{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ
هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
هي طبيعة الطغاة وزبانيتهم، والقائد الضرورة وعصابته في كل زمان
ومكان، لا يقبلون ان يتحدث احدٌ قبلهم، ولا ان يعمل احدٌ قبلهم، كما
انهم لا يقبلون ان يغيّر احد رعاياهم معتقداته قبل ان يؤذن له، انهم
يخلقون من انفسهم سقفا فكريا وثقافيا وعقديا وكل شيء، فلا يحق لمواطن
ان يفكر بطريقة تختلف عن طريقة تفكيرهم، ولا يحق لاحد ان يغيّر عقيدته،
فيستبدل عقيدة النظام بعقيدة اخرى، كما لا يحق لاحد ان يتابع الا
الاخبار التي تنشرها وسائل الاعلام التي أممها القائد الضرورة لصالحه،
حتى {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فهو السقف وهو القياس.
ان الطاغوت يخشى كثيرا فترتعد فرائصه فرقا اذا فكّر الناس بحرية
وناقشوا الامور بعيدا عن عيونه وغيروا رأيهم او عقيدتهم اذا ما عرفوا
الحق، ولذلك تراه ينشر العيون بين الناس لمراقبتهم لئلا يفكر احدهم
بصوت عال او يناقش أمرا لا يرضى به وعنه الحاكم.
ان حرية المعتقد والتعبير هي اخطر انواع الحرية على الحاكم الظالم،
لانها تعتمد العقل وليس العاطفة، ولذلك يقف بوجهها الطاغوت مهما كان
الثمن، فيقتل ويصلب ويطارد ويعتقل اذا ما شعر او تناهى الى سمعه بان
فئة معينة تبنّت الإصلاح الفكري او العقدي في المجتمع.
للمواطن في سلطة الطاغوت الحق في ان يفعل ما يشاء الا ان يتمتع
بحرية المعتقد والفكر والتعبير، ولذلك فانّ فرعون استنكر على وزرائه
إيمانهم بموسى عليه السلام وتغييرهم عقيدتهم قبل ان يجيز لهم ذلك، لأنّ
عقول الناس آلات يتحكم بها الطاغوت عن بُعد، فإنْ أجاز لهم شيئا آمنوا
به وان لم يُجِزْ لهم ذلك فليس من حقهم ان يغيّروا عقيدتهم مهما كان
السبب.
ان على الشعوب المتخلّفة ان لا تسمح للطاغوت او اي من زبانيته في
ان يتصرف بعقولهم، فيجيز او لا يجيز لهم، ابدا، فالإنسان بعقله اولا،
فإذا صادره الطاغوت او سيطر عليه او تحكّم فيه، فان الانسان بهذه
الحالة سيتحول الى دابة تمشي على الارض، او كما يصفه القران الكريم {أَمْ
تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ
إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}.
ومن اجل ان يتحكم الطاغوت بعقول الناس، ليسلبهم حق حرية المعتقد
والتعبير والرأي، تراه يوظّف جيشاً من وعّاظ السلاطين والأقلام
المأجورة وأشباه المثقفين، همُّهم التسبيح والتمجيد بالقائد الضرورة
وشرح خطاباته وتفسير كلماته والتبرير له والتصفيق والتهليل له والهتاف
باسمه، وتضليل الرأي العام وغسل أدمغة الناس لصالح عقيدة الطاغوت.
انه يخصص ميزانيات مفتوحة لهذا الغرض من اجل ان يتحكّم بعقل
المواطن، فلا يدعه يسأل او يفكّر او يفتّش او يبحث بحريّة، ليبقى إمّعة
يعتقد بما يعتقد به الطاغوت ويؤمن بما يريد فقط لا غير، واذا صادف ان
تمرّد احدٌ على عقيدة الطاغوت فان هذا الجيش جاهز لتنفيذ المهمات
الخاصة ضده والمتمثلة بسياسات التسقيط والتشكيك والاتهام الباطل
واغتيال الشخصية، واذا اقتضت الضرورة، فكواتم الصوت جاهزة على ان يدفع
الضحية ثمن الرصاصة التي ستخترق رأسه، كما يحدثنا عن ذلك القران الكريم
بقوله {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ
أَوْ حَرِّقُوهُ} او كما في قوله تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.
ان الطاغوت يسعى، اولا، الى تجهيل الناس للسيطرة على عقولهم،
وبالتالي للتحكّم بطريقة تفكيرهم، والتي ستكون ساذجة في هذه الحالة
بدرجة كبيرة، ولهذا السبب نرى ان نسبة الجهل والأمية في بلاد الطاغوت
عالية، اما في البلاد التي لا يحكمها طاغوت فان نسبتها تقترب من الصفر،
ولذلك فليس غريبا ان نقرا في تقرير الجامعة العربية بان نصف الشعب
العربي لا يقرا ولا يكتب، لانّه محكوم بنظام سياسي استبدادي، بوليسي
وشمولي، ليسهل على الحاكم التسلط عليه، بعد ان يخفّ وزن العقل فتكون
الطاعة للحاكم عمياء بامتياز، وصدق الله تعالى الذي قال {فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
التغيير سيل هادر
أسحار رمضانيّة (١٢)
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً
إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
هذا يعني ان في كل مجتمع من المجتمعات أمة من الناس لا شغل لها الا
تثبيط المصلحين، فإذا كتب احدٌ ينبّه هاجموه، واذا خطب اخر محذّراً
اتّهموه، واذا انتقد ثالث طعنوا في نواياه، وهكذا، فهم لا يحرّكون
ساكنا، ولا يحاولون التغيير والإصلاح، الا ان ألسنتهم طويلة ضد كل من
يحاول ذلك، وشعارهم دائماً (ميفيد) فلا الكلام ينفع، برأيهم، ولا النقد
يفيد ولا النصيحة لها اثر، فما العمل اذن؟ هل نجلس في بيوتنا ونضع رجلا
على رجل بانتظار المعجزة؟ هل نصمتْ بانتظار المخلّص الموعود؟ هل نتغافل
عما يُراد بنا بانتظار ان تنزل على أعدائنا صاعقة من السماء فتقتلهم
وتخلّصنا مما نحن فيه؟ الا ترون ان حالنا يزداد سوءا يوما بعد اخر؟ هل
تريدون ان نكون {كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا،
أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ
أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً،
أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ
أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!} على حد قول أمير المؤمنين (ع)؟!.
ان كل عمليات التغيير التاريخية تبدأ بكلمة لتتبلور في فكرة لتتحول
الى مشروع فيعمل من اجل تحقيقه رجال قليلون يؤمنون بالمشروع ويستعدّون
من اجل تحقيقه للتضحية، فلمّا يشعر المجتمع بصدقية المشروع وإخلاص
رجاله يلتحقون به ليتحقق التغيير التاريخي المرجو.
وهذه هي حقيقة ما جرى في كل الامم عبر التاريخ، ولم يشذ عنها الحدث
التاريخي العظيم الذي شهدته الجزيرة العربية في البعثة النبويّة
الشريفة، فالتغيير بدأ بثلاثة {رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)
وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا} على حد قول أمير المؤمنين عليه
السلام، ليتحوّل التغيير الى سيل هادر غيّر مجرى التاريخ، ولو ان رسول
الله (ص) كان قد أصغى للنفر الذين تحدثت عنهم الاية المباركة اعلاه، او
كما يصفهم القران الكريم بقوله {الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} لما استقر
للدين أمرٌ، ولما كنا اليوم مسلمين.
كذلك، فان التغيير التاريخي العظيم الذي شهدته أوربا قبل عدة قرون،
ليستقر بعد الحرب العالمية الثانية، هو الاخر بدأ بكلمة قالها فيلسوف
فتحولت الى فكرة تبناها مفكر لتتحول الى مشروع عٓمِلٓت على تحقيقه
مجموعة صغيرة من العقلاء والحكماء الذين أبدوا استعدادا منقطع النظير
في الدفاع عما آمنوا به وصل الى حد سوقِهم الى مقاصل الإعدام بعد محاكم
تفتيش صورية حكمت عليهم بالإعدام بتهمة محاربة الله تعالى وأدواته في
الارض، الكنيسة، على حد زعمهم، ولو انهم كانوا قد أصغوا الى كلام
المثبّطين وصدّقوا ان لا شيء ينفع في تغيير الواقع، لما كانت أوربا
اليوم على ما هي عليه، ولظلّت في ظلماتها الى الان.
لذلك:
الف: يجب ان لا نصغِ ابدا الى الذين يقولون (ميفيد) فلقد اثبتت
تجارب الانسانية بأنّ الكلام ينفع والفكرة تنفع والرأي ينفع والنقد
ينفع والموعظة تنفع وكل شيء ينفع.
انهم ينفون التأثير من دون ان يقدموا اي بديل، وكأنهم يريدون نحرنا
بسهام الياس والقنوط.
نعم، قد لا يترك الكلام اثره في اللحظة، فقد يستغرق بعض الوقت،
ولكنه في النهاية سينفع بالتأكيد، فلماذا ينفع في كل مكان ولا ينفع في
العراق مثلا؟ هل ان عقولنا تختلف عن عقول الآخرين؟ ام ان آذاننا لا
تستوعب الحديث؟ ام ماذا؟.
باء: ينبغي ان لا نيأس اذا رأينا الناس لا تصغي إلينا، او ان
المسؤول يستهزيء بما نقول ونكتب، فالامر يحتاج الى مثابرة ومواصلة
واستمرارية حتى يؤتي الكلام ثماره، ولعل في قصة نبي الله نوح عليه
السلام مع قومه خير درس وعبرة وانموذج يحتذى، فعلى الرغم من انهم
واجهوه بالضد وبكل الطرق، الا انه ظل يواصل دعوتهم للحق، كذلك بكل
الطرق، دون كلل او ملل، حتى قضى الله أمرا كان مفعولا.
يقول القران الكريم راسما تلك الصورة بقوله {وَإِنِّي كُلَّمَا
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا*
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}.
علينا ان نغيّر الوسائل والأدوات بين الفينة والأخرى، وكذلك
الأساليب وطريقة العرض. فالظروف تتغيّر، كما انّ الحاجات والأوليّات هي
الاخرى تتغيّر.
جيم: نحن بحاجة الى ان نُحسِن الظن بالناس والمجتمع، فليس كلّهم لا
يقرأون او لا يتأثرون او لا يهتمون، ولذلك يجب ان يكون عندنا أمل في
التأثير، ثم نعمل على زيادة نسبته شيئا فشيئا.
دال: يجب ان نتعامل مع الكلمة كمسؤولية، فنعرف كيف نختارها؟ ولمن
نقولها؟ وأين نقولها؟ وكيف نقولها؟ بمعنى اخر، فان علينا ان نجتهد في
قول الكلمة، اي نبذل قصارى جهدنا ونحن نسعى لقولها من اجل ان تغيّر،
فإذا أثّرت فبها، وان لم تؤثر فلقد فعلنا الذي علينا، واسقطنا الواجب
الوطني والديني والأخلاقي الذي كان يجب علينا ان نتصدى له، وليس علينا
بعد ذلك ان ننجح، وصدق الشاعر الذي قال:
وكل رمضان وانتم بخير.
على المرء ان يسعى بجُهده
وليس عليه ان يكون موفقا
[email protected] |