ان كل ذلك، وغيره، تعتبر حجباً تسلب العقل التفكير الحر، وتمنحه اجازة مفتوحة، فينتهي دوره في حقيقة الامر.

 سادسا: كما ان للمِراء دور في ذلك، على حد قول أمير المؤمنين (ع) {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ} وكذا التعنّت في السؤال، عندما نصح سائلٌ بالقول {سَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}.

 اما اذا اجتمعت كل هذه في واحد، فيصدُق عليه قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

تحقيق التعايش في المجتمع المتنوع

أسحار رمضانيّة (١٤)

 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

 انها دعوة صريحة وواضحة للتعايش بين أبناء المجتمع الواحد، من خلال إيجاد المشتركات، للتعاون في المساحات التي يشتركون فيها، واحترام بعضهم البعض الاخر وعدم التجاوز او الاحتراب والاقتتال في القضايا التي يختلفون عليها.

 لقد خلق الله تعالى عباده ليتعارفوا وليس ليتقاتلوا، وهو الذي خلق التنوع والاختلاف، فكيف يسعى البعض لإلغاء ذلك؟ الم يقل رب العزة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}؟.

 السؤال هو:

 كيف يمكن تحقيق التعايش في المجتمع المتنوع والمتعدّد سواء دينياً او اثنيًا او فكرياً او حزبيا او سياسيا او قبليا او اي شكل آخر من أشكال التعُّدد والتنوع؟.

 اعتقد ان هناك عدد من المقومات التي تحقق هذا التعايش، على الجميع خلقها وإيجادها على ارض الواقع اذا كانت غائبة في المجتمع، منها على سبيل المثال لا الحصر:

 اولا: ان لا يحتكر احدٌ الحقيقة، فلكل منهم جزء منها، اما اذا ادعى احدٌ انه يمتلك الحقيقة المطلقة، عندها سيفرض نفسه على الآخرين ولو تطلّب ذلك استعمال السيف، كما يفعل اليوم الإرهابيون في العراق وفي غير العراق.

 ولنا في رسول الله (ص) خير نموذج في ذلك، اذ يقول القرآن الكريم على لسانه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

 ولقد ذم الله تعالى قوما من اليهود والنصارى اشترطوا على رسول الله (ص) إتّباعهم قبل ان يقبلوا التعايش معه فقال عزّ من قائل {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وقوله تعالى {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا} وقوله تعالى {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} فكيف، اذن، نقبل لأنفسنا ما رفضه الله تعالى من غيرنا؟.

 ثانيا: ان لا يتجاوز احدٌ على حقوق احد، وان من حقوق المواطن على أخيه المواطن هو ان يحترم رأيه ومعتقده ورموزه وطريقة عبادته لله تعالى وشعائره، فلا يعتدي عليه اذا رآه يختلف معه في طريقة العبادة مثلا، ولا يستهزيء برأيٍ اذا اختلف فيه معه ولا يعتدي عليه اذا لم يقتنع بما يقول، ولقد قال تعالى في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

 ان من حق المواطن على أخيه المواطن ان يمتلك حرية التعبير في إطار أخلاقيات الاختلاف، كما ان من حقه عليه ان يحترم كرامته ويصونها، فلقد خلق الله تعالى عباده وكرّمهم، فقال في محكم كتابه الكريم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} فكيف يجيز احد ان يسلب حقاً لمواطن هو من رب العزة؟.

 ثالثا: ان يكون الحوار هو السلاح الوحيد الذي يوظّفه الجميع للاتفاق على شيء او للاختلاف على أشياء، فلا يوظّف احدٌ القوة والعنف والسلاح والقتل وحز الرؤوس وتفجير السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة كأدوات في الحوار، فان ذلك بمثابة حوار الدم وليس حوار العقل والمنطق والدليل والبرهان.

 ان الحوار في مثل هذه الأدوات ينسف فكرة التعايش من الأساس، لانه يثير الضغائن والتمييز في المجتمع، وكذلك يؤسس للظلم، وكما هو معروف فان {الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ، وَالْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ} على حد قول أمير المؤمنين (ع).

 يجب ان يكون الأصل في المجتمع هو السلام والصلح والعفو لنهيّئ الأرضية المناسبة واللازمة للتعايش، والى هذا المعنى أشار القران الكريم بقوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ولقد أوصى أمير المؤمنين (ع) مالكا الأشتر ان لا يرفض صلحا، وذلك بقوله في عهده المعروف {وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لله فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ} كما دعاه لإلغاء كل ما يمكن ان يكون سببا لإثارة الفتنة وبثّ الفرقة وإلغاء التعايش في المجتمع، فقال عليه السلام {أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ}.

 رابعا: ان يؤمن الجميع بان الوطن للجميع، ارضه ومياهه وخيراته وهواءه وكل شيء فيه، لا يحقّ لاحدٍ ان يستأثر بشيء دون الآخرين، ليشعر الجميع بانهم شركاء في البلد وليسوا غرباء او جاليات.

 وان التعايش المقصود هنا لا يقتصر على جانب دون اخر، او بين فئتين دون بقية الفئات وشرائح المجتمع، ابدا، فنحن بحاجة الى ان نخلق فرص التعايش في الاسرة وفي المحلة وفي المدرسة وفي الجامعة وفي الدائرة وفي محل العمل وفي الشارع، على الصعيد السياسي والفكري والحزبي والعشائري، في السلطة وخارجها، وفي المعارضة وخارجها، ليكون التعايش هو الأصل في العلاقات الاجتماعية، وبذلك سنقضي على الأزمات والتشنّجات، ونقضي على النفوس المأزومة التي تطفر اذا لم تعجبها كلمة، وتسحب خنجرها من غمده اذا سمعت رأيا يمس القائد الضرورة، وتُشعِلُ الحرائق في كل مكان اذا اختلفت في ابسط وأتفه الامور، وتحلف بالطلاق اذا لم يستجب ضيفه لدعوة كريمة على فنجان قهوة.

صلح الامام الحسن (ع)

أسحار رمضانيّة (١٥)

 {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.

 ولِمَ لا وهو الصادق الامين؟ لذلك يتقدّم بأقرب الناس اليه، فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام، ليبتهل بهم الى الله تعالى، وهو أمرٌ لا يقدِمُ عليه الا من كان واثقا برسالته ومؤمنا بعدالة قضيته وواثقا من تسديد الله تعالى له، وهي كلها صفات اجتمعت في رسول الله (ص) لذلك لم يتردد في اصطحاب اهل بيته للمباهلة مع اهل الكتاب، والذين قال عنهم الله تعالى في محكم كتابه الكريم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.

 وفي ليلة الخامس عشر من شهر رمضان المبارك، ليلة ولادة السبط الأكبر لرسول الله (ص) الامام الحسن بن علي المجتبى عليهم السلام، وهو احد الخمسة الذين طهرهم الله تطهيرا، تقفز الى الأذهان قضية (الصلح) الذي ابرمه مع الطاغية ابن آكلة الأكباد معاوية بن ابي سفيان بن هند بن حمامة صاحبة الراية في الجاهلية.

 لا اريد هنا ان أتحدث عن تفاصيل القضية، وأسباب (الصلح) وشروطه ونتائجه، وإنما اريد ان أتحدث هنا، وفي هذه المساحة الصغيرة، عن الأسس التي بنى عليها اهل البيت عليهم السلام مواقفهم ومنهجيتهم من تطورات الأحداث التي عاشوها وعاصروها ومروا عليها، والتي شخّصت في سِيٓرِهِم مبدأ (وحدة الهدف وتعدد الأدوار).

 الأساس الاول: هو انهم يتعاملون بواقعية بعيدا عن اي نوع من انواع المثالية، من جانب، وبعيدا عن اي نوع من انواع الغيب، من جانب آخر، ولذلك، مثلا، قٓبِلٓ الامام أمير المؤمنين (ع) ان يكون عضوا في الشورى الستة التي عيّنها الخليفة الثاني قبيل وفاته، مع كل المؤاخذات والملاحظات (الشرعية) التي كانت عنده عليها، لانها كانت واقعا سياسيا سعى لتوظيفه فيما بعد لتحقيق الهدف الأسمى بالنسبة له، الا وهو خدمة الامة وإنقاذها من ورطتها عندما تشتد الخطوب، وذلك في إطار نظرة ثاقبة للأمور تقرأ المستقبل بشكل سليم وصحيح.

 وهكذا بالنسبة لصلح الامام الحسن (ع) وثورة الامام الحسين (ع) وقبول الامام الرضا (ع) لولاية العهد، وغير ذلك من المواقف والسِّيٓر المعروفة عن أئمة اهل البيت (ع) وان من يحاول تفسيرها بشكل تعسفي من خلال إقحام المثاليات والغيب والمعاجز، بسبب عدم فهمه واستيعابه لهذه السِّيٓر العطرة، فإنما يظلم الحقيقة ويضحك على نفسه، وهو يحاول، بذلك، التهرب من المسؤولية من خلال التعامل مع أئمة اهل البيت (ع) وكأنهم ليسوا بشرا وأنهم لا يخطون خطوة واحدة قبل ان يرسم لهم الغيب ما يجب عليهم فعله، وان كل ما فعلوه لا يتعدى خارطة الطريق المرسومة لهم غيبيا، فهم مسيّرون، اذن، حسب هذا التفسير، فكيف تريدنا ان نحذو حذوهم؟ ونسير بسيرتهم؟ ونتخذهم أسوة وقدوة في حياتنا اليومية؟ وهو بيت القصيد ومربط الفرس، كما يقولون، من اي تفسير تعسفي لحياة وسيرة اهل البيت (ع).

 اما الأساس الثاني؛ فهو انهم، عليهم السلام، يقدمون المصلحة العليا للأمة على كل المصالح الاخرى، وبقراءة سريعة للمنهج الذي ساروا عليه في ظل مختلف الظروف الاجتماعية والسياسية، فسنجد انه حٓفِظٓ للأمة، في كل مرة، مصلحتها العليا، ولو لم تتحقق في كل مرة لما تبنّوه وساروا عليه ابدا، فعندما صرف الامام علي (ع) النظر عن حقه بالخلافة بعد وفاة رسول الله (ص) فإنما لتحقيق الصالح العام فقط وليس لأي شيء آخر، ولقد شرح الامام ذلك بقوله {فلمَّا مَضى (صلى الله عليه وآله) تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الاْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الاْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (صلى الله عليه وآله) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الاْسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الاْسْلاَمَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الاْحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ}.

 وهكذا هو الامر لبقية المواقف وتفاصيل النهج الذي التزم به اهل البيت (ع) كما هو الحال، مثلا، في (صلح) الامام الحسن (ع).

 الأساس الثالث: هو انهم، عليهم السلام، يحاولون إقناع الامة بالشيء الصحيح، بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار والمنطق والمحاججة السليمة، بعيدا عن اي نوع من انواع الفرض والإكراه والتعسف، وبعيدا عن استخدام القوة والسيف، التزاما بالنهج القراني الواضح بهذا الشأن، والذي يحدثنا عنه رب العزة بقوله {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} حتى اذا أفسدت الامة رأيهم بالعصيان، ولم تقتنع بالحق، واختارت الأغلبية أمراً، فلم يكن للامام ان يرفض ويفرض عليهم شيئا يكرهونه ابدا، ولذلك قبل الامام أمير المؤمنين (ع) بالتحكيم ليس لإيمانه به واعتقاده بصحة الفعل، ابدا، وإنما لاختيار الأغلبية لهذا النهج، وهو، عليه السلام، كان يعلم علم اليقين بخطئه، وأنهم سيندمون عليه، الا انه (ع) أمضاه لتتحمل الامة مسؤولية قرارها، اخطأً كان ام صحيحا.

 كذلك، إنما قبل الامام الحسن (ع) (الصلح) مع الطاغية معاوية بعد ان رأى أغلبية (الامة) كارهة للحرب، وان لا طاقة لها على خوض غمارها، فلقد شرح الامام عليه السلام ذلك في معرض جوابه على سؤال اكثر من واحد من أصحابه عن علة (الصلح) وسر عدم خوضه الحرب ضد الطاغية معاوية الذي كان يمثل بجماعته الفئة الباغية بنص القران الكريم {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فقال عليه السلام {اني رأيت هوى معظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب ان أحملهم على ما يكرهون} ولطالما استفتاهم الامام قبل ان يعقد (الصلح) مع الطاغية، بقوله {الا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزٌّ ولا نٓصٓفٓة, فان اردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه الى الله عز وجل بظبا السيوف، وان اردتم الحياة قبلناه، واخذنا لكم الرضا} فكان يناديه الناس، في كل مرة، من كل جانب: البقية، البقية!!!.

 والان: اين نحن من هذا النهج الرسالي؟.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تموز/2014 - 25/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م