مهجرو الهوية (التركمان) ومهمة الإعلام

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: مشاهد النزوح الجماعي لأهالي تلعفر في الموصل وسكان الاقضية والمناطق الشيعية في محافظات كركوك وصلاح الدين وديالى، تشكل مادة إعلامية دسمة لعديد القنوات الفضائية، كما هي كذلك بالنسبة للكتاب والمحررين في سائر وسائل الإعلام في الداخل والخارج، ففي الداخل يتم يتناول الحدث من زاوية سياسية الى حد بعيد، نظراً الى الاجواء المشحونة في بغداد، واعتبار القضية مجرد إفرازات المواجهة بين عناصر "داعش" ومن يقف خلفه من المحرضين في الداخل، وبين الحكومة المركزية في بغداد. ولو أن هذا جزء من الحقيقة، حيث يدفع الآلاف من النازحين أمنهم وسلامتهم وراحتهم، ثمناً لصراعات سياسية. بيد أن هذا لن يكون كل شيء. أما الخارج فإنها تركز على الجانب الطائفي، وتصور القضية على أنها خلاف شيعي – سنّي، وتبقى حاملة هذا اللواء وسائل الاعلام البريطاني متمثلة تحديداً في "رويترز" و "بي – بي – سي".

بيد ان مهمة الإعلام العراقي وايضاً كل إعلامي منصف وأمين على الحقيقة، هي تقديم الصورة متكاملة غير منقوصة، ومناقشة الإبعاد الاجتماعية والسياسية وحتى النفسية المحيطة بحدث النزوح، فالقضية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، لأن العراق يشهد أكبر عملية نزوح جماعي داخل البلد، بعد مشاهد النزوح والتهجير التي تعرض لها الكُرد في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ثم ان القضية هذه المرة، ليست سياسية كما كان عليه الحال في عهد النظام البائد، إنما هي ذات ابعاد طائفية - عقائدية بغطاء سياسي. وإلا فان رسائل التهديد والحثّ على النزوح من المناطق المختلطة طائفياً، بدأت منذ السنوات الاولى من تشكّل النظام السياسي الجديد في العراق.

لا لتحجيم القضية  

في حقبة الديكتاتورية والدموية، كانت "القضية الكردية" تصدح بالطابع القومي، وهكذا تعامل الكُرد مع قضيتهم، وغذوا وسائل الإعلام في العالم بمفردات ومفاهيم قومية تتحدث عن مظلومية الشعب الكردي وحقوقه المضيعة، وانه يدفع ثمن حياته واستقراره من اجل الحصول على تلك الحقوق من نظام صدام. وفعلاً، كسب الكُرد الجولة الاعلامية والسياسية في العقود الماضية، وحققوا لأنفسهم واقعاً على الأرض، وتمكنوا من كسب تأييد وتعاطف العالم لتشكيل كيان خاص بهم يحميهم ويحقق طموحاتهم بالعيش في منطقة خاصة بهم يتمتعون فيها بكامل حريتهم.

بيد ان قضية الشيعة في العراق، رغم طابعها الطائفي (نظرياً)، إلا انها ذات طابع وطني شامل وتمتد بتأثيراتها العقائدية والحضارية الى مساحات جغرافية واسعة في المنطقة والعالم. فعلاقة الشيعة في قضاء تلعفر – مثلاً- بسائر اخوانهم في العراق وخارجه، ليست علاقة عاطفية، حيث يكون بديهياً، استقبال النازحين الشيعة في المدن المقدسة، وايضاً سائر المدن في الوسط والجنوب، وإن كان هذا جزءاً من الواجب، و يجب ان يتم على أحسن وجه.

فاذا كان واضحاً تأثير الاشعاعات الفكرية والثقافية لشيعة العراق على العالم، ومثال ذلك، مناسبة إحياء اربعين الامام الحسين عليه السلام، وتسابق الملايين من اصقاع الارض للوصول الى كربلاء المقدسة. فان مهمة الاعلام هنا في تحديد مكانة ودور هذه الشريحة الاجتماعية الصغيرة في المشروع الفكري والثقافي. وإلا هل من المقبول، ان تكون رسالة الشيعة الى العالم منطلقة فقط من داخل اسوار محدودة في كربلاء المقدسة والنجف الاشرف –مثلاً-؟!.

ان وجود القوميات والأعراق المتعددة في زيارة اربعين الامام الحسين، عليه السلام، تمثل رسالة حضارية غاية في الأهمية للعالم، بان الشيعة يقدمون هويتهم وانتمائهم الديني على أي اعتبار آخر، فهم يحققون وجودهم وذاوتهم من خلال الارتباط بقضية الحسين، عليه السلام، بما تحمل من مضامين إنسانية عالية، فضلاً عن المضامين الدينية.

من هنا، يبدو التركيز على الانتماء القومي للنازحين الشيعة، وتسليط الضوء على القومية التركمانية لهم، يشكل بالحقيقة، نوعاً من التحجيم والقليل من شأن القضية الكبرى، حتى وإن كان هنالك ثمة مكاسب سياسية او غير ذلك. لان الشعور بالانتماء على العراق كله، ثم الى مساحة أوسع في العالم، هو الذي يعطيهم زخماً معنوياً هائلاً يشعرهم أنهم لن يكونوا وحيدين ابداً في الساحة. 

المسؤولية امام الجميع

بما ان القضية ذات طابع انساني، فان التضامن والتكافل ينبغي ان يأخذ مديات بحجمها، لا ان يكون المسؤول الحوزة العلمية – مثلاً- او العتبات المقدسة او مؤسسات وشخصيات بعينها، إنما المسؤول هم جميع افراد المجتمع دون استثناء، فالمدن في وسط وجنوب العراق تستقبل مدن او أقضية بكاملها، فالقضية ليست توزيع المواد الغذائية والمستلزمات الضرورية، وهذا من الامور المفروغ منها في حالة النزوح المفاجئ لتأمين اوضاع انسانية مقبولة خلال فترة معينة، بيد أن امامنا مجتمع بكامله تعرض للتهجير القسري على يد "داعش" ومن يقف خلفهم، وفي هذا المجتمع الحرفيين والعمال والموظفين والطلاب والمزارعين، وهنا يأتي دور الاعلام في إبراز قدرات وكفاءات هؤلاء، والتأكيد على أنهم ليسوا مصدراً لمشكلة او ازمة معينة، إنما يمكن ان يسهموا في عملية التقدم والتطور والاستمرار بالحياة وعدم الانغماس في مشاعر الاحباط والهزيمة النفسية.

ومثلما تركز بعض وسائل الاعلام، على تقديم الدعم والمساعدة للنازحين من سوح المعارك، فان المطلوب بناء تنية تحتية لهذه المساعدة، تتمثل في الثقافة الاقتصادية والتجارية الجديدة، مثال ذلك، التقليل من الاهتمام بالارباح المضاعفة، - إن لم نقل غض النظر عنها- وإلا ما فائدة مد يد العون بتقديم المواد الغذائية والضرورية في مدينة ما، اذا بقي السوق متمسكاً بقانون "العرض والطلب"، بمعنى ان تقديم المساعدة سيكون بثمن ارتفاع الاسعار وشحة المواد والسلع في الاسواق، وهذا بحد ذاته يخلق ازمة ومشكلة اجتماعية جديدة.

لنلاحظ تجارب شعوب عديدة عاشت فترات حروب وأزمات خانقة، لكنها تجاوزت المحنة والضغوطات الخارجية والحرب على الجبهات، عندما "شدّت الاحزمة" وفرضت قوانين وإجراءات خاصة بالاسعار والانتاج والاستهلاك، وبذلك تمكنت من خلق أجواء معيشية طبيعية لجميع افراد المجتمع، هذه الاجواء نفسها هي التي عبأت النفوس وجيّشت المشاعر لمواجهة التحديات والمخاطر الخارجية، ثم حققت النصر المؤزر على العدو.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/تموز/2014 - 24/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م