تشكل الحرب قصصا دراماتيكية مؤثرة سواء في التاريخ او في الفنون
الملهمة للصراعات، فهي دائما ما تكون مغرية ويمكنها بسهولة اثارة
الحنين القومي لصراعات الماضي الكبرى، خاصة بين اولئك المحظوظين الذين
لم يعيشوا نفس الفترة التي شهدتها تلك النزاعات. من السهل جدا اختزال
رعب تلك الحروب وتضخيم انجازاتها خاصة عندما يصعب بناء افتراضات شرطية
لأحداث الماضي.
ان ذكرى بدء الحرب العالمية الاولى تجسّد توضيحا جيدا لهذه المسألة.
الحرب جرى فهمها على نطاق واسع بانها كانت عملاً طائشاً وضياعا بلا
معنى. ملايين الناس ماتوا في اربع سنوات من الصراع. كانت الحرب خطئاً
عظيما. العالم عام 1914 كان ينمو بسرعة ويتجه نحو العولمة. ذلك العصر
كان عصر الرخاء والابتكارات. قرارات القوى العظمى في الذهاب الى الحرب
عام 1914 لم توقف فقط العالم عن الذهاب في مساره التاريخي السعيد،
وانما دشنت جيلا من الرعب التام حاول فيه العالم الحديث بكل ما يملك
تحطيم ذاته وربما نجح في ذلك تقريبا.
لأي غاية؟ في كتابه"أسف الحرب" The Pity of War للمؤرخ نيال
فورغسنNiall Ferguson يرى المؤلف انه قبل بداية النزاع عام 1914 كان
الهدف الاستراتيجي الكبير لألمانيا هو تأسيس اتحاد جمركي قاري في اوربا،
يخضع لهيمنة الاقتصاد الالماني.هذا الهدف ربما يجسد لطفاً عاليا
للقيادة الالمانية التي هي بالتأكيد كانت لديها خططا امبريالية في
افريقيا واماكن اخرى. مع ذلك من المفارقة المذهلة الاعتقاد ان العالم
ألقى بنفسه في جحيم امتد لثلاثين عاماً لكي يمنع الترتيبات
الجيوبوليتيكية التي التزم بها المتصارعون فيما بعد.
لذا يجب ان نكون حذرين جدا قبل ان ننسب للحرب اية مساهمات للانسانية.
لايكفي ببساطة القول بان الحرب ادّت الى تطورات ايجابية. لكي يقيّم
المرء وبشكل ملائم تأثير الصراع لابد من إثبات ان تلك التطورات ما كانت
لتحدث بدون الحرب.
انظر لورقة حديثة للاقتصادي تايلر كوين Tyler Cowen بعنوان "عدم
وجود حروب كبرى يؤذي النمو الاقتصادي". هنا نعرض الحجة الاساسية في
الورقة:
الفكرة مع انها مخالفة للانطباع العام لكنها ربما تبدو سليمة وهي،
ان المزيد من السلام في العالم لا يجعل هناك حاجة ماسّة لتحقيق نسبة
عالية من النمو اقتصادي وبالتالي سيصبح النمو اقل احتمالا. هذه الرؤية
لا تدّعي ان الحروب تحسّن الاقتصاديات، لأن الصراع في الواقع يسبب
الموت والدمار. الأدّعاء ايضا يختلف عن الجدال الكنزي بان الاستعداد
للحرب يزيد الانفاق الحكومي ويوفر للناس فرص العمل. هو يشير الى ان
احتمالات الحرب توجّه اهتمام الحكومة لجعل القرارات الاساسية صحيحة-
سواء كانت استثماراً في العلوم او مجرد تحرير للاقتصاد. مثل هذا
التركيز يقود بالنهاية الى تحسين مستقبل البلد في المدى البعيد.
العبارات اعلاه تنطوي على بعض الادعاءات. الاول وهو الاكثر ريبة هو
ان المرء يمكنه مناقشة الفوائد الاقتصادية المترتبة على استعدادات
الحرب باعتبارها منفصلة عن موت ودمار الحرب ذاتها. الحرب العالمية
الثانية عجّلت من تطوير الانظمة الصاروخية والكومبيوتر والتكنلوجيا
النووية والاكتشافات الاخرى. انها قادت ايضا الى موت ستين مليون شخص
تقريبا. ذلك يشكل خسارة مروعة لمدخلات العمل ورأس المال البشري (هي
ايضا مأساة انسانية يصعب تصورها). لا نحتاج للجدال ان الاستعداد للحرب
هو جيد للنمو طالما انها تقود لأشياء مثل "مشروع مانهاتن"(1)، لكن ذلك
لا يعني وجوب قتل مئات الآلاف من الناس لأن هذا سيضر بالنمو.
غير ان "مستر كوين" كونه اختار التعامل مع ايجابيات التعبئة
العسكرية بشكل منفصل عن السلبيات، فهو قام بادّعائين آخرين سنقوم
بتقيمهما. الاول هو ان التهديد بالحرب او تهيئة متطلبات الحرب سيقود
الى اتخاذ افضل القرارات الاقتصادية. ذلك ربما يعني الاستثمار في
العلوم او البنية التحتية، او ربما يعني تحرير الاقتصاد.
هناك بعض الادلة الايجابية في هذه النقطة. في بحث لثلاثة علماء هم
فيليب اغون Philippe Aghion، وتورستن بيرسن، ودورثر روزيت ذكروا فيه ان
الدول التي هي في ذروة التنافس العسكري تميل،مثلا، للقيام باستثمارات
كبيرة في مجال التعليم الابتدائي. المؤلفون يعتقدون ان ضغط المنافسة هو
اكثر نفعا في الدول الديمقراطية. لكن الى اي حد نحن واثقون بان الضغط
يقود حقا لأحسن القرارات الاقتصادية؟ الشيء المثير في اثنين من اكثر
الاقتصاديات الليبرالية نجاحا في القرنين الاخيرين- وهما بريطانيا
وامريكا- كانتا خلال المراحل الاساسية للتنمية وبشكل غير عادي متحررتين
من أخطار الغزو. يستطيع المرء العثور على امثلة كان فيها التهديد
العسكري الوجودي يشجع على التنمية والتحرر: تايوان وجنوب كوريا اقرب
الامثلة. ولكن من السهل ايضا العثور على امثلة مضادة، فيها قاد التهديد
العسكري الى استقرار في ظل انظمة شديدة الليبرالية او الى عدم استقرار
مرتبط بضغوط النمو. يبدو من الصواب القول بان المنافسة العسكرية يمكنها
ان تزعزع الاقتصاد السياسي السائد في البلاد، فاتحة الطريق امام حدوث
تغيرات سياسية دراماتيكية. غير اننا غير متأكدين من وجود اي سبب
للاعتقاد بان مثل هذا التغيير سيكون ايجابيا على المدى البعيد.
هذا يقودنا الى الادّعاء الثالث، وهو الاكثر اهمية: ان الطلبات
العسكرية تحفز الابتكارات، المالية وخاصة التكنلوجية. لا احد ينكر ان
الحروب كانت دائما تحفز الابتكارات. في معظم التاريخ الانساني كانت
الاختراعات تتم اما مصادفة او مرتبطة مباشرة بالاحتياجات العسكرية.
الارتباط اليوم هو حقيقي كما كان في اي وقت مضى. كانت حروب امريكا في
الثلاثة عشر عاما الماضية مكلفة بشكل استثنائي وغير فعالة. لكنها يعود
لها الفضل في تحفيز التغيير السريع في الاتصالات ونظام التشفير وفي
تكنلوجيا الطائرات بلا طيار وتكنلوجيا الطب والاطراف الصناعية. الحرب
الباردة قادت مباشرة الى الاختراعات في مجال الحوسبة الحديثة
والتكنلوجيا الشخصية والانترنيت.
لكن القول بان الاحتياجات العسكرية ساهمت مباشرة بالاكتشافات لا
يعني الادّعاء ان تلك الضرورات العسكرية مهما كانت مساهماتها، عززت
صافي النمو الاقتصادي. لكي نؤكد مثل هذا الادعاء نحتاج لبيان ثلاثة
اشياء:
1- ان الاختراعات لم تكن لتحدث في تلك الفترة دون مشاركة الحكومة.
2- ان مشاركة الحكومة الحاسمة ما كانت ان تأتي خارج المجالات
العسكرية.
3- ان مساهمة الاختراعات للنمو كانت كبيرة جدا لدرجة عوضت عن
التكاليف المرتبطة بتدخل الحكومة (بما فيها تكاليف اي حرب قد تندلع في
نفس الفترة).
إثبات هذه الاشياء الثلاثة ليس سهلا. ولا يجب ايضا التهرب من جوهر
المسألة، وهي ان الحكومة تلعب دورا حاسما في توفير الموارد والحوافز
للابتكارات. لكن التأثير الاقتصادي للحرب يجب ان يدفع المناصرين للجدال
لمطالبة الحكومات وبصوت عالي لدعم البحوث التكنلوجية.
السيد كوين ليس وحيداً في هذا النوع من الجدال. في عام 2011 ذكر
"بول كروغمن "ان التهديد بغزو خارجي ربما يرخي من زمام الانفاق
الحكومي، معززا نوع من الانفاق بعجز وهو الانفاق المطلوب لتحريك
الاقتصاد ودفعه خارج الركود. هو ايضا ذكر في السنة الماضية ان التهديد
المنافس من الصين ربما كان عامل اغراء لدفع اليابان نحو اقتصاد
"الايبونومنكس" Abenomics القائم على سياسة التحفيز المالي والارخاء
النقدي واصلاحات هيكلية. السياسات الاقتصادية الجديدة والجريئة التي
تُتبع الآن في اليابان يبدو انها أيقظت الاقتصاد الياباني من عقدين من
الركود.
العنصر الاساسي في فهم مشاكل من هذا النوع ربما ينصب على الآليات
التي تكمن خلف تعبئة الرغبة القومية نحو غايات اقتصادية رشيدة. ماذا
يعمل بالضبط التهديد بالحرب؟ كيف يغيّر التوازن السياسي؟
احد الاحتمالات هو انه يغير توزيع المردود المتوقع لجميع اللاعبين
المشاركين. فمهما كان مردود المعارضين السياسيين من سياسات تحفيز النمو
فهو من غير المحتمل ان يتجاوز المخاطر المتزايدة من حالات الهيمنة على
الاخرين او التدمير التام. ولكن من غير الواضح ان كان هذا يوضح الظاهرة
اعلاه التي يحاول الاقتصاديون توضيحها. اليابان لا تخشى من غزو صيني
مباشر. وامريكا لا تحتاج ارسال رجال الى الفضاء لحماية نفسها من خطر
سوفيتي. فلابد هناك من شيء آخر.
هناك امكانية اخرى اُشير اليها ضمنا في الورقة اعلاه، فيها يقتبس
المؤلفون من تقييم المؤرخ ايجين ويبر Eugen Weber للاهداف الفرنسية في
اعقاب الحرب الفرنسية – البروسية:
"شعب مفكك بدرجة عالية، أغلبهُ غير متعلم، يتحدث لهجات متعددة، وليس
لديه حس وطني، كان يجب تحويله الى شعب موحد يشترك بنفس القيم الوطنية،
وبنفس اللغة المكتوبة والمنطوقة، وبمجموعة من المبادئ الاخلاقية،
وتحفيز ومقدرة على الدفاع عن فرنسا في النزاعات المستقبلية."
بكلمة اخرى، العنصر الاساسي هو القومية. القومية - ربما تسمح عبر
تقليل كلفة الاجراءات بين الاحزاب السياسية، او عبر زيادة التضحية
بوظائف المنفعة، او من خلال وسائل اخرى – للامة بتنظيم ارادتها
الجماعية نحو اهداف لا يمكن تحقيقها عبر المساومات السياسية العادية.
ليس من قبيل الصدفة ان مسؤولية الاصلاح في اليابان والهند انيطت بقيادة
القوميين.
لكن لا يوجد هناك ضمان ابدا بان القومية سوف تعبّر عن نفسها بطرق
مهذبة. لكي نرى ذلك نحتاج للنظر فقط الى فرنسا، حيث تحتفل الجماهير
الآن بذكرى الحرب العالمية عبر التصويت وبأعداد متزايدة لحزب Marine Le
Pen المعارض للمهاجرين، والمعارضين للجبهة القومية الاوربية. بالطبع،
هناك اشياء اخرى اكثر سوءاً في الأغاني والمسرحيات القومية قياسا
بالكراهية العنصرية والانتقادات الموجهة للاتحاد الاوربي.
القومية، لها اغراءاتها كالحرب، فمثلاً، اولئك الذين انشغلوا بفشل
السياسات الاقتصادية في الماضي، ربما يحلمون بمستقبل رائع ومختلف،
ولديهم الدافع والرغبة بالاصلاح. لكن من غير المؤكد ان الراغبين بالنمو
او اي شيء اخر في المجتمع سيحققون ما هو افضل لو راهنوا على شيء آخر.
* Political economy, the war dividend, The Economist, Jun 24th
2014.
.....................................
الهوامش
(1) مشروع مانهاتن هو مشروع للبحث والتطوير أنتج اول
قنبلة ذرية خلال الحرب العالمية الثانية. المشروع كان بقيادة الولايات
المتحدة وبمساعدة بريطانيا وكندا. بدأ المشروع متواضعا عام 1939 ثم نما
بسرعة حيث جرى فيه توظيف اكثر من 130 ألف شخص، وبلغت كلفة المشروع
حوالي 2 بليون دولار امريكي (يساوي 26 بليون دولار عام 2014). البحوث
اجريت في اكثر من 30 موقع في امريكا وبريطانيا وكندا. 90% من تكاليف
المشروع كانت لبناء المصانع وانتاج مواد الانشطار النووي، وأقل من 10%
كانت للتطوير وانتاج الاسلحة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |