شبكة النبأ: بعد أيام من مقتل عثمان،
حملت أمواج الاضطراب السياسي سفينة الأمة بعيداً عن شواطئ الأمان،
فاجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير، وأجمعوا على بيعة
الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، فجاؤوا إليه مسرعين عارضين عليه
البيعة ليكون أميراً للمؤمنين، فرفض فوراً. ودار حوار ساخن عند باب
بيته، عليه السلام، وبعد شدّ وجذب، قال عليه السلام:
"..ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيّةً ولا تكون إلاّ عن رضا
المسلمين". ثم قال:" دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه
وألوان. لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول".
فقالوا ننشدك الله، ألاَ ترى ما نحن فيه؟ ألاَ ترى الإسلام؟ ألاَ
ترى الفتنة؟
فقال: " قد أجبتكم وإني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ".
هكذا يصوغ أمير المؤمنين، عليه السلام نظرية الحكم التي تحقق
الاستقرار السياسي والسعادة للناس.. ثلاث مقومات أساس للحكم الرشيد:
1- الانتخاب العلني وليس خلف الأبواب المغلقة، (بيعتي لا تكون خفية).
2- رأي الأغلبية (رضا الناس)، ثم تحملهم المسؤولية.
3- الالتزام والطاعة، (ركبت بك ما أعلم).
الوصول الى قمة السلطة لدى البعض يمثل قمة النجاح والانتصار وتحقيق
الذات، حتى وان كان على حساب مصالح الآخرين، او من خلال إشعال نيران
الفتن السياسية وخلق الأزمات مع المعارضين، فهي تعد لدى هذا البعض من
وسائل تعزيز الموقف السياسي في القمة، ولا يهمّ حينئذ من يدفع ثمن
الأزمة، وبأي شيء..؟ ربما تكون في قلة الخدمات، او في التخلف العلمي او
في هدر الثروات، وفي كرامة الإنسان، ثم في الأرواح والدماء.
أمير المؤمنين، عليه السلام، يعلم جيداً أن الرغبة بمبايعته – وبغض
النظر عن الدوافع والنوايا- كان يقابلها رغبات بالضد من فلول "النظام
السابق"، ومن المنتفعين من عثمان، وتحديداً الأمويين. ومهمة مواجهة
الفساد العريض والعميق الذي أوجده هؤلاء في الامة، لم يبدأه الامام
عليه السلام، من منطلق سياسي بحت، إنما من منطلق حضاري، لذا طلب منهم
ان يكون "لهم وزير خير من ان يكون أمير..". فعندما يتدافع الناس على
دار الامام يطلبون منه مدّ يده للمبايعة، يعني إعلانهم المشاركة في
مسيرة التطهير التي سينطلق بها لاحقاً ضد كل رواسب الفساد والانحراف
طيلة الخمسة والعشرين عاماً من عمر الحكم المنحرف عن نهج رسول الله،
صلى الله عليه وآله.
لذا نجده، عليه السلام، وبعد مبايعته خليفة وحاكماً، يصحد بالقول:
".. ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه، صلى الله عليه
وآله، والذي بعثه بالحق، لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنّ غربلة، ولتسلطن سوط
القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم اسفلكم..".
من هنا نعرف، أن القضية لم تكن تنافس سياسي على السلطة بين الامام
علي، عليه السلام، وبين من سبقه في الحكم، وايضاً الامويين الذين كانوا
يتلاعبون بمقدرات الامة من خلف الستار، وربما احياناً أمام الملأ..
إنما تخطيط منه، عليه السلام، بأن تكون المرحلة الجديدة متسمة بالوعي
واليقظة وتحمل المسؤولية، فهو يقود الامة بعلمه لا بجهلهم، كما هي
السياسات المتبعة آنذاك، وما تزال وفق المنهج الميكافيلي، حيث التسطيح
والتضليل والخشية من الوعي والثقافة والنقد.
فمن الواضح أن الامام علي، عليه السلام، كان يجهّز الامة ويحثها على
الاستعداد للمواجهة مع جبهة الباطل والبغي، متمثلة في "معاوية" المتمرد
على أمر الخلافة الشرعية بالتنحّي عن منصبه كوالي على الشام. ليحدد
المسؤولية الشرعية على الامة، سواءً من هم في المدينة او الكوفة او
البصرة أو سائر الامصار الاسلامية، وما عليهم فعله.
نعم؛ نحن نتحدث عن الإجراءات التي قام بها أمير المؤمنين، عليه
السلام، من استبدال جميع ولاة عثمان على الأمصار الإسلامية، وهتافه بعد
يوم واحد من بيعته: "إن كل قطيعة أقتطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال
الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو
وجدته قد تزوّج به النساء وفُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في
العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور أضيق". لكن؛ هل ان التطهير وإقامة
العوج والانحراف في الامة، من مسؤولية الامام لوحده.. وانه الوحيد
المكلف بأداء هذه المسؤولية؟.
عندما لم تنفع لغة الرسائل والمرسلين بين الامام و"معاوية" المتشبث
والمتخندق في الشام، كان لابد من التحرك العسكري، ومواجهة "الفئة
الباغية"، فكان تسيير الامام للجيش الإسلامي لمحاربة الجيش الأموي
انطلاقاً من الكوفة، وقبل ذلك كان، عليه السلام قد خاض القتال مع
"الناكثين" (طلحة والزبير). هذه المعارك كانت بالحقيقة تمثل ميدان
اختبار نفسي، اكثر مما هي اختبار للقوى العضلية في ساحة المعركة لإبداء
البطولات. مما يمكن القول معه، إن تجهيز الامام لجيشه لمقاتلة جند
الشام، لم يكن برغبة منه لزج الناس في الحرب، أو لتحقيق مصلحة سياسية
او تنفيذ خطة معينة مجاراةً لمصالح خارجية – كما يحصل اليوم- إنما
التعبئة جاءت نتيجة لرأيهم وموقفهم الشديد بمبايعته.
المؤرخون والباحثون يقولون، ان معظم المسلمين، وربما جميعهم، لم
يكونوا قد تعرفوا جيداً على منهج امير المؤمنين وفلسفته في الحياة، لذا
تفاجئوا بقراراته بعد توليه الخلافة، منها المساواة في العطاء والحزم
والشدة عند الانحراف والباطل، وهو ما أثار طلحة والزبير عليه. طبعاً؛
هو تحليل للظروف والمواقف التاريخية، لكن في كل الاحوال، شكلت تلك
الفترة مرحلة اختبار عسيرة للمسلمين، ليس لسكان الكوفة ، وحسب ، وإنما
في كل مكان، بأن يفهموا جيداً أن الاختيار الحر للحاكم يتبعه التزام
وتحمّل لمسؤولية التغيير والاصلاح التي ينهض بها هذا الحاكم، او ربما
المبادرة اليها إن حصل وحدث نوع من التلكؤ او التراجع عن المهمة
الموكلة اليه، او عدم قدرة على تحمل الامانة الملقاة على عاتقه.
من هنا؛ نلاحظ شدة عتب ولوم الامام علي، عليه السلام، على
المتقاعسين والمتخاذلين عن القتال، وهذا "نهج البلاغة" يعجّ بكلمات
وخطب الامام حول هذه المسألة، ولعل نسبة لا بأس بها من هذا الكتاب
المقدس، يختص بخطب وكلمات تتعلق بعلاقة الامام، عليه السلام، واهل
الكوفة والمتخاذلين عن نصرة الحق ومقارعة الانحراف. فالامام علي عليه
السلام، لم يكن يرضى او يقبل أن يكون هو والصفوة من حوله، يمارسون
السياسة والحكم والتجذابات السياسية مع هذا وذاك، ويبقون الأمة والشعب
في وادٍ آخر، حيث الانشغال بحياتهم اليومية ومصالحهم الخاصة. |