في كل عدوان إسرائيلي تتحدث قيادة الجيش الإسرائيلي عن وجود بنك
للأهداف التي سيتم التعامل معها، وهي دائما أهداف عسكرية وأمنية،
كاغتيال قادة ورجال المقاومة، تدمير مواقع وحظائر الصواريخ، معسكرات
تدريب، مواقع أمنية، ومصانع أسلحة الخ. في حقيقة الأمر وإن كانت
إسرائيل تتعامل مع هذه الأهداف وتحاول تدمير أكبر قدر منها، إلا أن بنك
الأهداف السياسية الحقيقية الأكثر أهمية لا يتم الحديث عنه، كما أنها
لا تتحدث عن استهداف المدنيين والبنية التحتية، وتعتبر ما يقع في هذا
النطاق مجرد خطأ غير مقصود مع أن غالبية ضحايا العدوان من الأطفال
والنساء والشيوخ.
من حيث المبدأ لا توجد حرب من أجل الحرب، أو حرب من أجل تحقيق أهداف
عسكرية فقط، فالبشر تجاوزا مرحلة أن يقتلوا بعضهم بعضا من أجل القتل
فقط. لكل حرب هدف سياسي حتى وإن لم يتم البوح به علنا. المعارك
والانتصارات والهزائم العسكرية ليست إلا مؤشرات وإعلانات عن تحقيق أو
عدم تحقيق الأهداف السياسية، والانجاز العسكري الذي لا يحقق الأهداف
السياسية لا يعتبر انتصارا كاملا.
تبرير إسرائيل عدوانها بأسباب عسكرية وأمنية مجرد خدعة كبرى، تسعى
من خلالها لإخفاء الأسباب الحقيقية للحرب ومحاولة استجلاب عطف وتأييد
الرأي العام الخارجي وتبرير العدوان، وهدفها الظهور بمظهر الدولة
المسالمة التي يتم الاعتداء عليها وترويج حربها تحت عنوان محاربة
الإرهاب والدفاع عن أمن الإسرائيليين. بل حتى مصطلح الحرب على غزة
مصطلح مضلل لأنه يوحي وكأن غزة دولة أو كيان مستقل يعتدي بالصواريخ على
إسرائيل، وهذه الأخيرة تمارس حقها بالرد !، بينما الواقع أن غزة كالضفة
جزء من الأراضي الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، ومن حق
الفصائل الفلسطينية والجماهير ممارسة كل أشكال مقاومة الاحتلال حتى وإن
شاب هذه الممارسة أخطاء وتجاوزات، لأن اسرائيل لم تترك لهم من خيار آخر.
بما أن العدوان الإسرائيلي على القطاع تكرر أكثر من مرة، بل هو
عدوان متواصل، هذا معناه أن إسرائيل لم تنتصر انتصارا كاملا في كل
حروبها السابقة مع الفلسطينيين، لا في تحقيق الأهداف العسكرية والأمنية
ولا في تحقيق الأهداف السياسية، لأن النصر في الحرب يعني أن ترغم الخصم
على الخضوع لإرادتك والتسليم بشروطك. وفي ظني أن شراسة العدوان العسكري
الحالي والتهديد بالانتقال لمرحلة الحرب البرية، إنما يخفي فشل إسرائيل
في تحقيق أهدافها السياسية خلال كل حروبها ومواجهاتها مع الفلسطينيين،
سواء جولات الحرب والمواجهة الميدانية، أوفي ميدان الدبلوماسية
والشرعية الدولية، هذا لا يعني أن الفلسطينيين انتصروا، ولكن بالنسبة
لشعب ضعيف خاضع للاحتلال، فإن الصمود وعدم الاستسلام يعتبر نصرا بشكل
ما.
إذن بعيدا عن الأهداف العسكرية والأمنية المعلنة للحرب على غزة،
فهناك أسباب سياسية متعددة تقف وراء قرار إسرائيل بشن هذه الجولة
الجديدة من الحرب. إسرائيل تريد استكمال ما بدأته عام 2005، عندما
انسحبت من داخل قطاع غزة في محاولة لإفشال أية إمكانية لقيام دولة
فلسطينية في الضفة وغزة، وفصل غزة عن الضفة للأبد، وإيجاد تسوية ما
لقطاع غزة منفصلة عن مسار الأمور في الضفة، حيث تسعى إسرائيل ومعها
واشنطن لضم الضفة تدريجيا لإسرائيل، أو إيجاد تسوية للضفة والقدس بمعزل
عن قطاع غزة، وعلينا أن نتذكر ما قاله الرئيس الأمريكي اوباما العام
الماضي وكرره جون كيري ومن بعدهما نتنياهو، عندما قالوا بوضوح نحن نسعى
لتسوية سياسية تستثني قطاع غزة، وقول الرئيس أوباما أنه مستعد للتوسط
بين إسرائيل وحماس للتوصل لهدنة، يصب في هذا الاتجاه.
لا شك أنه بعد تسعة أعوام من خروج إسرائيل من قطاع غزة جرت أمور
كثيرة وطنيا وإقليميا، مثل: تفرد حماس بالسيطرة على قطاع غزة، تعاظم
القوة العسكرية والصاروخية لفصائل المقاومة في القطاع، واحتمال وجود
تنظيمات متطرفة كالقاعدة وداعش غير خاضعة لسلطة حماس، والأوضاع
المستجدة في مصر وخصوصا سيناء، ومزيد من ضعف السلطة الفلسطينية ووصول
المفاوضات لطريق مسدود، وانشغال العرب والمسلمين بمشاكلهم وصراعاتهم
الداخلية الخ. إلا أن كل ذلك ليس إلا عوامل مساعدة ومشجعة لإسرائيل
لتقوم بعدوانها وحربها لتحقيق الهدف الرئيس، منع توحيد الضفة وغزة في
سلطة وحكومة فلسطينية واحدة، سواء كانت سلطة فتح أو حماس أو سلطة
تقودها حكومة توافق وطني، أيضا كسر روح الصمود والتحدي عند الشعب سواء
في الضفة أو غزة.
إذن الحرب التي تجري اليوم كما هو الأمر بالحربين السابقتين – 2009،
2012-، والتي تبدأها إسرائيل وتستدرج لها فصائل المقاومة، التي لا يكون
أمامها إلا الدفاع عن الشعب والأرض، تعبر عن فشل إسرائيل في كسر أرادة
الشعب الفلسطيني ودفعه للاستسلام، إنها موجهة ضد الدولة الفلسطينية
والتي بدأت تتضح بعض معالمها وبشائرها بعد اعتراف 138 دولة بفلسطين
دولة مراقب، وهي حرب موجهة ضد المصالحة الفلسطينية، حيث بدأ
الفلسطينيون يتلمسون طريقهم نحوها ولو بتعثر، كما أنها تأتي كحرب
استباقية لمواجهة حالة نهوض وطني وتمرد في الضفة الغربية والقدس،
ولمواجهة حالة المقاومة والممانعة والوطنية عند أهالي قطاع غزة، وفي
هذا السياق يجب أن لا نقلل من أهمية المواجهات التي تجري بين شعبنا في
الضفة والقدس وجيش الاحتلال، بل يجب التأكيد أن المعركة الحقيقية هي
التي تجري في الضفة والقدس وحول مستقبلهما.
هذه الجولة من الحرب كسابقاتها لن يكون فيها منتصرون ومنهزمون، حتى
وإن كانت حربا بين الخير الفلسطيني والشر الإسرائيلي أو الحق الفلسطيني
والظلم الإسرائيلي، فالخير والحق لا ينتصران إلا إذا توفرت شروط
موضوعية للنصر. كل طرف سيقول إنه حقق انتصارا، وستتوقف الحرب اليوم أو
بعد أيام، ويتم التوصل لهدنة، ونتمنى أن لا يطول العدوان، فغزة لم
تتعافى بعد من نتائج العدوانيين السابقتين وهذا العدوان جاء في ظروف هي
الأسوأ في تاريخ قطاع غزة وفي ظل ظروف سياسية داخلية ملتبسة. المهم كيف
يمكن توظيف إنجاز المقاومة وصمود الشعب بما لا يُمَكِن العدو من أن
يحقق بالهدنة ما عجز عن تحقيقه بالحرب.
بما أن الأهداف الإسرائيلية من الحرب معروفة، وهي أهداف غير مقتصرة
على غزة وصواريخها، بل تمس مجمل القضية الوطنية، ففي الإمكان مواجهة
الحرب الإسرائيلية وما ترمي إليه، من خلال إعادة الحوار الوطني، للتوصل
لتفاهمات على مواجهة المخططات السياسية لإسرائيل وربط العدوان على غزة
بمجمل القضية الوطنية، والتأكيد على أن الحرب ليست بين إسرائيل وحماس
في غزة، بل بين إسرائيل وكل الشعب الفلسطيني.
هذا يتطلب استمرار التمسك بالمصالحة واستكمال بقية بنودها وعدم
توظيف الحرب كذريعة للتهرب من المصالحة، ومنع إسرائيل من الاستفراد
بحركة حماس وبقية فصائل المقاومة، سواء في الحرب أو في مرحلة التوصل
لاتفاق أو تفاهمات هدنة جديدة. ولا نستبعد أن تتوسع الحرب في قطاع غزة
لعمليات برية حدودية محدود خلال أيام، تستدرج من خلالها، أو من خلال
التهديد بها، تدخلا دوليا أو عربيا لهدنة جديدة وترسيم حدود دولة غزة،
وبالتالي تكريس الانقسام.
نتفهم حالة الاستياء من بعض تصريحات الرئيس وبعض المسئولين في فتح
والسلطة تجاه ما يجري في قطاع غزة، وكنا وما نزال نتمنى لو كانت السلطة
الوطنية كانت أكثر تفاعلا وتفهما للهبة الشعبية العارمة في الضفة وغزة
وأكثر تفهما لمعاناة قطاع غزة، ولكن، يجب أن تؤسَس أية تفاهمات حول
الهدنة على وحدة الشعب والأرض الفلسطينية، وليس على واقع الانقسام،
وخصوصا أن التفاعل الشعبي ما بين الضفة وغزة أكد على وحدة الشعب، وهذا
يتطلب أن تكون الهدنة القادمة بوجود وإشراف الرئيس أبو مازن بصفته رئيس
منظمة التحرير ورئيس السلطة وهو الجهة الرسمية التي تستطيع مخاطبة
العالم والمنظمات الدولية والعربية والإسلامية، ومع الرئيس يجب أن تكون
حركة حماس والجهاد الإسلامي وبقية فصائل المقاومة للتأكيد على وحدة
الموقف الفلسطيني من العدوان. بهذا يتم إفشال المخطط الإسرائيلي لتكريس
الانقسام من خلال سعيه لهدنة مع حركة حماس فقط. إذا أصرت حركة حماس على
استبعاد الرئيس وبقية الفصائل عن مفاوضات الهدنة فهذا معناه أنها تريد
تكريس الانقسام، وإذا نأى أبو مازن بنفسه عن الهدنة فهذا معناه التخلي
عن مسؤوليته عن قطاع غزة، ولا مشروع وطني ولا دولة بدون قطاع غزة.
إذا ما تم توقيع اتفاقية هدنة بين إسرائيل وحركة حماس فقط، بوساطة
أمريكية أو مصرية أو غيرها، فهذا معناه توجيه ضربة قاصمة للمصالحة
الوطنية وللدولة الفلسطينية الموعودة، وهذا معناه أن إسرائيل نجحت في
تحقيق هدف مهم من أهداف الحرب. حتى في هذه الحالة فستكون حربا بلا نصر
كامل ونهائي لأي من الطرفين، والهدنة لن تنهي الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي بل ستؤجله فقط، وسيكون لغزة جولات جديدة من العدوان والحرب
والدمار.
Ibrahemibrach1@gmail.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |