أسس وأهداف التربية

في فلسفة جون لوك

حاتم حميد محسن

 

يعالج جون لوك مسألة تربية العقل. فهو يوضح اننا في عملية تكوين العقل السليم، انما نهدف اساسا لتكوين عقل فاضل. الهدف الرئيسي والأعظم اهمية للتعليم هو ان نغرس الفضيلة لدى الطفل. التعليم هو اولاً ودائما تعليم اخلاقي. ومع ان التعليم الاكاديمي هو ضروري ومهم ايضا، لكن السمة الاخلاقية للطفل هي الأجدر بالاهتمام. ان قوة الجسد تكمن في المقدرة على تحمّل الصعوبات. اما قوة العقل كما يبدو، لا تختلف كثيراً. العقل القوي (ذات السمة الاخلاقية) هو العقل الذي يمتلك القابلية للعمل دون الانسياق وراء الاشياء التي يرغبها. إنكار الذات، طبقا للوك هو مبدأ الفضيلة.

الرجل يكون فاضلاً فقط حين يستطيع العمل ضد رغباته المباشرة، وذلك حين يوحي له العقل ان هذا سيكون الافضل له. فمثلا، لو كان هناك شخص يريد تناول كل طبق الكيك المخصص ليوم الميلاد. عقله يقول له ان هذا ليس من الإنصاف لأن كل واحد من الحاضرين ايضا يرغب بتناول قطعة من الكيك. الشخص صاحب المبدأ الاخلاقي ستكون لديه القدرة للاستماع لصوت العقل وكبح رغباته. الفرد المجرد من هذه القابلية، سيكون غير قادر على الإصغاء لصوت العقل، وسوف يأكل بنهم كل ما متوفر امامه. الشخص الاول سيتصرف اخلاقيا اما الثاني سوف لن يقوم بذلك.

طالما ان المفتاح الرئيسي للفرد ليكون فاضلا هو ان يمتلك القدرة على انكار الذات، فان الهدف الاكثر اهمية في التعليم هو غرس هذه القابلية لدى الاطفال. لسوء الحظ، يعتقد لوك ان الطريقة التي يربي بها الناس اولادهم تقود الى تأثيرات عكسية: انها تمنع هذه الخاصية من العمل. ذلك بسبب ان الوالدين يميلون لتدليل اولادهم واطلاق العنان لرغباتهم. الآباء يجدون انفسهم غير قادرين على رفض حاجات اطفالهم.

ان السبب في كون الدلال المفرط سيئا هو ان العقل يكون سريع التكيف اثناء ذروة الشباب. هذه الفترة هي التي يجب ان نضمن فيها طاعة الطفل التامة للعقل. اول شيء يجب ان يتعلمه الطفل هو انه لايستطيع امتلاك اي شيء يريده، هو يستطيع فقط امتلاك ما يريد اذا كان العقل يرى ذلك هو الافضل. بالطبع، الاطفال ليس لديهم الكثير من العقل في هذه المرحلة من العمر، ولذا هم يجب ان يخضعوا طائعين لعقل آبائهم. وعندما يصبح الطفل معتاداً على إنكار رغباته حين يمنعه أبواه من الانغماس بتلك الرغبات، عندئذ، وحين ينضج الطفل وتتطور ملكاته، سوف يكون ايضا قادراً على إنكار تلك الرغبات لأن عقله سيقف بالضد من اشباعها. ومن جهة اخرى، لو ان الطفل اعتاد على الحصول على كل ما يريد، عندئذ وحينما ينضج، سوف يستمر بتوقّع تحقيق كل حاجاته. بمعنى آخر، هو سوف يفتقر لمبدأ الفضيلة.

باختصار، الطفل يجب ان يكون طائعا كليا لوالديه منذ السنوات المبكرة من حياته. فهو يجب ان يمتثل تماما لرغبات الوالدين لأن رغبة الوالدين هي بديل او نائب عن القدرة العقلية المستقبلية للطفل.

ان إطلاق رغبات الاطفال، يجعل الوالدين متهاونين سلبيا في ما يتعلق بالتربية الاخلاقية. لوك يتهم الآباء بانهم ايضا مذنبون بتهاونهم في تعليم الرذائل دون تحفظ. الوالدين يعلّمون اطفالهم العنف والثأر والقسوة من خلال الاستهزاء بهذه المسائل. هم يعلّمون التوافه مثل الاعتراض الشديد على طريقة ارتداء اطفالهم للملابس. يعلّمون الكذب والمراوغة عبر التساهل في هذا السلوك امام اطفالهم. هم يعلّمون الإسراف والانغماس في الملذات من خلال ضخ الطعام والشراب لإطفالهم.

كيف ننجز السلطة الضرورية

بعد ان طرح لوك الهدف الواسع للتعليم الاخلاقي (زرع مبدأ الفضيلة) والوسائل الواسعة لتحقيق ذلك الهدف (بجعل الطفل مطيع لوالديه) يقوم الان بالبحث في قضية التعليم الاخلاقي بشكل اكثر تفصيلا. هو يبدأ بتوضيح الكيفية التي ينجز بها الآباء السلطة التي يحتاجونها.

من المهم جدا، طبقا للوك، ان السلطة التي يمتلكها الآباء على اطفالهم تتأسس على تحفيز ملائم. الطفل يجب ان لا يُحفّز لطاعة والديه بسبب خوفه من العقوبة البدنية، او بسبب رغبته بمكافأة مادية (كلعبة او حلوى). بدلا من ذلك، يجب ان تكون رغبة الطفل بطاعة الوالدين هي لكي يحظى باحترامهم ويتجنب غضبهم. بمعنى اخر، هو يجب ان لا يتحفز بالمتعة او الألم الماديين، وانما بشيء عقلي (شيء ما يشبه كثيرا الضمير الذي يرشده في اخر الحياة). لو نحن نحاول تحفيز الطفل بالرغبة بإنجاز متعة مادية وتجنّب الألم المادي، حسب لوك، نحن سنقوم فقط بتعزيز الملكة التي نحاول تحطيمها: سنجعل الرغبات والعواطف الآنية هي الخير النهائي. هدفنا النهائي هو ان نساعد الطفل في التمكن من قيادة هذه الانواع من الميول لكي يستطيع اتباع اوامر العقل.

يذكر لوك ايضا بعض الاسباب الاخرى لإعتبار العقوبة البدنية ليست الطريقة الجيدة للتأديب. اولاً، العقوبة الشديدة يمكنها كسر روح الطفل. هذا سيكون امرا مرعبا لأن القوة والمثابرة هما الاساس ليصبح الطفل عضواً نافعاً في المجتمع (لا حاجة للقول ان الطفل المنكسر معنويا هو امر مأساوي).

ثانيا، اذا لم تنجح العقوبة في كسر معنوية الطفل، عندئذ ستمنحه مزاجاً خانعاً. متى ما اختفت العصا عن المشهد، هو سوف يرتد الى سلوكه السيء، لأن الضرب يساهم فقط بزيادة رغبته في الضرب ذاته حين يصبح سريع الامتعاض. اخيرا، الضرب له تأثير مضاد لأنه يجعل الطفل يكره كل ما هو مرتبط بسبب العقوبة. لو عوقب الطفل بسبب انه لا ينتبه خلال الدرس فهو سوف يكره الدرس. ولو انه ضُرب بسبب انه كان جديد على المدرس، عندئذ هو سيكره المدرس.

مع ان المكافأة المادية والعقوبة ليستا التحفيز الجيد للطفل، لكن لوك مقتنع ان المكافأة والعقوبة هما التحفيز الفعال الوحيد للمخلوق الرشيد. الاحترام وعدم التقدير، يستبدلان الضرب والمكافأة كتحفيز لسلوك الطفل الجيد. يدّعي لوك انه حالما تُزرع الرغبة بالاحترام وتجنّب الكراهية، هما سيصبحان حافزان اكثر قوة من المكافئات والعقوبات المادية.

 السؤال، هو كيف نزرع هذه الحوافز. يعتقد لوك انه لديه الجواب. اولا وقبل كل شيء، في اي وقت يتصرف فيه الطفل بشكل حسن فهو يجب ان ينال التقدير من كل شخص. عندما يكون سلوكه سيئا، كل شخص يجب ان يكون باردا معه. اضافة الى ذلك، لكي يتعمق ربط الاحترام مع كل الاشياء الجيدة والكراهية مع كل الاشياء السيئة، يجب اعتماد انواع اخرى من الايجابيات والسلبيات الى جانب هذه الحالات، كما لو كانت نتائج ضرورية. لوك لا يحدد بالتفصيل انواع الايجابات والسلبيات التي يجب ان تُستعمل هنا، لكن من السهل تصور نوع الاشياء التي يحبها ويكرهها الاطفال.

عبر ربط كل الاشياء الجيدة بالاحترام وكل الاشياء السيئة بالإدانة او الشجب، سيصل الطفل الى الاعتقاد ان اي شخص محترم هو بالضرورة محبوب ومقدّر وله كل مزايا الحياة، بينما العكس يصح على الشخص المُحتقر. كل الرغبات عندئذ ستبتعد عن انجاز الميول والشهوات المباشرة، باتجاه نيل الاحترام في عيون اولئك المهتمين به.

تحليل

ادّعاء لوك ان إنكار الذات هو الاساس لكل الفضائل هو امر مثير للجدل طالما ان هناك خصائص اخرى تقود الى الفضيلة. ربما يجادل احد ان الشخص سيكون فاضلا حين يظن نفسه مجرد شخص واحد بين الآخرين، وليس لديه منزلة اخلاقية خاصة. حالما يفكر الانسان بهذه الطريقة فهو سوف يميل للتصرف بعدالة تجاه الاخرين. الشخص الذي يتبع هذه القاعدة، كما يرى البعض، سيكون بوضع افضل للتصرف دائما بأخلاقية أعلى قياسا بشخص آخر امتلك قدرة لوك بالإنكار الذاتي. ايضا قد يجادل المرء ان الشخص سيكون فاضلا طالما يتأكد من ان كل فعل يقوم به سوف لن يؤثر سلبيا على العالم. لكي نفهم ايمان لوك بالعقل فمن المهم ان ننظر لأعماله الاخرى، على سبيل المثال "الرسالة الثانية في الحكومة" و"مقالات في الاخلاق والسياسة".

 لوك لديه نظرة خاصة جدا عن العقلانية الانسانية وعلاقتها بالخير الاخلاقي. هو اعتقد ان الله خلقنا بطريقة، حين تُستعمل بشكل صحيح، فان امكاناتنا العقلانية ستكشف لنا مختلف القوانين الطبيعية ( وهي القوانين المنبثقة من الله، التي تقول لنا ما هو الصحيح وما هو الخطأ). القانون الطبيعي الأعظم اهمية هو: احمي كل مخلوقات الله. الطريقة التي نصل بها لهذا القانون من خلال العقل هي عبر اتباع خط من التفكير: نحن جميعنا اطفال الله متساوون ولهذا السبب يريد الله من كل منا ان نحافظ على حياتنا ونبقى نشطين. لذلك، نحن يجب ان نساعد انفسنا والآخرين للبقاء احياء وسعداء.

يجب الاشارة الى ان هناك أحكام منافسة لمبدأ لوك في الفضيلة، هذه الاحكام يطلب منا العقل اتباعها. هي في نفس مستوى مبدأ الفضيلة. انها مساوية لقوانين لوك في الطبيعة وليس لمبادئه في الفضيلة. مبدأه في الفضيلة هو ليس حكمة او اختبار يستخدمه العقل، وانما مبدأ لوك يمتد الى جوهر الاخلاقية الانسانية- الى الصراع السايكولوجي بين ما نريد وبين ما نعرف انه حق.

في ضوء هذا الفهم، يبدو من المحتمل ان لوك حقا وجد أفضل أساس لكل الاخلاق. اذا كنت باستمرار تربح المعركة بين ما تريد عمله وبين معرفتك بما يجب عمله (كما في حالة انك يجب ان تحمي كل مخلوقات الله، ويجب ان تعمل للآخرين مثلما تود ان يعملوا تجاهك، او انك يجب ان تتصرف بطريقة لو قام بها كل شخص فسوف لن تكون هناك اية مشكلة) عندئذ من الواضح انك باستمرار تعمل الشيء الصحيح.

في عدة جوانب، يتجاهل لوك الطرق المختلفة التي تؤثر بها البيئات المختلفة على الاطفال. يرى لوك ان احسن طريقة لغرس مبدأ الفضيلة هو بمحاولة تحفيز الاطفال عبر الاحترام وعدم الاعتبار. هو يدّعي ايضا بان الشخص المتحفز عاليا سوف " يميل دائما للحق". لكن السؤال الذي يُطرح هنا: هل صحيح حقا ان اتّباع آراء الناس الآخرين يقود دائما لسلوك فاضل؟ ظاهراً لايبدو هذا الاعتقاد صحيحا. بالتأكيد ان فاعلية هذه الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على الجماعة التي تحيط بك. اذا كنت محاطا بأناس منشغلون بسلوك مدمر ذاتيا، مثلا، فان السلوك الذي يمنحك الاحترام بعيون زملائك سوف لن يكون فاضلا، والعديد من افعال السلوك الفاضل ربما تضعك في موقف المُدان.

هناك بعض الحقيقة في ما يقوله لوك. في معظم الحالات، تتفق المجتمعات بان بعض الجرائم هي خاطئة. مع ذلك هناك عدة قضايا اخلاقية اخرى تتعامل معها المجتمعات ببرود (كما في حالة عدم الاهتمام بالفقراء او في قضايا الاخلاص والشرف). استعمال الاحترام وعدم الاعتبار في عيون الاخرين كمرشد لك، ربما هو ليس الطريقة الناجحة لإنجاز الاخلاقية التي يراها لوك.

غير ان لوك كان يتحدث لمجتمع معين وفي وقت معين. ربما هو لم يدّعي ان هذه العلاقة بين الفضيلة والاحترام تصح عالميا، هو كان يقصد انها تنطبق فقط على الطبقة العليا في انجلترا في القرن الثامن عشر.

 ان ما يهدف اليه لوك في النهاية هو ان الطفل يهتم كثيرا بنيل الاحترام وتجنب التحقير من الاخرين. بمعنى اخر، عبر تعليم الاهتمام بما يعتقد به الاخرون، فان الطفل يطور ضميرا قويا. يمكننا فهم هذا البيان كما لو قلنا بان المرء دائما يميل لعمل الشيء الصحيح، حين يتّبع ما يمليه ضميره. هذا الادّعاء مشروع تماما، على الاقل من وجهة نظر لوك، لأن لوك يعتقد ان قدراتنا العقلية سوف لن تقودنا نحو الضلال في المسائل الاخلاقية. اذا كان نيل الاحترام مجرد مسألة القيام بما يقرره العقل في عمل افضل الاشياء، عندئذ فان اتباع الضمير سوف يكون صمام الأمان في هدايتنا دائما نحو الفضيلة.

* Some thoughts concerning education, John Locke, 31-42 The Aim and foundation of Education. SparkNotes philosophy guide

.....................................................

الهوامش

جون لوك (1632- 1704) هو فيلسوف وفيزيائي انجليزي، اُعتبر احد أشهر مفكري التنوير وعُرف بـ "ابو الليبرالية الكلاسيكية". كان لوك أول انجليزي تجريبي، متبعاً تقاليد فرنسيس باكون، وهو ايضا مفكر هام لنظرية العقد الاجتماعي. عمله اثّر بشكل كبير في تطوير الابستيمولوجي والفلسفة السياسية. كتاباته أثّرت في فولتير وروسو وبالعديد من مفكري التنوير الاسكتلنديين وكذلك الثوريين الامريكيين. مساهماته في النظرية الليبرالية انعكست في اعلان الاستقلال للولايات المتحدة. نظرية لوك في الذهن اعتُبرت الأصل للتصورات الحديثة للهوية والذات وانعكست لاحقا في اعمال هيوم وروسو وكانط. لوك كان اول من عرّف الذات من خلال استمرارية الوعي. اعتقد لوك ان الذهن عند الولادة يكون على شكل لوحة فارغة، على عكس الفلسفة الديكارتية المرتكزة على مفاهيم ما قبل الوجود، اكّد لوك على اننا وُلدنا دون ان تكون لدينا اية افكار فطرية وان المعرفة تتقرر فقط عبر التجربة المشتقة من المعرفة الحسية.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/تموز/2014 - 23/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م