عن صدأ النخب الثقافية وهذيانها

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: (أخبرني يا صديقي عن أحوال العالم الأسفل الذي رأيت. أجابه صديقه أنكيدو: لن أقص عليك أخبار العالم الأسفل يا صديقي، وإذا كان لا بد من إخبارك فعليك أن تجلس وتبكي. فأجابه كلكامش: سأجلس وأبكي).

( اللوح الثاني عشر من ملحمة كلكامش)

ما هي وظيفة الثقافة؟

احداث التغيير، واعطاء الحياة معنى.

ما هو دور المثقف؟

قيادة التغيير، والبحث عن المعنى.

تنشغل الثقافة العربية منذ وعت بنخبها في القرن التاسع عشر في البحث عن اجابات لم تكن تحتمل التاجيل وقتها، وهي الان ماعادت تحتمل التاجيل نفسه، رغم مرور تلك السنوات الطويلة على وعيها بالاستعصاء الذي نعيشه، كمجتمعات اولا، وكنظم سياسية في مرحلة لاحقة بعد التحرر من الاستعمار وتشكيل او تشكل الدول الوطنية.

حتى اللحظة اجاباتنا مؤجلة، مثلما حياتنا وزمننا يخضع الى هذا التاجيل المزمن.

لا الحاح على الافلات من قيود التأجيل، فالزمن لا يعنينا كثيرا، سواء تقدم الى الامام، وهو متقدم اليه بحكم جريانه، ونحن واقفون، او سواء توقف، وهو كذلك، في لحظتنا الراهنة ممتدة الى اسئلتنا واجاباتها المؤجلة.

الثقافة العراقية، وباعتبارها رائدة في كل المجالات ضمن الثقافة العربية، كانت لها اسئلتها الفرعية، ضمن نطاقها الجغرافي، لكنها وتماهيا مع النفس القومي واليساري للثقافة العربية ارتأت ان تؤجل الكثير من الاسئلة الى ازمان اخرى، وعملت على تغييب وعيها ضمن تلك اللحظة، لحظة الشعارات القومية، او اليسارية، لتستفيق مؤخرا على حصادها المر، لا اجابات كاملة، بل محض اوهام وهذيانات.

رغم كل المنعطفات التي عاشتها الثقافة العراقية، لم تستطع ان تحدد مسارها مما يدور حولها، واتخاذ موقف تجاه ما يحدث، وبقت تحتفي بالكثير من الاسماء، كمنجز ابداعي، على حساب منجزها الاخلاقي او الانساني.

ربما شذ البعض عن ذلك، مثل الكاتب العراقي امين العيسى الذي فر من العراق قبل اندلاع الحرب العراقية الايرانية، الذي كتب مقالة تحمل عنوان (محمود درويش والطريق المسدودة) يذكّر فيها الشاعر الفلسطيني بما قاله خلال مؤتمر للكتاب العرب اقيم في بغداد في العام 1986 وفيها انتقد درويش الكتاب العراقيين لبقائهم في المنافي، فيما (بلدهم يحارب العدو الفارسي، ولتوجيههم خناجرهم الى كبد العراق والى روح فلسطين معا)، ويختتتم الشاعر الفلسطيني خطابه امام مجلس قيادة الثورة بتوجيه المديح والشكر (لقمر بغداد، صدام حسين وارض العراق العظيم الذي يحرس البوابة الشرقية للامل العربي، والذي ينزل البطولة من الميثولوجيا الى الراهن).

اكتفي بهذا المثل، فيوجد كثير غيره، تبعا للاحداث مثل غزو العراق للكويت، وسنوات التسعينات وكوبونات النفط، وكذلك السنوات التي اعقبت العام 2003.

عربيا يمكن الحديث عما يجري الان في غزة، وما جرى في العام 2006 في لبنان، وكيف ان الحياء او الاستحياء السياسي وتبعا له الثقافي، يكون مفارقا في تسمية ما حدث ويحدث.

في الحدث الغزاوي، يقف الجميع ضد اسرائيل، حكومات ومجتمعات ووسائل اعلام ومثقفون عرب، لادانتها على قصف غزة، دون مساءلة للسبب الذي دفعها الى ذلك، وهو ما كان من خطف ثلاثة مراهقين مدنيين وقتلهم واخفاء جثثهم في احد الابار.

في العام 2006 قام حزب الله اللبناني بخطف عدد من الجنود الاسرائليين من واقع كونهم في حرب مع اسرائيل وجيشها، لكن الاعلام العربي والمثقفون اعتبروا ذلك خرقا وجنونا وهذيانا، وان الحزب يقود لبنان والمنطقة الى الخراب والدمار.

ما الذي يجعل الموقف مختلفا في حادثتين، الاولى خطف مدنيين وقتلهم، ثم الدفاع عن الخاطفين والقاتلين، وخطف عسكريين وقتلهم، وعدم الدفاع عن اولئك بل مهاجمتهم والمطالبة بنزع سلاحهم والاقتصاص منهم؟.

اعود الى الثقافة العراقية ولحظتها الراهنة.

اطلقت تسعون منظمة مدنية عراقية من بغداد، مبادرة مدنية تحت شعار: تحقيق السلم الأهلي والمجتمعي لدحر الإرهاب وضمان بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دعوا فيها الى تصحيح مسار العملية السياسية وتفكيك منظومة المحاصصة الطائفية والاثنية، فضلاً عن الدفاع عن حريات الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، وضمان حرية الاعلام، واحترام التنوع الأثني والقومي والديني والمذهبي والثقافي في مجتمعنا، ومكافحة الفساد الإداري والمالي.

وسبقتها مجموعة من أدباء النجف ومثقفيها ونخبها باطلاق مبادرة للسلم الأهلي في العراق، دعوا من خلالها إلى الاعتراف الشجاع بأخطاء العملية السياسية وتصحيح مسارها بنحو يقر التنوع الموجود في البلاد وحقوق كل مكون، وطالبوا بسنّ قانون لاستفتاء الشعب على العفو العام عن مرتكبي الجرائم السياسية والطائفية والعرقية، وعمن حمل السلاح ضدّ الدولة العراقية، من الأطياف والمكونات كلها، وترك الكلمة للشعب العراقي لكي يقرر بنفسه فتح صفحة جديدة للتعايش السلمي وبناء أمن للوطن يعتمد على روح التسامح ونسيان آلام الماضي مهما كانت عميقة ومتجذرة.

ربما الكثيرون من هؤلاء الموقعين على المبادرتين، قد كتبوا الكثير عن الاخوة العربية – الكردية، وربما كان لدى الكثيرين منهم مواقف ضد النظام السابق في دفاعهم عن الاكراد، رغم ذلك لم تشفع تلك المواقف في احداث قطيعة ولو جزئية مما راكمته السلوكيات السياسية لبعض القادة، وصراعاتهم مع بعضهم، في احداث تاثيرها المطلوب لدى النخب الثقافية في الجانب الكردي، حيث وجه لفيف من المثقفين والكتاب الكرد في المهجر واقليم كردستان ، نداء الى القيادة الكردية في الاقليم يدعون فيه الى تكثيف الجهود من اجل تحقيق الحلم الكردي في الاستقلال.

جاء في بيانهم ان (فرصة تاريخية ذهبيّة تتوافر الان، قد لا تتكرّر في هذا القرن من أجل تحقيق أكبر أحلام الكرد في التحرّر والإستقلال)، مطالبين الجميع بـ (تعبئة كل ما في الوسع من طاقات وقدرات واتخاذ الإحتياطات اللازمة؛ للصمود أمام أيّ طارئ متوقّع).

واقترح بيان المثقفين جملة أمور من بينها (العمل على استقلالية القضاء وتقديم كل خائن او مقصر للمحاكمة العادلة دونما إستثناء) وغير ذلك من التهويمات والهذيانات.

حتى الان لم يصدر رد فعل من المثقفين العراقيين العرب حول البيان ولغته وقائمة مطالبه، ربما وهو الارجح، سيبررون لهؤلاء المثقفين مواقفهم، كما بررت اسماء عراقية مواقف النخب الثقافية في العراق او البلدان العربية مما جرى ويجري في العراق، تحت شعارات المنجز الابداعي، بعيدا عن المواقف الاخلاقية والانسانية لاصحاب تلك المنجزات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/تموز/2014 - 15/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م