لاجونا بيتش ــ خلال زيارة قمت بها مؤخراً إلى الشرق الأوسط،
أذهلتني الفجوة المتزايدة الاتساع بين البلدان ــ إلى الحد الذي جعلني
مقتنعاً أكثر من أي وقت مضى بأنه من غير المنطقي اليوم أن نتحدث عن
المنطقة باعتبارها كلاً متماسكا. فبدلاً من ملاحقة هدف التقارب الداخلي،
يتبع هذا الجزء المهم من العالم الآن ثلاثة مسارات على الأقل، وهي
مسارات تتسم باختلافات كبيرة سوف تستمر ــ ومن المرجح أن تنمو ــ
لسنوات قادمة.
على أحد المسارات الثلاثة بلدان مثل العراق وليبيا وسوريا، التي
تناضل في محاولة لتجنب الانزلاق إلى الفخ المروع المتمثل في التحول إلى
دول فاشلة. وتشترك جميعها في احتمال مؤسف بأن تسوء أوضاعها كثيراً قبل
أن تبدأ بالتحسن.
والواقع أن هذه المجموعة من الدول تُسحَب إلى الأسفل بشكل متزايد مع
مرور كل يوم بفِعل تركيبة رهيبة تتألف من العنف والتفتت السياسي
والتفكك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي. وقدرة هذه البلدان على تدبر
أمورها ضعيفة، وفي بعض الحالات قد تنعدم هذه القدرة تماما. وما يدعو
إلى الأسف الشديد أن المعاناة الإنسانية الهائلة هناك من المرجح أن
تستمر، وسوف تفرض موجات الهجرة البشرية التي يستحثها هذا الوضع ضغوطاً
هائلة على البلدان المجاورة، وخاصة الأردن ولبنان.
وعلى الطرف النقيض هناك بلدان تسير من قوة إلى قوة. فبفضل عائدات
النفط المرتفعة، تمضي بلدان مثل الأمارات العربية المتحدة قدماً في
تنفيذ برامج متعددة الأوجه لتنويع محركات النمو لديها، وتعزيز رأسمالها
البشري والمادي، وادخار موارد مالية أكبر لأجيال المستقبل.
وتسجل هذه المجموعة من البلدان الإنجاز تلو الآخر، وهي الإنجازات
التي قبل فترة بسيطة اعتبر المراقبون من الخارج أغلبها بعيدة المنال،
إن لم تكن غير واقعية. وفي هذه العملية، تبني هذه البلدان زخماً أكبر
للتنمية، وهو ما من شأنه أن يجعل المجموعة التالية من الإنجازات أكثر
احتمالاً وأعظم شأنا.
وتمتد الفوائد المترتبة على تقدم هذه البلدان بعيداً إلى ما وراء
حدودها. فهي بوصفها مستورِدة رئيسية للعمالة الإقليمية، يُفضي نجاحها
إلى زيادة التحويلات المالية إلى الاقتصادات غير النفطية؛ وباعتبارها
مستثمراً رئيسياً في المنطقة فإن إنجازاتها تغذي تدفقات أكبر من رأس
المال، فضلاً عن المساعدات الثنائية الكبيرة.
والمسار الذي تسلكه كل من هاتين المجموعتين من الدول راسخ ومن غير
المرجح أن يتغير كثيراً في الأمد القريب. وبالتالي فإن الفجوة المتسعة
بالفعل بين المجموعتين سوف تستمر في النمو.
وما لا يمكننا أن نجزم به بنفس اليقين هو ما قد يحدث لبلدان الشرق
الأوسط الواقعة بين هذين النقيضين. ففي سعيها إلى تحقيق إمكاناتها غير
المستغلة، يتعين على بلدان مثل الجزائر والمغرب وتونس أن تتغلب على
العديد من التحديات. وأغلب هذه التحديات قائم منذ فترة طويلها وبعضها
جديد.
ولعلنا لن نجد مثالاً أكثر توضيحاً لهذه التحديات من مصر، الدولة
التي تسلط تجربتها الضوء على كل ما أصبح على المحك في المنطقة. فمصر في
الوقت الحالي مثقلة بتركيبة تتألف من النمو الاقتصادي البطيء، وارتفاع
معدلات البطالة، واختلالات التوازن المالي، والضعف المؤسسي، والخدمات
الاجتماعية الرديئة ــ وهي المشاكل التي تفاقمت بسبب النمو السكاني
السريع والفقر.
وعلاوة على ذلك، فإن البيئة الخارجية المحيطة بمصر أقل من ملائمة،
وكانت البلاد في رحلة سياسية وعرة للغاية منذ أطاحت الانتفاضة الشعبية
في عام 2011 بحكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك، التي حكمت البلاد بقبضة
من حديد طيلة ثلاثة عقود من الزمان. ومن غير المستغرب إذن أن يعمل
الاقتصاد بكفاءة أدنى كثيراً من إمكاناته. فقد عانت السياحة بشكل
درامي، حيث تشهد الفنادق معدلات إشغال متدنية للغاية وتقف المعالم
التاريخية الشهيرة نصف خاوية. وفي قطاعات الزراعة والصناعة خنق الفساد
والبيروقراطية المزايا النسبية للبلاد، وتفاقم الأمر بفعل عدم انتظام
إمدادات الطاقة.
وفي الوقت نفسه، يعمل الملايين من المواطنين المصريين الموهوبين في
ظِل نظام كان لعقود من الزمان بارعاً في تعويق وليس تسهيل المساعي
المنتجة. كما فشل النظام في تلبية المطالب الشعبية المشروعة من العدالة
والديمقراطية وحقوق الإنسان والخدمات الاجتماعية، وبشكل خاص التعليم
والرعاية الصحية.
ولكن برغم هذا، وبعد كل هذه السنوات من الأداء الضعيف المحبط، فإن
القاهرة الآن تدرك ما هو المطلوب لتغيير الحال إلى الأفضل ــ أو على
وجه التحديد الجمع بين الرؤية والزعامة والالتزام وتوفير بيئة أكثر
ملاءمة وإيجابية. وبرغم الخلافات السياسية، فقد تم إحراز تقدم في تصميم
برنامج للإصلاح الاقتصادي قادر على إطلاق العنان لقدرات البلاد
الهائلة. وتتابع الخطوات الآن لإصلاح نظام الدعم المكلف وغير الفعّال،
وتحسين البينة الأساسية، والتعامل مع المشاكل المتعلقة بإمدادات
الطاقة. وتستعين الحكومة على التنفيذ بدعم كبير تتلقاه مصر من بلدان
أخرى ــ وخاصة المملكة ا لعربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ــ
فضلاً عن عودة رأس المال المحلي والأجنبي الخاص إلى المشاركة، وإن كان
ذلك بشكل تجريبي مؤقت.
الواقع أن الكثير يتوقف على ما إذا كانت دول مثل مصر قادرة على تبني
إصلاحات اقتصادية ومالية ومؤسسية وسياسية واجتماعية دائمة ــ وما إذا
كانت تفعل ذلك في سياق التقدم نحو المزيد من الديمقراطية والعدالة
الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان. إن سكان هذه البلدان من بين الأكبر
على الإطلاق في المنطقة. وبوسعها أن تلعب دوراً بالغ الأهمية في ترسيخ
الاستقرار في المنطقة. وهي بوابات إلى أوروبا وأفريقيا وآسيا. ومن
الواضح أن المسار الذي ستسلكه هذه البلدان في نهاية المطاف سوف يؤثر
على آفاق المستقبل في المنطقة بأسرها.
* رئيس المستشارين
الاقتصاديين في اليانز وعضو في اللجنة
التنفيذية الدولية، كما يرأس مجلس التنمية
العالمية للرئيس باراك أوباما
http://www.project-syndicate.org/
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |