وجع الماء والجنوب إذا تنفس

مع ديوان حسن سالم الدباغ "الجنوب إذا تنفس"

صالح الطائي

 

كل قنبلة سقطت

كل قنبلة بعد لم يقذف الموت منها

كل من سقطوا

كل هوى من دماء تراق

سيورق سنبلة في عيون العراق

بهذه الكلمات استهل حسن سالم الدباغ مشواره الطويل راحلا وحيدا شريدا في درب الوحدة الموحش، مرافقا الخطر الذي يطل من جدران المتاهات معبأ بنزق الخبال الذي يتحكم بمسارات حياتنا، وكأنه يريد أن يستنسخ من الوجود المترع بالغضب وجودا عدميا خاليا من تفاهات الحروب والظلم والعسف، يغفو الإنسان في دنياه على ابتسامة ويصحو على كلمة حب بعبق طيبة الجنوب، إنه البحث عن الجذور، عن أصل الخلق، فالخلق بدأ في الجنوب ساعة هبط أبونا آدم من عليائه إلى دنيانا.

وبعنوان "بقاء" كانت الخطوة الأولى من رحلة الوجع الأبدي، وجع عشق الوطن الذي يفوق جواه عشق الغانيات، هذا الوطن المسكون بالدهشة، المملوء غرابة وغموضا حيث سعفات النخيل تغازل ماء الفراتين وتسرد رواية العشق السومري، في لحظة ينسلخ الإنسان فيها من وجه التراب، وينسلخ التراب من وجه الإنسان فيشتركان في الجينات، ولا يعود الإنسان إنسانا ولا التراب ترابا، وتتحول الدنيا إلى محض ترهات بكبر وطن أصله من الطينة الأولى التي خلقت منها كل الأشياء، وهنا من حق الكلمات أن تتهور وتستفز وجودها لتعبر عن المعنى الوحيد في الكون.

في ظلمة هذه المتاهات حيث لا خارطة يهتدي بها الإنسان، ولا دليل يقود القافلة؛ رسم حسن سالم الدباغ أوجاعه بريشة استعارها من جنيات الشعر وشياطين القافية مبتدئ لحظة العشق الحرام من عمق وادي خرافة للحديث عن "بقاء" ميمما وجهه صوب "وادي الغضا" مرافقا مالك بن الريب ليس للبحث عن مزار أو عن ابنة غيبتها عتمة الديار، ولكن للبحث عن جنوب "وطن" بحجم "فرح" رصفوه في "حقائب" وتركوا مكانه "فراغ" أوقع في نفس الكون "وحشة" لا تنفع معها "مكاشفة"(1)، وهي الأشياء التي يحتاجها الشعراء عشاق الوطن لكي تكتمل صورة الحبيب في مخيلتهم التي أرهقها التفكير والعطش.

فالشعراء كالنوارس هم أيضا يهاجرون في فضاءات الوطن بحثا عن المحن أو الذات ولذا تراهم في مكاشفتهم أو نزهتهم أو رغبتهم سواء في شرفاتهم أو وهم ينتظرون الموعد المبكر بعد ليلة من الأرق حيث يتمدد الظل فتتلاشى الأشياء وتحلم الناس في الزمن الإسفنج حيث اللهاث والغياب ودعوات الشيخ(2) التي لا تلقى من يستجيب، كلها تبدو مجرد محطات للوصول إلى نخلة تقع عند دار المعرة في بداية طريق الجنون في الموسم الأخير الذي تبتدئ عنده رحلة البحث عن الجنوب حيث يتوضأ "أنتي ـ مينا"(3) بماء الفراتين، هنا بالتحديد شحذ حسن سالم الدباغ رؤاه ليستمد من 

الإله "أنتي ـ مينا" نسغ التواصل مع الجنوب من حيث بدأ:

أنتي ـ مينا

يعلن عن بدء جنوب

من طرف الخيط

لآخر أفق في عينين مبللتين

ذلك لأن الشاعر يعتقد أيضا أن الأرض بغير جنوب لا تعود أرضا، وإنما تتحول إلى مجرد باغية رخيصة:

إن الأرض بغير جنوب

تكشف عن ساقين

لبذل أنوثتها

بل إن الأرض حسب رؤية الشاعر ما كانت بغير الجنوب لتكون أرضا، هكذا كان يتصور الدنيا من غير جنوب، ولذا تراه يقول:

عن رجل قال:

لو تركت هذي الأرض بغير جنوب

لانحسر الرمل

وكان القبر سوى شاهدة

ولبانَ النقصُ بحشد الحفارين

في وسط هذا الضجيج وعدم وضوح الرؤية وجد الشاعر أن أسلم طريقة للبحث عن الجنوب هي بالسفر إليه أينما كان، حتى لو كان في عمق الأكوان، فالجنوب ألق يستحق التضحية وتحمل مشاق السفر. وبعد رحلة الوحشة هذه يصل إلى أعمق نقطة في الذات عسى أن يجد الجنوب حيث بدأ، فهو لما يزل غير واثق من وجوده ولذا تراه يقول:

لكل جنوب بدء... ثم تكتمل الأرض.

حقيقة واحدة كانت قد أسرته وهي العلاقة بين الجنوب والماء فالماء جنوب والجنوب ماء، وبين الجنوب والماء يمتد وجع السنين موشى بنزق كل الحكام، وتفاهات كل اللصوص، وآثام كل التافهين الذين سرقوا الفرحة من وجوه الأطفال واللقمة من أفواههم، المجرمون الذين طاردوا أسراب أنوثة بسمات الفتيات وقهقهتن، فأحالوا فرحهن إلى أوكار مرايا مكسرة، يبحثن في شرايينها عن صور الأمس الغابر الممتد على سواحل أنهار الوحشة، وبين الماء والماء تمتد أوجاع العهر الإنساني المنمق بهذيان الحضارات حيث الدلاء مثقوبة الرئتين وحيث الأطفال ينهمرون من العيون كما الدموع:

بين الماء

ودورة حزن الفضة

أبصر أنتي ـ مينا

يبصر

تحت عباءة سيدة

دلوا

مثقوب الرئتين

يجمع حب الماء

يا بوح بكائي

هذا طفل ينزل من عينين

إن هذا التكرار المدهش لمفردة الماء وما يخصها وكل ما له علاقة بها حتى الطين والرمل، ثم تكرار قول "بين الماء والماء" على امتداد طريق قصيدة "والجنوب إذا تنفس" متزاملة مع الدلو مثقوب الرئتين مرة، وخيط الماء على الساقين أخرى؛ تشعرك وكأنك تتلقى رذاذ قطرات المطر تصفع جبينك، وتشعر بسماع صوت خرير الماء ينساب عذبا فراتا، وتحس بندى القصيدة وطراوتها؛ لكثرة ما ذكر الماء فيها.

‘ن للماء في قصيدة "والجنوب إذا تنفس" معنى يترجمه التكرار الممتع: 

جرة ماء، نضح الماء، العفة في لجش كالماء، تباع جرار، يقطع حبل الماء، وسلالة ماء، لأني اذكر بدء ورود الماء، تذوب عيونا، في رمل الضفتين، ما ابتل بماء، أبذر حب الماء الوردة، لآخر قطرة ماء بين أصابعها، جرة ماء، من ماء بقايا امرأة، الطين، ماء أطول من جرح امرأة تبكي، تنساب طفولة ماء، قبيل ورود الماء، التمسوا النهر عند الفجر الأول من غربتهم، لم ينحسر الماء، ينتظر النهر إناثا.!

ولم يقف الشاعر عند هذه المعاني النافرة وإنما استعدى التشبيه وسحبه ليدعم الصورة غير النمطية للماء في القصيدة، فكل التشبيهات الأخرى أخذها من صور الماء:

عذبا كان الدمع بحزن الفضة، يتكسر تنحت عباءتها، وتراب مبتل بالحكمة، منقوعا بالطلع، يسيح بياض الثدي، تسيل فوق العشب يديها، بفراشات البلل المر ، وهو يذوب على الشرفات، لجش يشطرها النهر وكل طيور العفة تأكل من فخذيها، في عينين مبللتين، سيدة تحمل دلوا، وأتابع خيط الماء على الساقين، أتسلق خيطا مشدودا من شفة الغراف لفخذ سحابة، وعشب ضفاف العفة، في الضفة الأخرى ، الوردة والضفتين، لكن الغراف على جسدي يمتد يقيم جنوبا ، لآخر أفق في عينين مبللتين، ومثل قصور البحر، وبشمس من مطر الرب على كتفي، يحاول رتق مساربه، كيف تطوف الشموع، حبل المطر النازل من وحشة نافذة.!

كل ذلك جاء محاكا بإزميل شاعر يعرف كيف يوظف الكلمة لتعبر ليس عن معناها فحسب بل عن معان أخرى لها مساس مباشر بالحياة والنمو والبقاء والتجذر، ولقد تحولت هذه القصيدة الملحمية إلى روح عذبة لهذه المجموعة وأصبحت شعارا جنوبيا ليس غريبا عن تلك الأناشيد التي كانت ترددها جميلات المعبد السومري وهن ينشد للإله الجالس بينهن تحيط به برك الماء المنساب إلى الجنوب وكأنه يعلن ان قرار الحياة مهما طال دربها ينتهي عند الجنوب وماءه الرقراق المحمل بالغرين والطما ليمنح الأرض تجددا سرمديا.! 

صدرت مجموعة "والجنوب إذا تنفس" عن مكتبة عدنان في بغداد وقد استمدت اسمها من آخر وأطول القصائد فيه، قصيدة "والجنوب إذا تنفس"، بمائة وأربعين صفحة، حجم نصف أي فور، شغلت  قصائده السبع والعشرين الأولى ثلاث وتسعين صفحة، بمعدل ثلاث صفحات للقصيدة الواحدة، وشغلت قصيدة والجنوب إذا تنفس لوحدها سبعة وأربعين صفحة فاستحقت بجدارة أن تتسمى المجموعة باسمها.

إن تركيزي على هذه القصيدة دون غيرها من قصائد المجموعة التي لا تقل عنها جودة وإمتاعا؛ أني وجدتها قد اختزلت كل المعاني الأخرى في معناها، وتحولت إلى ثيمة فيها الكثير من الدلالات والصور المدهشة.

........................................

هوامش

(1)  بعض أسماء قصائد المجموعة

(2) مجموعة أخرى من أسماء قصائد المجموعة

(3) أنتي ـ مينا: إله سومري، له في المتحف العراقي تمثال مصنوع من حجر الغرانيت يبلغ وزنه أكثر من 200 كغم

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/تموز/2014 - 23/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م