سوسيولوجيا الاخلاق لدى دوركهايم

حاتم حميد محسن

 

كان أميل دوركهايم من كبار الداعين الى مبادئ الايثار وجماعية الاخلاق. فهو اعتبر المجتمع حقيقة اخلاقية بذاته وهو المقرّر الوحيد للظاهرة الاخلاقية. قارن دوركهايم المجتمع بالكائن الحي لكي يُقنع جمهوره بفرضياته الاخلاقية وبكامل نموذجه في الواقعية الاجتماعية. رؤية دوركهايم للمجتمع هي نتاج لرؤيته للاخلاق. ان محاولة دوركهايم في بناء رؤية للمجتمع ككائن حي كانت لأجل ايجاد حالة من الانسجام مع حاجاته البيداغوجية(التربوية). ففي جميع الحالات التي وقع فيها التصادم بين الافتراضات عن طبيعة المجتمع وتلك المتعلقة بطبيعة الاخلاق، نجد دوركهايم اعطى الاولوية للاخلاق.

لقد حاول السوسيولوجيون تحديد ما حفل به منطق دوركهايم من اخطاء والتأكد من الاساس الذي وضعه للجماعية الاخلاقية بشكل عام ولجميع النظريات التي بنت على منظومته الفكرية.

الانتقادات لدوركهايم

ان الانتقادات لدوركهايم كانت كثيرة، يقول المعلقون ان الدراسات الانثربولوجية الحديثة لم تولد من تقييمات دوركهايم لما يسمى بالمجتمعات البدائية التي تفتقر حسب قوله للفردية وكونها قائمة على العقوبة بدلاً من التكريم. ايضاً دوركهايم خلط البيانات الخاصة بالاستراليين القدماء مع تلك المتعلقة بقبائل الهنود في امريكا الشمالية. كذلك لم يحصل تحقيق من جانب الباحثين بإدعاء دوركهايم ان بحوثه قائمة على اساس تاريخي. غير ان هذه الانتقادات لم تصل الى مستوى التحدي المباشر لعقيدته في الافكار الجماعية ولرؤيته بشكل عام للاساس الاجتماعي للاخلاق.

الدراسات الاخيرة للباحثين حاولت استكشاف ما اذا كان دوركهايم اكثر التزاماً بموقفه الاخلاقي ام بطريقته الميثدولوجية ورؤيته لطبيعة المجتمع. الكتابات الاولى لـ(ميلر 1996) و(لوكس 1972) و(ولورك 1972) جميعها درست دوركهايم من الزاوية التي يرغب الظهور بها كاجتماعي واقعي اقام الاخلاق على اساس علمي.

غير ان (ميلر) في مقالة له عام 1988 رأى ان دوركهايم افترض وبدون سبب وجود نسبية اخلاقية ونظام اجتماعي منسجم، يقول (ميلر) ان الموقف الميثدولوجي لدوركهايم كان نتاجاً لإفتراضاته الاخلاقية. اما (جنسبيرج 1965) فقد كشف ان دوركهايم لم يوفر الدليل على ان ادعاءاته الاساسية في الاخلاق كانت بعيدة عن البلاغة الديالكتيكية.

توجهات دوركهايم التربوية

كان دوركهايم اخلاقيا. هو ليس فقط بروفيسور في البيداغوجيا وانما هو سوسيولوجي وأحد مؤسسي علم الاجتماع، اصر على ان الواقع الاجتماعي هو نظام اخلاقي. هو ادّعى انه يمارس دراسة علمية وتجريبية للاخلاق. ذكر دوركهايم ان الاخلاق بدأت مع حياة الجماعة وان المجتمع خلق جميع الرموز الاخلاقية، فالتضامن الاجتماعي كان مرادفاً للاخلاق. لقد أقام دوركهايم اساسه الفكري معلناً ان المجتمع اذا اراد ان يكون مصدراً للاخلاق والحاكم الوحيد في القضايا الاخلاقية، يتحتم عليه ان يكون شيئاً كلياً (فيه الكل يتجاوز مجموع اجزائه) وكائناً وموضوعاً له هدف. كل الاخلاق يجب ان تكون لأجل هدف. الاخلاق توجد ليس لأجل الافراد وانما لأجل المجتمع. هو لم يذكر ابداً ان الاخلاق وُجدت لرفاهية افراد المجتمع وانما هي خدمت الاهداف والمصالح الجمعية. هو يؤكد ان المجتمع كي تكون له مصالح لابد ان يكتسب وجوداً اجتماعياً كلياً.

ان نظرية دوركهايم الاخلاقية يمكن وصفها اما جماعية اخلاقية او ايثار فلسفي. كلا المصطلحين هما وجهان لعملة واحدة او لنفس المبدأ الاخلاقي.

التشابه بين دوركهايم وكانط

اعترف دوركهايم ان منطقه الاخلاقي تبع وبقوة منطق عمانؤيل كانط مع بعض الاختلافات البسيطة والاضافات في المصطلحات. سعى دوركهايم ليعطي لنظرية الاخلاق الكانطية اساساً جديداً: ان يضع اساساً اجتماعياً للافتراضات الاخلاقية في الواجب والتضحية الذاتية باعتبارهما التبرير الوحيد للاخلاق. هناك عدة اختلافات بين نظامه الاخلاقي ونظام كانط، مع ان جميع تلك الاختلافات كانت ثانوية.

فاذا كان كانط بنى نظريته الاخلاقية على الواجب دون المصلحة الذاتية فان دوركهايم ركز على الايثار بالواجب وعلى الرغبة بالطاعة للسلطة الاخلاقية، فلو صادف ان استفاد شخص ما من عمل اخلاقي فهذا العمل يُعد سلوكاً مقبولاً ولكنه ليس ضرورياً.

وفق دوركهايم، ما هو صحيح هو ما يأمرنا، نحن ملزمون بالرغبة لتنفيذ ما اُمرنا به " القواعد الاخلاقية هي عادلة واخلاقية لأنها أمرت وخضعت لها رغباتنا. رغبة الفرد ليكون اخلاقياً جاءت من إجبار المجتمع للفرد في تبنّي رؤية ذلك المجتمع عن العالم وليس من المصلحة الذاتية او الشفقة او الميول الطبيعية. ( من الملفت ان موقف دوركهايم كان متطابقاً مع الرؤية التقليدية اليهودية – المسيحية التي وردت في العهد القديم بان رغبة الله كانت صالحة لأنها فُرضت، وهي لم تُفرض لأنها كانت صالحة).

ان كل من موقف كانط: " الواجب هو واجب "، وموقف دوركهايم بان الاخلاق تؤذي الناس ويجب ان تُحب لأنها يجب ان تُطاع، لا يختلف كثيراً عما ذُكر في محاكمات نورمبيرغ " الاوامر هي اوامر".

التفسيرات غير المنسجمة لأصل المجتمع

أصر دوركهايم على ان المجتمع ليس فقط وجوداً كلياً وانما ايضا ككائن حي. ان وصف دوركهايم للمجتمع ككائن حي لم يكن هدفاً بحد ذاته. كان ادّعاء دوركهايم فقط وسيلة لتوضيح لماذا وكيف امتلك المجتمع هدفاً، هذا الهدف هو التبرير الوحيد لجميع الافعال الاخلاقية.

ان تفسيرات دوركهايم لأصل المجتمع كانت غير منسجمة دائماً. الجزء الرئيسي من نظريته كان منسجماً اما الاجزاء الاخرى غير المنسجمة كانت تمثل وسائل مختلفة استعملها دوركهايم لكسب تأييد مختلف القطاعات من الناس. لنرى ماهي هذه التفسيرات:

1- نظر دوركهايم للمجتمع كنتيجة للتراكم الكمي للافراد. هو لم يحدد من اين جاء اولئك الافراد (ماقبل الاجتماعيين). هذا الرأي وُجد في كتابه (الفلسفة والسوسيولوجيا).

2- اعتبر دوركهايم الطقوس الدينية سبباً لظهور الظاهرة الاجتماعية. هو رأى ان اولى المجتمعات تشكلت من الطقوس الدينية حسبما ورد في كتابه (الأشكال الاولى للحياة الدينية).

3- هو اشار الى ان المجتمعات وُجدت من مجتمعات سابقة. يتضح ذلك في كتابه (زواج السفاح: طبيعة وأصل التابو).

4- واخيراً هناك موقف مبسط لدوركهايم اعتبر فيه جماعات المجتمع تكونت من جميع ضمائر الافراد السابقين والحاليين، والمجتمع في رأيه هو منْ خلق الضمير.

ان الاخلاق هي منطق بصرف النظر عن مقدار قيمتها وكيف ولماذا تُقيّم. كل فرد لديه الرغبة الحرة والتفكير المجرد سوف يحتاج الى الاخلاق. الاديان تعتقد بعدم امكانية وجود اخلاق بدون دين، الجماعيون يعتقدون بعدم وجود اخلاق دون وجود مجتمعات متراكمة. الموضوعيون يرون ان عقيدتهم مهما كانت فهي حقيقية ولا تحتاج لأي سبب آخر، اما الفرديون العقلانيون يعتقدون ان الاخلاق الصالحة هي نتاج للعقل ولتقييم الخيارات الرشيدة، وهي ترتكز على احترام حياة الانسان كفرد.

لابد من الاشارة الى صواب فكرة ان تكون الكلية الاجتماعية هي الاساس الميتافيزيقي والميثدولوجي للمبدأ الاخلاقي للايثار والتضحية الذاتية، في نفس الوقت الذي يكون فيه المبدأ الاخلاقي ذاته هو الاساس النهائي والحقيقي للكلية الاجتماعية. وبما ان كلا المبدأين هما اساس للآخر فهما يرتكزان فقط على الايمان والخيار بدلاً من العلم او الضرورة او الموضوعية. واذا تمكنّا من اقامة علاقة بين القيم الاخلاقية ورؤية دوركهايم الميتافيزيقية للمجتمع، فسوف نستطيع التأكد ما اذا كانت هذه العلاقة ستصمد لدى المنظرين الآخرين كالاجتماعيين او الدارونيين الاجتماعيين او النفعيين الذين دعموا ايضا هذه الثنائية للكلية الاجتماعية والايثار.

يمكننا الاستنتاج ان دوركهايم لم يخلق رؤيته للاخلاق كنتاج لفهمه للمجتمع، وانما كانت نظرته للمجتمع نتيجة لفرضياته الاخلاقية. وفي النهاية يمكننا ان نلاحظ ان رؤية دوركهايم الانطولوجية للمجتمع ستتفكك بسرعة لفقدانها الاساس المتماسك. لو ان احد منا لم يؤمن بان الايثار هو مبدأ اولي او ان حياة الانسان الفرد بلا قيمة، عندئذ لا يمكن لذلك الفرد الاعتقاد بنموذج دوركهايم ورؤيته للمجتمع.

هو حاول ان يثبت ان اخلاقه كانت علمية ومحصلة لبحثه السوسيولوجي، ولكن الصواب هو العكس تماماً: "اتجاهه العلمي" جرى ليوفر اساساً مقنعاً لافتراضاته الاخلاقية المبنية على ما اختارهُ من قناعات علمانية.

.............................................

المصدر:

Electronic Journal of Sociology

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 9/تموز/2014 - 10/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م