الاكتفاء الذاتي.. من مصلحة الوطن الى مصلحة الأمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لا تفكر بلادنا بالاكتفاء الذاتي، إلا عندما تشعر بذلّ التبعية والاعتماد على الخارج في كل شيء، لاسيما المواد الغذائية والسلع الضرورية، وعندما تندلع هنالك أزمة او خلاف في العلاقات مع هذه الدولة او تلك بسبب دعم الجماعات الارهابية التي توغل في الدماء والدمار، (السعودية مثالاً)، او تلك التي تسيئ الى الاسلام ورموزه المقدسة، (الدنمارك مثالاً)، تثور فجأة فكرة مقاطعة البضائع والسلع من هذه الدول، والتفكير بالاعتماد على الذات لتعويض النقص الحاصل في الأسواق.

شراء الرفاهية قاتلة الاكتفاء الذاتي

منذ عقود من الزمن، وتنتشر بين أوساط مجتمعنا فكرة شراء الرفاهية من الخارج مهما كان الثمن للحصول على حياة افضل خلال فترة قصيرة. وهذا ما جربه الخليجيون، عندما اعتمدوا في تأسيس بنيتهم التحتية على الشركات الأجنبية، وها هي المنشآت النفطية والخدمات والطرق والجسور والمواصلات وحتى بعض المنشآت الصناعية، كلها تعمل وتدار من قبل شركات أجنبية، فالبعض في الخليج يعتقد انه من خلال الاموال والثروة التي يمتلكها يمكن ان يشتري التقنية الحديثة مما يحقق حياة مرفهة وسعيدة له، بدلاً من البحث والدراسة للإبداع والابتكار ثم الإنتاج. لان هذه المسيرة تجبر الإنسان على تحمّل المشاق والصبر والتضحية وتحمّل الشحة في الأموال ووسائل الراحة.

وهذا ما يدعو اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، عندما يتحدث عن الاهمية القصوى لثقافة الاكتفاء الذاتي التي يجب ان تغرز في نفوس المسلمين، وعدم التفكير بالثمن، لان النتائج تأتي باهرة وعظيمة، لاسيما في الجانب الاقتصادي ثم السياسي والاجتماعي. ومع أن سماحته يؤكد على "تشجيع الاقتصاد الوطني.." من خلال الاكتفاء الذاتي، فان اضاءته تعمّ العالم الاسلامي برمته ويطمح لخلق شعور واحد في "الوطن الإسلامي" الواحد بعدم شراء واستخدام المنتوجات غير الاسلامية.

نعم؛ هنالك من يبحث عن الراحة والعيش الرغيد عبر أخر صيحات التقنيات الحديثة في الاتصالات ووسائل النقل والمستلزمات المنزلية وغيرها، وهذا ما يمكن توفيره من بلدان اسلامية قدر الامكان، والتفكير باقتنائها من دول اسلامية، بدلاً من تفضيل السلعة الاجنبية، غير الاسلامية، والموجودة في معظم اسواقنا.

هذه الخطوة من شأنها تشجيع الانتاج والابداع في البلاد الاسلامية، ثم التأثير المباشر على البنية الاقتصادية للبلد المنتج، مما يعني توفير فرص عمل وسيولة نقدية، وربما الامر الاكثر اهمية تحكيم وشائج العلاقة بين الشعوب الاسلامية، لان القضية ستعود بالنفع على الشعوب الى جانب اصحاب الرساميل والمصانع.

وحتى هذه النقطة يسلط سماحة الامام الشيرازي الضوء عليها، عندما يضرب لنا مثلاً في اقلية دينية في بلد اسلامي، فانهم لا يشترون ما يحتاجونه من المحال الموجودة القريبة منهم، انما يقطعون مسافات بعيدة للوصول على صاحب المتجر والمحل الذي يماثلهم في الانتماء الديني، وبهدف مساعدته على المزيد من الكسب والتوسع في نطاق العمل والانتاج.

الطاقات والأموال يستفاد منها الغير

من المعروف ان المواطن في بعض بلادنا الاسلامية يُعد من الأغنى في العالم من حيث الثروة الهائلة المدفونة في باطن الارض، ودخل الفرد المفترض من تصدير النفط والسلع الاخرى، مما يدر المليارات من الدولارات على خزينة الدولة، بيد أن الملاحظ ان السعودي والكويتي والعراقي والايراني – على الاغلب- يفضلون البضاعة الاجنبية على المحلية، بل حتى المصنوعة في البلاد الاسلامية، ليس وهذا وحسب إنما هنالك مقولة شائعة، بأن الشركات الاجنبية اكثر أمانة وكفاءة واتقاناً من الشركات المحلية، في مشاريع تتعلق بالطرق والمواصلات والمنشآت النفطية والانتاجية وغيرها.

ان طريقة التفكير الضيقة والسطحية للامور، تسفر عن تبديد الثروات والقدرات المالية الهائلة لدى هذه البلاد وغيرها، وهو ما نلاحظه اليوم، حيث ان الاستهلاك اكثر من الانتاج، وإن كانت ثمة حركة انتاجية فانها لن تصمد امام الانتاج الصيني – مثلاً- او الكوري او الاوربي وهكذا.

وحتى السياحة الاستجمام التي تشكل اليوم من اهم وأنشط ميادين التجارة العالمية، حيث تدر مليارات الدولارات سنوياً على دول العالم، فان الامام الراحل، يشير الى انها يجب ان تكون باباً يدخل اليه الانسان المسلم من أي مكان لتحقيق الاكتفاء الذاتي لبلده وللبلاد الاسلامية الاخرى، فمن المعروف أن دولاً مثل تركيا ومصر وماليزيا وغيرها، تحظى بمواقع سياحية خلابة وجميلة، تمثل بحق مصدر استثمار ضخم يغني الشعب مما يحتاجه من العملة الصعبة، فما الذي يدفع البعض – إذن- الى اختيار مدن في اوربا والولايات المتحدة او امريكا اللاتينية للاصطياف والاستجمام، وتبذير الاموال هناك، في حين هنالك من هو أحق من الامريكي والفرنسي والايطالي.

ويورد سماحته امثلة على الحرص البالغ لتحقيق الاكتفاء الذاتي بعدم الاعتماد على السلع والمنتوجات الغربية. منها ما جرى على لسان مراجعنا الكبار، رغم كبر سنهم وحاجتهم الماسّة الى وسائل الراحة، منهم الامام الراحل الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- عندما افتى في زمانه بحرمة ركوب السيارة..! وعندما سُئل عن السبب قال: "ان ركوبكم السيارة يشجع استيراد السيارات الاجنبية الى العراق من بريطانيا، ومعنى هذا تشجيع البريطانيين اقتصادياً ومالياً في وقت هم يحاربوننا ويسفكون دمائنا..".

وهذا يؤكد لنا أن الاكتفاء الذاتي والتحرر من التبعية الاقتصادية بحاجة الى تضحيات وتحمّل الكثير من الخسائر والمضايقات من عدم السفر والتمتع بالمنتوجات الجميلة والرائعة. بيد أن النتيجة تكون حصول الدول الاسلامية، - وليس فقط دولة واحدة- على المزيد من الاستقلال والعزة والكرامة، ولن تكون عرضة للضغوط والاستفزازات من أي نوع كان، كالذي نشهده اليوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/تموز/2014 - 18/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م