فوائد الصوم: الفائدة النفسية

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

تتلخص الفائدة النفسية للصوم، في الأمور التالية:

1: الإرادة

إنّ المجتمع ـ اليوم ـ يعالج صراعاً دائباً ـ في مجزرة الأعراض، والكرامات، نتيجة لضياع المبادئ والمثل، وتبعاً لاندفاعه اللاإرادي مع المطامع والأهواء، سيراً في ركاب التقاليد المفترضة، والعادات المختلفة السخيفة.

لذلك اندلعت العواطف والشهوات، لتقضي على أصداء العقل والضمير.

وهذه الجرائم، التي أربكت الحياة، وشغبت على التاريخ والاجتماع، ناتجة من ضعف (الإرادة) التي لا تجرأ على مقاومة عوامل الشر والإغراء، ولا تستطيع أن تكفكف العواطف والشهوات.

لأنَّ (الإرادة) هي القوة، التي تمكن الإنسان من أن يقول: (نعم) أو يقول: (لا)، عندما تدعوه شهوة أو عاطفة، أو يسخره ظالم مستهتر، لخدمة أغراضه ومطامعه.

فبـ (الإرادة) يكون الإنسان حراً في حياته، بحيث لا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك عليه مصيره إنسان أياً كان ذلك الإنسان، وهكذا يكون سيد نفسه، ويملك أنْ يريد وأنْ لا يريد... فالأدب الذي يرشد الابن إلى ما ينبغي أنْ يفعل وما لا ينبغي، والابن الذي يتبع إرشادات أبيه، المعقولة، يسير في طريق قويم، إلى أنْ يصل إلى أهدافه في الحياة، بقدم ثابتة، ونجاح مطرد، فإذا كان عامل العاطفة مسيطراً عليهما في أدوار تنشئته مال، الابن إلى (الدلال) ففسد وأفسد. وإذا كان عنصر (الإرادة) متحكماً في التربية نشأ الابن عضواً نافعاً في الهيئة البشرية.

فوظيفة (الإرادة) في حياة الإنسان، هي وظيفة (الضابط) في المعسكر، وإنْ (الإرادة) تكبح جُماح الغريزة، وتخفّف غلواء (الحيوان) الذي يعيش في عروق (الإنسان) فيثير شهواته وعواطفه، كما أنّ (الضابط) يقبض المعسكر، فيمنع توتره وفضوله.

ولما كانت (الإرادة) تملك أنْ تقبض وتبسط حياة الإنسان، وتحدد شهوته وعواطفه، كان على الإسلام أنْ يهتم بتكوين (الإرادة) للإنسان حتى يستطيع أنْ يطيع الإسلام، ففرض عليه الصوم، الذي هو (مدرسة الإرادة) ليحفظه من السقطة والضياع، ويأخذ بيد المسلم، من أنْ يستسلم للأحداث، أو يستخف ويستهين بالتبعات، فلا يركب رأسه ولا يخلع عذاره، ولا يجري في أعقاب كل غيٍ وغاوٍ.

والصوم يؤدي إلى تكوين (الإرادة) من ناحيتين:

الأولى: إنَّ الصوم من طغيان الجسم على الروح، والمادة على الإنسانية، والعبودية على الحرية، وترويض للإنسان، على أنْ يقول: (لا) عندما تدعمه شهوته إلى الأكل أو الشرب، أو الاستمتاع، أو تدعوه عادته إلى أحدها.

ولتلاحظ نوعية الأمور التي حرمها الله على الصائم، وشدة علاقتها بحياته اليومية، ومدى هيمنة العادة عليها، لنعرف قوة عملية الصوم، وأثرها في تربية (الإرادة) فإنّ رياضة النفس فيما هو من ضروريات الحياة، يجعل الإنسان أقوى على ترويض نفسه، للكف عمّا دونها.

وهنا ندرك: كيف ينتهي الصوم بالكفاح لأجل الحق والخير، فإنَّ الكفاح إرادة الخير، وانطلاق لتحقيق تلك (الإرادة) مهما كلَّف الأمر.

وقد يؤدي البحث إلى سؤال، هو: (إنَّ الصوم إلى جانب كونه ترويضاً للنفس لتربية (الإرادة)، عبادة لله، كبقية العبادات، التي يلتقي فيها الإنسان بربه، فتتضاءل إرادته وتذوب إزاء إرادته الله تعالى، وهل يمكن تقوية (الإرادة) بعرضها على التضاؤل والذوبان)؟.

والجواب: (إنّ إرادة الإنسان، عندما تخشع أمام إرادة الله سبحانه، ولا تذوب لتموت، وإنّما لتحيا وتدوم، فالإرادة الإنسانية، إذا استقلت في الوجود، تكون متهافتة قالبة للانهيار أمام الزعازع والأهوال، ولكن إذا انصهرت الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية، تعود إلى الحياة أقوى ما تكون على مواجهة الأحداث في ميادين الصراع، حيث تتخذ من الانضمام إلى إرادة الله، مصدر قوة وثقة، لا يمكن أنْ يأتي عليهما شيء، ما دام إيمانه بالله مطلقاً، يعرف الله فوق كل إنسان وسلطان.

الثانية: إنَّ الصوم حيث يطول أمده شهراً كاملاً، يغير ـ هو والمستحبات التابعة له ـ برامج حياة الفرد، لأنّه قد أعتاد في أيام السنة، أنْ يتناول وجبات الطعام، في مواعيدها المعهودة، حتى يشهر بالضجر والملل، ولكنه حين يصوم، يقع مع عاداته في صراع عنيف، فالعادة التي ملكت عليه حواسه، وفتحت مجراها في سلوكه، تجذبه إليها في أوقاتها، ومسلحة بقوة الشهوة إلى الأكل أو الشرب أو الجنس، ولكنه يمضي في إرادته، دون أنْ يلتفت إليها، فيمنعه عن الطيبات في أوقاتها، ويوفر عليه الطيبات في غير أوقاتها، وتبعاً لذلك، تتطور حياته كلها، فينام في غير وقته، ويعمل في غير دوامه، ويعبد الله أكثر من سائر الشهور، ويجتمع بالمسلمين أكثر من بقية المناسبات، ويحاول إتيان القربات أكثر من الأوقات الأخر، وكل هذه التطوّرات، تأتي فجأة، مع بزوغ هلال شهر رمضان، فيجتمع للمسلم ـ الذي عاش حياة رتيبة ـ جهادٌ بالنهار على الصوم، لكبح نفسه ونوازعها وأُمنياتها، وجلاد بالليل، للسهر على القربات، أحياءاً لضميره، وتنشيطاً لإيمانه.

ومن تدرب على أنْ يمتنع ـ باختياره ـ عن شهواته ولذائذه، ثم يبقى مُصرّاً على الامتناع عنها في أوقات معينة، لا لشيء، إلاّ استجابة لأمر واحد من أوامر دينه، لا بد أنْ تخر على أقدامه الأهواء والعادات، صرعى مغلولة، ويشعر بالنصر، الذي يحس به القائد المظفّر، فتخضع هواجسه وشهواته لفكره، منقادة للوازع النفسي، مذعنة بالحس الديني، المسيطر على النفس ومشاعرها.

وما الحياة في مظاهرها الجادة، إلاّ عزم يؤثر الإقدام على الإحجام، وأهم فوق بين الذين ينجحون في أعمالهم وبين الذي يفشلون، إنّ أولئك يتحكمون إلى إرادتهم، يواجهون الحياة بعزم حديدي لا يعرف العجز والهزيمة، وهؤلاء تخور إرادتهم، أمام عادة أو شهوة، فيسقطون خانعين.

عبادة التحرر

وممارسة الصوم ـ في شهر رمضان ـ لإبراز استقلال (الإرادة). تمرّن الصائم على اعتياد التحرر والانعتاق، من أحابيل الغريزة ومكايدها، وترهف عزيمته وتشحذ مواهبه، وتستخرج ركائزه الدفينة، ليودعها مصرف روحانيته، ليجدد عنها ـ عند الشدائد ـ مدد الثبات والعزم والخشونة والجلد، حتى ينقلب الصائم بطلاً تتفجر أعصابه إيماناً ومضاءً، فلا يذلّ ولا يخشع، ولا يستكين، وإنّما يبقى كالجندي المُعبأ، يتحفز ـ أبداً ـ للدفاع والوثوب.

لأنَّ الإخلاص لله في العبادة، يعني ـ في جوهره وحقيقته ـ التحرر من الخضوع، لكل قوة ـ من دون الله ـ مهما بلغت، وبذلك كان الصوم، وسيلة لتحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، ومن عبودية العادات، والشهوات.

2: الثبات

إنّ (الإرادة) في النفس، بمنزلة مركز الأعصاب في الجسد، فمتى تقوّت (الإرادة) تفرعت عنها صفات كثيرة، فإذا قويت (إرادة الفرد)، حتى سيطرت على نفسه، لا تتمرد عليه أعصابه، ولا ترتبك مشاعره، ولا يغيب عنه شعوره، مهما عصفت به الأزمات، وإنّما يصبح رجلاً مفكراً صموداً صبوراً، لا يكاد يثور في أوانها وغير أوانها، بل يبقى إنسانا متمالكاً قاد عنان ذاته، ومرن على تحمّل الصعاب، فيرسخ في موضع أقدامه، محافظاً على الهدوء والاتزان، عندما تعزف الأحداث، ويغنّي الموت، وتتراقص الأهوال، ويتشذر النّاس ـ من هنا وهناك ـ مغلولة خوّارة، ويبقى هو رابطاً، لا تزعزعه الشدائد والأخطار، وإنّما يتلقاها بفائض إيمان، وشجاعة مطبوعة، فهو الذي راض نفسه على المخاطر، في سبيل الله وفي سبيل الله وحده، ولا يزال يغذي إيمانه وعزائمه بالصوم شهراً من كل عام.

هكذا الصوم، يجعل المسلم شاعراً بأنّه سيد نفسه وإرادته، وأنّه هو وحده الذي تعوّد الصبر والثبات، ليملك بنفسه مصيره، ويقود مستقبله.

و(الثبات) فضيلة عظيمة. كان فلاسفة العالم ـ قبل الإسلام ـ وكثير من المرتاضون ـ حتى اليوم ـ يفرضون على أنفسهم الشدائد القاسية ـ علهم ينالوا بعض (الثبات) ولكنّهم ـ بالرغم من قسوة فرائضهم ـ لا يبلغون ما يبلغه المسلم بالصوم.

ولقد أرهق علماء النفس والاجتماع أنفسهم، ليوفروا للإنسان علاجاً يسبغ عليه الثبات، فلم يبلغوا ما بلغه الإسلام، ولم يقدروا على إنقاذ البشرية، من ألوان التوترات، التي تجدها اليوم، ولم يجدها المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، بفضل الصوم، ولم تملك القوانين الوضيعة ـ حتى اليوم ـ رغم تطوّراتها المستمرة أنْ توفر للإنسان الفرصة الكافية ـ التي اعتبروها أساس الثبات ـ التي أتاحها الإسلام لشعوبه في شهر رمضان.

* * * * *

وهذان الخلقان: (الإرادة) و (الثبات) لا يستفادان من أي فريضة، كما يستفادان من الصوم، في الوقت يكونان مما يعم الأغنياء والفقراء، فإنّهما من ألزم الصفات لكل إنسان، في كل تكليف، وعند كل تبعة، وهما لازمان للفقير لزومهما للغني، وإذا كان أحدهما أحوج إليهما من الآخر، فهو الفقير لأنَّ الغني قد يجد لديه، ما يعوض التفريط في أعمال (الإرادة) و (الثبات)، بينما الغرامة ليست ميسورة للفقير.

3: الاحتمال

كان الإنسان وحشاً خرج من الغاب، ولكنْ لم يخرج الوحش من الإنسان، ورغم (الملك) الواعي في ضميره ـ الذي يرسل إليه التوجيهات أبداً وفي كل حال ـ فإن (الوحش) الراقد في حناياه، قد يطغي عليه، فيثور ويلعن ويسب ويعكر الحياة، وقد يجد هذا (الوحش) إمكان التعبير فيفرغ سخائمه، ويهدأ، وربما لا يجد قدرة التعبير، حيث يجد أمامه (أوحش منه) أو يكبله (الوحوش) الأُخر، يغلّقون عليه نوافذ الحياة، فيضيق صدره فيحطم نفسه، وينتحر. هل (الانتحار) إلاّ إرادة ذلك (الوحش) الجزع؟ ((إِنَّ الإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً))، هل المنتحر إلا إنساناً عاجزاًـ غير واثق بربه وبنفسه.

والصوم، جاء لترويض ذلك (لوحش) ليصبح (إنساناً) مستأنساً يألف النّاس ويألف ما حوله، ويألف به النّاس، ويألف ما حوله، أو لم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (المسلم ألفٌ مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يألف)؟

فالصوم، مستشفى جماعية سيارة، تعالج فيها الغرائز، ومصفاة، تصفى فيها النفوس، من شوائب المجتمع، وبوتقة، تصهر فيها الأرواح لتنضج وتتبلور، فلا يسكره الشبع، ليبطر فيعربد ويفسد، ولا يهيجه الفقر، ليسعى مسعوراً في الأرض، يقتل هذا ويلعن ذاك، لكسب العيش الحرام.

أو ليست الشكاوى الفردية الجماعية والدولية، التي ترددها البشرية وتنصب لمعالجتها المحاكم والمؤتمرات، كلها من الجزع وعدم الاحتمال، فالغني يجزع من الغني، والفقير يجزع من الفقير، وكلاهما يعلن الحرب على الآخر.

والصوم، جاء ليعلمنا الغنى ليلاً والفقر نهاراً، حتى ننال خبرة اقتصادية، تمكننا من احتمال الغنى واحتمال الفقر، وإذا كان في النّاس من يظن الصعوبة في احتمال الفقر، فأني أرى المشقة في احتمال الغنى، أكثر وأصعب.

إنَّ شهر رمضان، فترة امتحان، يؤدي فيها المسلم ما أستذكره من الفضائل، فمن النّاس من يؤدي الامتحان ـ كما اعتاد بعض الطلبة ـ بالغش، ومنها من يؤديه كسلاً وخيبة، ومنهم من يهمله ويتسلل منه، ومنهم من يؤديه بنجاح وتفوق.

وإذا كان الصوم اختباراً لأية فضيلة، فهو ـ قبل كل شيء ـ اختبار للاحتمال، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الأيمان).

4: الأخلاق

نستطيع أنْ نعرف (علم الخلاق) بأنّه: (علم الواجب). لأنَّ معنى (الواجب) هو الالتزام بأداء عمل مفروض، على أنْ يكون هذا العمل، غير قائم على (القهر) ولا على (المنفعة) فالعمل القائم على (القهر) ليس عمل أخلاقياً، بل كثيراً ما يكون ضد الأخلاق، لأنّ عنصر (الإرغام) يسلب حرية الإنسان وعزته، فيغدو الإنسان (آلة) لا تعرف الأخلاق.

والعمل القائم على (المنفعة)، لا يكون عملاً أخلاقياً، لأنّ الإنسان لا يؤديه إيماناً به، بل إيماناً بأجرته، فيفقد العمل صفته الذاتية المستقلة، ليصبح عملاً طريقياً يتقمص صفة هدفه، وإنّما العمل الأخلاقي، هو العمل الذي يأتي به الإنسان، لذاته المجردة، لا نكاد نجد عملاً، ينطبق عليه هذا التعريف، أظهر من الصوم، لأنّ الصائم لا ينال جزاءً على ذات الصوم ـ وإنْ نال الجزاء على صورته الظاهرة ـ ولا يفرض عليه إلزام قهري ـ وإنْ فرض إلزام على القيام بصورة الصوم ـ لأنّ حقيقة الصوم لا تبرز للوجود إلاّ بعد اكتمال شرائطه، وكل إنسان يستطيع أنْ يفطر دون أنْ يعلم به أحد، فلا يقع ذات الصوم الحقيقي، مقابل الأجرة، ولا تحت القهر.

بالإضافة إلى أنَّ الصوم، حيث يهدأ الأعصاب، يخفّف دورة الدم، وتهدأ فورت الجسد، فيحيا الصائم بروحه أكثر منه بجسده، فيكون انقياده لعقله أسهل من غير أحيان الصوم، فتنطلق في نفسه الفضائل دفعة واحدة، فتطغي غرائز الفضيلة على غرائز الرذيلة، ويتسامح أخاه، ويصفح عن المسيء، ويسعى للمصالح العامّة، ويصل الرحم، يتحرك في عقله حب التأمل والتفكير، في فلسفة الوجود، وفلسفة الغنى والفقر، فتجيش عواطفه، ويود لو يستطيع أنْ لا يرى جائعاً أبداً، وأنْ يسخو بكل ما لديه، لإنقاذ النّاس من الجوع، الذي يقاسي منه الأمرَّين، فيندفع إلى تفقّد الأهل والأرحام، وإطعام الجائعين، ومساعدة المحتاجين.

* * * * *

على أنّ الصائم الجائع، يكون أبعد النّاس، عن التفكير في الخداع، والخصام، لأنَّه لا يجد الحول الذي يؤهله للخشونة والغلظة، وإنّما يكون رفيقاً سهلاً، فيكون أصدق النّاس لهجة، وأوفاهم وعداً، وأبعدهم عن الأذى والشر.

* * * * *

زيادة على أنَّ رمضان، شهر يتطهر فيه كل شيء، ويتهذب فيه كل شيء، لأنَّ الصوم يسموا بالروح، إلى حيث تحقر عنده المادة، ويصفو له إشراق القلب، ما دام دينه يقرر: إنّ الجوارح كلها لا بد أنْ تصوم، وتشارك المعدة والفرج، حتى يكمل صومه، على ما ورد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من عبد يصبح صائماً، فَيُشتم فيقول: إنّي صائم، سلامٌ عليكم، إلاّ قال الرب تعالى: ((استجار عبدي بالصوم من شر عبدي، قد أجرته من النّار، وأدخلته الجنّة)). والحديث المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا صام أحدكم، فلا يجادلن أحداً، ولا يجهل ولا يسرع إلى الحلف والإيمان بالله، فإن جهل عليه أحد فليتحمله). فالصوم اللسان من الكذب، والغيبة، والنميمة، والقذف، وشهادة الزور، وتصوم العين عن الامتداد إلى المحرمات، ويصوم القلب عن الحقد والحسد والرياء، وتصوم اليد عن غير المباح ـ كالقتل والضرب والسرقة ـ وتصوم القدم عن السعي إلى المنكر والضلال، ويصوم الفكر عن التسوّلات الفاجرة والشبهات، وهكذا تتهذب النفس والحواس، ومتى تهذبت الشخصية الإنسانية، كان هنالك المجتمع السعيد.

وهذه المعاني الأخلاقية، التي يهدفها الإسلام من وراء الصوم، هي معانٍ كبيرة، ذات مقاصد تتعلق بإيجاد المجتمع المتكامل، وتعميم نظريات اجتماعية واقتصادية بالغة الأهمية.

5: الجود

ومتى ترفّع الإنسان عن الحياة، ومرنت نفسه، وتضاءلت أمامه موائد الدنيا، تسخو نفسه، فيسهل عليه الإنفاق والإيثار.

* * * * *

على أنَّ الصائم حيث يتذوق ألم الجوع والحرمان، ويعيش حياة الفقراء والمساكين، يشعر بشعورهم، ويتلّخع عن الدنيا، بقدر ما يطمئن إلى ثواب الآخرة، فيرق قلبه ويلين جانبه، فينخفض جناحه للمعوزين، ويرثى لهم، ويجود عليهم بطيب النفس.

ولنفس السبب، نجد الفقراء أرق على بعضهم من الأغنياء، حيث إنَّ الفقير، يستطيع أنْ ينبض بشعور الفقير، ولكنَّ الغني لا يطيق أنْ يشعر بواقع الفقير.

وعن ابن عباس: (كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان). وإنّ أهل البيت (عليهم السلام)، ضربوا أرفع المثل في الجود، عندما كانوا صائمين، فأثروا على أنفسهم المسكين واليتيم والأسير، حتى حيّاهم القرآن بسورة كاملة من القرآن، وهي سورة (هل أتى).

6: الشكر

والشكر  صفة كريمة، تعني: (تقدير النعمة)، وهو بالإضافة إلى أنّه يستدر رحمة الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم: ((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ))، يدعو إلى استهلاك النعمة، في أفضل مصارفها، ويعصم الإنسان، عن التبذير، الذي ينتهي ـ حتماً ـ بإثارة نقمة الله تعالى، كما ورد في القرآن الكريم: ((وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)). وفقدان النعمة، بواسطة استهلاكها في مصارفها اللائقة.

والإنسان لا يستطيع تقدير النعمة، ما دامت متوفرة فيه، وإنّما يقدرها إذا فقدها، فليس في النّاس من يشكر نعمة السمع، مثلاً ـ إلاّ القليل ممن روضوا أنفسهم بالعبادات ـ ولكن إذا أصيب بالصمم الكامل، يعرف مدى عظمة نعمة السمع، ويقدرها تقديراً.

ولهذا الواقع، كان قسم من الأمراض والآفات، نعمة، يوفرها الله على العبد، إذا وجده معرضاً عنه، من دون أنْ تؤثر فيه المواعظ والنذر، فيصيبه الله ببعض الآفات حتى ينتبه عن سكرته، ويؤوب إلى ربه خاشعاً شاكراً.

والصوم مرتبة بدائية من المواعظ العملية، حيث يسلب الله به من العباد، بعض نعمه في أوقات محدودة، ولا يسلبهم الاختيار، حتى يصابوا بالذل وإنّما يسلبهم موقتاً وباختيارهم، بعض نعمه، كيما يتذوقوا ألم الحرمان، فيعرفوا نعمة الله، ويشكروه، عندما يحل لهم الطيبات...

ومتى تكرر هذا الحرمان، أياماً متتالية كل عام، تركز الشكر في نفوسهم، فلزموه على كل حال، فأصبحوا شاكرين.

7: العفة في الصوم

والصوم، يحرك ـ في الإنسان ـ الشعور بالعفة العامّة، فتتحرك فيه عفة البطن، وعفة الجنس، وعفة الكلام.

فيتحرك فيه الشعور بالعفة، عن شهوة البطن، لأنَّ الله قد أحل لعباده الطيبات من الرزق، وأباح لهم الأكل والشرب من غير سرف، فقال تعالى: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) وأضاف عز ّوجلّ: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)) واندفاعاً مع هذه (الإباحة المطلقة) تعوّد المرء في حياته اليومية الرتيبة أنْ يتناول ثلاث وجبات من الطعام ـ سحابة نهار ـ بكرة وظهيرة وعشياً، وأنْ يحتسي من ألوان المشروبات المباحة، أكبر مقدار يريد، في أي وقت يشاء، ولكن إذا صام يضرب عن الطعام والشراب، مهما لدغه الطوى وأحرقه الظمأ، وهو يجد كل ما لذّ وطاب وتحت إرادته، ثم يمسك عن ذلك كلّه، ويحبس نفسه عنه.

ويتحرك فيه الشعور بالعفة، من شهوة الجنس، لأنّ الله سبحانه: أحل مباشرة النساء ـ بشرائطها ـ متى شاء الرجل فقال: ((فَأنْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)). ((نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ))، ولكن هذه المتعة، تضيق في حياته إذا صام، ولا تباح إلاّ في الليل، لقوله تعالى: ((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ)) فيضطر طوال أيام رمضان، إلى أنْ يُلجم هذه الشهوة العاتية، أضف إلى ذلك: أنَّ طبيعة الصوم، تكسر حدة الشبق، وتهذِّب الغريزة الجنسية، على هذا الضوء، وجَّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العزاب الذين لا يستطيعون نكاحاً، إلى الصوم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء).

ويتحرك فيه الشعور بالعفة، عن شهوة الكلام، وبقية ألوان الشهوات لأنّ حقيقة الصوم، لا تقتصر على الامتناع عن شهواتي البطن والفرج فحسب، بل تشمل إمساك جميع الجوارح عن الحرام، ولئن كانت المحرمات محظورة على المسلم في عامة أوقات حياته، فإنّ حرمتها على الصائم أكّد، أو ليس في الحديث: (كم من صائم، ليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش). و(من لم يدع قول الزور والعمل له، فليس لله حاجة في أنْ يدع طعامه وشرابه). وقد أباح الله ردء السيئة بمثلها، فقال جلّ جلاله: ((وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)). ولكن كره للصائم أنْ يتنازل حتى إلى مستوى المعادلة بالمثل، وتراشق السباب والتهم، وفضّل أنْ لا ينبس ببنت شفة، سوى إعلان تحصنه بالصوم، فـ (الصوم جُنّة).

8: الأمانة

إنّ التربية الحديثة، اعتمدت طرقاً شتى لغرس الأمانة في نفوس الأطفال، ولكنها لم تعرف ـ حتى الآن ـ طريقة عملية، لتنمية الأمانة في نفوس الكبار، وحتى الطرق التي تمارسها لتعويد الأطفال، على الأمانة، لم تكن ناجحة إلاّ أقل من 50% وقد سبقها الإسلام، بابتكار الصوم، لتربية الصغار والكبار على الأمانة، وهو عمل ناجح ـ يمكن أنْ نقول ـ: مائة بالمائة، لأنه يدعو إلى ترك الأكل والشرب والجنس، وليس هناك أقوى أمانة من الإنسان الجائع، يرى الطعام فلا يتناوله، ويستبدَّ به العطش في يوم قائظ، ثم يدع الماء، ويلج به الشبق، ولا يقربه، كل ذلك وهو يعلم أنْ لا رقيب عليه إلاّ الله، فإن شاء أكل، وإنْ أراد شرب، لأنه يستطيع أن يلتمس الرُخص للإفطار. ومردُ هذه الرُخص، إلى تقديره هو في المطاف الأخير، فليس هنالك حارس يلازمه لإرغامه على الصيام، وإنّما يلتزمه بمحض اختياره وإرادته.

من تعوّد الأمانة في ترك الأكل والشرب والجنس ـ وهي من الحاجات الضرورية ـ فقد تعوّدها في كل شيء.

9: التقوى

فإنّ الإنسان لا يصوم، إلاّ إذا علم أنَّ الله له بالمرصاد، وأنّه أقرب إليه من حبل الوريد، بحيث يعرف صيامه وإفطاره، وأكله وشربه، ويحصي خطرات قلبه، وتقلّب نواياه، إذا علم كل ذلك، يجد نفس أبداً في حضرة سبحانه وتعالى، بحيث يراقبه في كل حركة وسكتة، كان يراقبه الله في كل لفتة، وهمسة ونية، وباستمرار ساعات الصوم تكرار أيامه، فتقوى في نفسه حالة حضورية، لا يستطيع جحودها، فيكون أبداً في خشوع وتواضع ووقار، فكما أنَّ الإنسان إذا مثل أمام أحد الملوك أو الزعماء، تملكه حالة مواظبة، تمنعه من آتيان كل ما ينافي مرضاتهم، كذلك إذا سيطرت عليه (الملكة الحضورية) بالنسبة إلى الله سبحانه، فإنّه يكون (متقياً) ـ بمعناه الكامل ـ حتى لا ينبعث إلاّ عن رضاه، ولا يأتي بما يخالف إرادته، أليس في بعض الحديث: (الصوم جُنّة) إشعاراً بأنّه (وقاية) يجب أنْ يتستر بها الصائم، من شرور نفسه وشرور مجتمعه وشرور الشيطان، وهكذا يكون متقياً ـ رمز إليه القرآن حيث ختم بيان الصوم بقوله: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) ـ ويرقى في مراتب التقوى، حتى يبلغ درجة اليقين، التي عبّر عنها الحديث المأثور: (أعبد الله كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك).

10: الإخلاص

وإذا أعتاد الصائم أنْ يجد نفسه تحت مراقبة الله، حتى تربت فيه (ملكة الحياء) من الله سبحانه، وأنْ يراه حيث نهاه، أو معرضاً عمّا يرضاه، يكون صادقاً مع نفسه ومع النّاس ومع الله، فلا يتسول المكائد، ولا يسدل بينه وبين الله ستاراً، ولا يقترف المنكر جهاراً، وإنّما يفعل الطاعات، بداعية عظيمة، لا يشوبها رياء ولا سمعة، ولا استجابة عادة.

وإذا كانت العبادات كلها، منبعثة من الإيمان الداخلي، ولا تقبل إلاّ بالإخلاص، فإنّ الصوم أوثق العبادات صلة بالضمير، لأنّها عبادة لا يطلّع على حقيقة الوفاء بها سوى علاّم الغيوب، وهذا أدعى إلى التحرر النفسي، من كل شائبة نفعية.

ولعل هذا هو سر خلوص جزاء الصوم، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الله: ((كل عمل ابن آدم له، إلاّ الصوم، فإنّه لي وأنا أجزي به). وفي وراية أخرى: (كل عمل ابن آدم، يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها: إلى سبعمائة ضعف، إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به، يدع شهواته وطعامه من أجلي).

11: تزكية النفس

إنَّ الأيمان ـ رغم سهولة انتحاله ـ حقيقة صعبة المنال، فلا يكل إيمان عبد، حتى يجد وقع أوامر الله ونواهيه في وجدانه، كما يلمس وقع الموجودات الحية بحواسه، وأما الكلمات المتفائلة، التي تعطر الحديث، ثم تموت على شفاه قائلها، تاركة خلفها ظلمات وآثاماً، فلا تعبر عن الأيمان، أو ليس في القرآن إنّ إبراهيم قال: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))؟ وأليس في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس الأيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل)؟.

فالعقول في عزلة عن القلوب، والقلوب في ظلام دامس، من أخطاء العواطف، وعواطف الأهواء، والإنسان بين كل ذلك بعيد عن الأيمان، وكثيراً ما يقول بلسانه، ثم يمسي مفلساً، وتنطوي صحيفة عمره بين الغفلة والتمني.

ولعل الحديث التالي، حاول التعبير عن هذا المعنى، حيث رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحارثة بن سراقة، مبكراً إلى صلاة الصبح، مطرقاً مفكراً، فأفتتح صباحه قائلاً: (كيف أصبحت يا حارثة؟)

وبين فرح اللقاء، وفرحة التبكير أجاب حارثة: (أصبحت مؤمناً حقاً).

ولكنَّ معلّم البشر، الذي عرف أنّ أكثر النّاس يقتنعون بالأماني والتسوّلات، من غير فهم ولا عزم ولا عمل، قال لحارثة: (لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟)

غير أنّ حارثة كان يعرف أنّ الأيمان حقيقة، والحياة حقيقة، والإنسان حقيقة، ومن هذا المزيج تتكون (شخصية المؤمن) كشف عن واقعه مجيباً: (عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها، وحجرها، وكأني أرى أهل الجنّة ينعمون، وأهل النّار يُعذبون، وكأني أرى عرش ربي بارزاً).

* * * * *

وإذا كان هذا معنى الأيمان الذي أقرّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ تمكينه من النفوس، بالغ بالصعوبة، ولا يمكن ترسخه فيها بمجرد كلمات وخطب، وإنّما يحتاج إلى حركة عملية، جديرة بإنجاز هذه المهمة، وقد قرر الإسلام لأداء هذه الرسالة، الصوم، فإنّه حيث يقطع أواصر المادة، ويستأصل النزوع إلى المناعم الفارهة، ويجرد الإنسان من المطاعم والمناكح فترات متوالية، يستطيع كبت الرغبات والنزوات الطائشة، وتطهير النفس من العناصر المختلفة النكراء، التي تخلق فيها استجابة للمواد الأرضية المركبة معها، أو تترسب عليها من الجو والمحيط والتربية المنحرفة، وكلما تزكّت النفس، تهيأت للتقوى والقبول، وأصبحت كالأرض المهذبة من الأشواك وفضول الأعشاب.

فيكون الإنسان ـ بعد فترة الصوم ـ مستعداً للانسلاخ من تلك الفظاظة التي نلمسها في أبناء الشرق الإسلامي، وقادراً على التحرر من عبادة العادات، وحكومة الأوهام، التي حولت حياتنا إلى قطعة من (الروتينيات) و(الدبلوماسيات) البليدة، وجعلتنا آلات ميكانيكية، تتحرك على نسق معين، لتؤدي أعمالاً محدودة وفق إرادة خاصة، فابتعدنا ـ كل الابتعاد ـ عن المرونة، التي تميز الإنسان عن الخشب والحجارة والحديد، حتى تخلينا عن شيم الأحرار، الذي يعملون باختيار.

والصوم، يقدر على هذه الرسالة، لأنّه زمام إداري، يدفع الإنسان إلى مجانبة مشتهياته بمجرد إرادته، ومتى قدر الإنسان على إهمال شهواته الجامحة، يتدرج في المقاومة إلى أنْ ينال (ملكة) راسخة، يتمكن بها من الانكماش والانبعاث متى أراد إيمانه.

فمن استطاع ـ في رمضان ـ أنْ يقول: (إني صائم) كلما واجه كلمات بذيئة، يستطيع في كل حين أنْ يقول: (إني مؤمن) مهما قابل جاهلاً.

ومن منع نفسه من الماء الحلال ـ لأنّه صائم ـ يهون عليه أنْ يمنع نفسه من الخمر الحرام ـ لأنّه مؤمن ـ ومن امتنع عن مباشرة زوجته الحليلة ـ من أجل الصوم ـ يسهل عليه الامتناع عن امرأة أجنبية ـ لأجل الأيمان ـ ومن كف عن الطعام المباح ـ استجابة لإرادة الله ـ يخفّ عليه الكف عن الربا ـ خوفاً من الله ـ وهكذا تنحسر التيارات المفروضة على النفس، ليأخذ قيادها الأيمان.

فمسؤولية الصوم، هي تحرير الإنسان، من العبودية الاختيارية لـ (اللاشيء)، وتوجيهها إلى عبادة الله...

وبعد ذلك... يتاح للإنسان، تغذية نفسه بالأفكار الصالحة، وزرعها بالفضائل والمثل، والقيم الروحية، حتى تنصهر عواطفه، ويتبلور ضميره، وتقوى في روعه نزعة الخير، وتتضاءل أمام عينه المطامع والمنافع، فلا تنازع القوى المادية إلى مُتعها ومساقطها، ويصل ـ تدريجياً ـ إلى حالة من (الصفاء) تحبب إليه الخير، وتكرّه له الشر، وترهف إحساسه، حتى يشعر برفعة الفضيلة، وخسّة الرذيلة، فيتخلى عن هذه، ويتحلّى بتلك، ليغدوا إنساناً مثالياً نموذجياً، لا يترك الصدق والحق، والوفاء والمروءة، وإنْ كان فيها تجشم الصعاب، وتحمل الضياع، ولا يرتكب الفسق والباطل والزور، وإنْ تتطلب تقديم التضحيات، والحرمان من الأغراض المحرمة.

كما يكون في وسعه ـ بعد ذلك ـ إطلاق عنان نفسه، وإهمالها، حتى تتدهور في المزالق، إلى أنْ يبلغ القرارة السحيقة، التي تكبله ـ فيها ـ شبكة الشيطان، وحبائل المجتمع.

هذه هي مهمة الصوم، إنّه يهيئ الإنسان ويعدّه للتقوى، ولكن لا يجبره عليها، وإنّما يترك له الخيار، ليهلك من أحبّ الهلاك، ويحيي من فضّل الحياة، ولعل إلى هذا المعنى تنظر كلمة: (لعل) في آية الصوم: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) فكلمة (لعل) كلما وردت دلت على مفهوم الصلاحية لا الإكراه.

12: إنكار الذات

لعنا نستطيع التأكيد، على أنّ (حبّ الذات) رأس الأخلاق الذميمة، فالجبن من آثار (حب الذات)، والبخل من آثار (حب الذات)، والانتهازية من آثار (حبِّ الذات)، وحب الظهور، وطلب الشهرة، وابتعاد المحمدة، والحسد والحقد، والأنانية، وكل صفة دنيئة، من آثار (حبِّ الذات)، لأنَّ الذي يعبد ذاته يظن به عن مخاطر والأهوال، ويحاول أنْ يكرس جميع أمواله للتوفير على شخصه، وينتهز كل فرصة ـ مشروعة أو غير مشروعة ـ لاكتساب منفعة، ويحاول الظهور والشهرة والثناء، ويحسد من يفوقه، ويحقد على من ينازعه... لأنّه يرى شخصه ولا يرى غيره، ويعرف أنّ كل توفير عليه انتصار، وإنّ كل تقتير عليه فشل، من دون أنْ يهتم بالقيم العليا، أو يقيس الأمور بمقاييس الآخرة والثواب.

وإذا كان (حب الذات) رأس الأخلاق الذميمة، فـ (إنكار الذات) رأس الأخلاق الحميدة، لأنَّ الذي يعلق طرفه بالأفق البعيد، لا بد أنّه يهتم بالمثل العليا، ويقيس الأمور بمقاييس الآخرة والثواب، حتى يهون عليه كل شيء، وينكر ذاته، وإذا أرتفع مستواه إلى مستوى القيم العليا، والآخرة والثواب، أصبح شجاعاً لا يبالي أَوقع على الموت أم وقع الموت عليه؟؟؟ وأمسى كريماً، ولا يبخل بأي شيء، إذ لا شيء أعزَّ من الذات، ينكر ذاته ولا يبخل بماله، وصار مبدئياً يعمل لهدف خاص لا يتخلى، مهما عظم الإرهاب أو الإغراء، وأنكر الظهور والشهرة والمحمدة، وبقية الأخلاق الذميمة، لأنَّ من سمت نفسه فوق ذاته، يزهد في مباهج الحياة، فلا يتواضع للصراع حول أعراضها، والحسد والحقد على من نال منها نصيباً، أو نازعه شيئاً منها.

وعندما نستعرض واقع التاريخ، نجد أنَّ (حبَّ الذات)، هو الذي صرع القادة والزعماء، الذين ركبوا الشطط، فأفسدوا المجتمع وأفسدوا ثوابهم عند الله وعند النّاس، ثم كان عاقبة أمرهم خسراً، ونرى أنَّ جميع القادة والزعماء الذين عبَّدوا طرق الصلاح، وحملوا النّاس على الخير والهدى والعدل، فصلحوا وأصلحوا، حتى استحقوا الخلود في الدنيا والخلود في الآخرة، هم الذي دفعهم (إنكار الذات) إلى الإخلاص في عملهم، ولمجتمعهم، والتضحية في سبيل الله.

* * * * *

والصوم يطهّر الصائم من (حبِّ الذات) ويحلّيه بـ (إنكار الذات)، لأنّه عندما يجابه سلطان النفس، ويكبح جماحها بالامتناع من المشهّيات، الجسدية، يذل النفس ويحد عن غرورها وغلوائها، فتصبح ذلولة طيعة، وإذا تكرر الصوم كثيراً، انتهى بتركيز (إنكار الذات) في نفسه، بينما الإنسان الذي يصدف عن الحق، ويمعن في المعاصي، ويستجيب لنفسه كلما دعته إلى شيء، لا بد وأنْ ينمو في نفسه (حبّ الذات).

* من كتاب حديث رمضان

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/تموز/2014 - 24/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م