لكل شيء في هذه الدنيا حد محدود لا يمكن تجاوزه، حيث ان الأفق
يعتبر حد للعين فلا تستطيع النظر أبعد من ذلك، ذلك حدها والله جعل
الانسان على قدر من الاستطاعة فلا يتجاوز طاقته الا بإذن من الله جل
وعلى، ما يتعلق بالقدرة على معرفة الغيب ذلك علم لا ينبغي لأحد الا من
اصطفى الله قال تعالى ﴿ عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾.
وأمير المؤمنين عليه السلام هو امتداد للنبي صَلِّ الله عليه وآله
فعلمه من علم رسول الله صَلِّ الله عليه وآله، فلا غرابة ان يكون عالم
بالغيب، وقد دلت سيرته التي شهد بها المؤالف والمخالف بأنه سباق الأمم
في كل أمر، وهو القائل سلوني قبل ان تفقدوني، فوالله (وهذا قسم) لا
تسألوني عن فئة تُضِل مائة، وتهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقتها،
قام إليه رجل فقال: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر، فقال له
علي عليه السلام: والله لقد حدثني خليلي أن على كل طاقة شعر من رأسك
ملكاً يلعنك، وأن على كل طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يُغويك، وأن في
بيتك سخلاً (ولد الشاة) يقتل ابن رسول الله صَلِّ الله عليه وآله وكان
ابنه قاتل الحسين عليه السلام يومئذ طفلاً يحبو.
لم يستطع ذلك الرجل تحمل تلك الفضيلة لعلي عليه السلام وأنكر خطابه
الغيبي فوقع في شرك عمله لانه يحارب الله ورسوله، ولقد ظهر الخطاب
الغيبي لعلي عليه السلام اثناء خطبه وفي حروبه ضد الناكثين والقاسطين
والمارقين (فعن ثابت الثماليّ عن سويد بن غفلة أن علياً عليه السلام
خطب ذات يوم، فقام رجل من تحت منبره، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت
بوادي القرى، فوجدت خالد بن عُرفطة قد مات، فاستغفر له، فقال عليه
السلام: والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن
حِمار فقام رجل آخر من تحت المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا حبيب
بن حِمار، وإني لك شيعة ومحب، فقال: أنت حبيب بن حِمار؟ قال: نعم، فقال
له ثانية: والله إنك لحبيب بن حِمار؟ فقال: إي والله ! قال: أما والله
إنك لحامِلُها ولتحمِلنها، ولتدخُلنّ بها من هذا الباب وأشار إلى باب
الفيل في مسجد الكوفة).
قال ثابت: فوالله ما مِت حتى رأيت ابن زياد، وقد بعث عمر بن سعد إلى
الحسين ابن علي عليه السلام، وجعل خالد بن عُرفطة على مقدمته وحبيب بن
حِمار صاحب رايته، فدخل بها باب الفيل.
المتأمل في هذه الرواية يلمس الثقة اللامتناهية في الخطاب الغيبي
للإمام عليه السلام، لانه علم لدني لا يدركه احد وهو من الأخبار
بالمغيبات التي لا يعلمها الا الله ورسوله والاوصياء من بعده صلوات
الله عليهم، وفي رواية أخرى تدلل على الخطاب الغيبي للإمام عليه السلام
(عن عبدالله بن الحارث، قال: قال علي عليه السلام على المنبر: ما أحد
جرت عليه المواسي إلا وقد أنزل الله فيه قرآناً ؛ فقام إليه رجل من
مبغضيه فقال: فما أنزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس إليه يضربونه ؛
فقال: دعوه، أتقرأ سورة هود؟ قال ؛ نعم، قال: فقرأ عليه السلام
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
مِّنْهُ} ثم قال ؛ الذي كان على بينة من ربه محمد صَلِّ الله عليه
وآله، والشاهد الذي يتلوه أنا.
وفي ذكره للملاحم المستقبلية ما روي عن إسماعيل بن رجاء قال (قام
أعشى همدان وهو غلام يومئذ حٓدث إلى علي عليه السلام، وهو يخطب ويذكر
الملاحم فقال يا أمير المؤمنين، ما أشبه هذا الحديث بحديث خُرافة !
فقال علي عليه السلام: إن كنت آثماً فيما قلت يا غلام، فرماك الله
بغلام ثقيف ؛ ثم سكت، فقام رجال فقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير
المؤمنين؟ قال: غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة الا انتهكها،
يضرب عُنُق هذا الغلام بسيفه، فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال
عشرين إن بلغها، قالوا: فُيقتل قتلًا أم يموت موتاً؟ قال: بل يموت حتف
أنفه بداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء: فوالله لقد رأيت بعيني أعشى باهله، وقد أُحضر
في جملة الأسرى الذين أُسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد الأشعث بين يدي
الحجاج، فقّرعه ووبّخه واستنشده شِعره الذي يحرّض فيه عبدالرحمن على
الحرب، ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس.
وفي حربه مع الخوارج قد قدم النصح والإنذار لهم وهو العالم بنتيجة
الحرب ضده (فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام
هذا الغائط، على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مُبين معكم، قد طوحت بكم
الدار واحتبلكم المِقدار) فماذا كان ردهم عليه؟ قالوا (لا حكم إلا لله)
ورد عليهم أمير المؤمنين عليه السلام بكلماته البلاغية الرنانة (كلمة
حق يراد بها باطل، نعم لا حُكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة)
وفي رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال (حُكم الله أنتظر
فِيكم).
ان الحديث عن الخطاب الغيبي للإمام أمير المؤمنين عليه السلام يعكس
الشخصية العظيمة لهذا الامام المعصوم، المتعدد الفضائل في جهاده
وبلاغته وفضائله النفسية، وحلمه وتواضعه وعبادته بل لم يشهد لأحد بمثل
ما شُهد له (قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري
(لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي
عليه السلام) والحديث عن مجمل علومه مما لا يدرك كله، وخطابه الغيبي
وأخباره بالمغيبات والملاحم لا يسعها مقال مقتضب ولا كتاب وإنما هي بحر
لا يجتازه الا العارفون. |