شبكة النبأ: يرتكز البناء الأساس
للدولة على دعامتين، إحداهما تدعم الأخرى، الدعامة الأولى سياسة الدولة
وصنع القرارات وفق الأطر الدستورية بحرية تامة، أي من دون فروضات أو
تدخلات أجنبية، مهما كانت الأسباب، فالقدرة على صنع القرار بصورة
مستقلة يعد المعيار الأول لكيان الدولة المستقرة القوية، الدعامة
الثانية هي الاقتصاد القوي الحر، وهذه الدعامة لا تقل أهمية عن السياسة
المستقلة، فعندما تمتلك الدولة هاتين الدعامتين نستطيع أن نقول عنها
بأنها دولة بمعنى الكلمة.
إنطلاقا من ذلك يضع الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد
الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الاقتصاد
الإسلامي في سطور)، جملة من المهام والاشتراطات التي تسهم في صنع
اقتصاد قوي معاصر، يدعم كيان الدولة، ويسهم في تبويب القدرات والطاقات
الفكرية والبشرية والثروات الطبيعية في مكانها الصحيح، فنصل الى الدولة
القادرة على صيانة كرامة الإنسان من خلال درء خطر الفقر عنه، والقضاء
على الجهل، وتوفير الاحتياجات الإنسانية المعروفة، فضلا عن تشغيل
الطاقات كافة ووضعها في خدمة البناء السياسي والاجتماعي والصحي
والتعليمي للدولة.
لذلك يعطي الامام الشيرازي للاقتصاد مهام ومسؤوليات كبيرة، ويثبّت
سماحته هذه المهام بوضوح تام، حتى يمكن لمن يعنيهم الامر، اتخاذ ما
يلزم بصدد بناء الدولة في المجال الاقتصادي الذي يعد المرتكز الموازي
والمحايث للمرتكز الثاني، ونعني به دعامة الصناعة المستقلة للقرار، من
هنا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور أهمية القضاء على الفقر،
ويلقي بانجاز هذه المهمة الكبيرة على عاتق الاقتصاد، عندما يؤكد سماحته
على: (ان الاقتصاد الإسلامي مسؤول عن سد حاجات كل فقير. وذلك حسب
معايير الكرامة الإنسانية، لا (صدقة) بمفهومها المزري، بل حقاً واجباً).
ويؤكد سماحته على أهمية توفير الاحتياجات التي تحفظ الكرامة
الإنسانية للإنسان، وتضمن الحد الأدنى من سد احتياجاته، فمهمة الدولة
التي يتكفل بها الاقتصاد ينبغي أن تضمن تحقيق الكرامة الإنسانية للشعب،
لذلك يحدد الإمام الشيرازي هذه الاحتياجات، فيقول في هذا المجال: (المراد
بالحاجات الواجب توفيرها: المأكل، والملبس، والمسكن، والمركب، والزواج،
والسفر، والثقافة، والدراسة والضرورات الطارئة كالمرض وما أشبه).
المشاريع والطاقات المعطّلة
لكي تكون الصورة واضحة لدى المعنيين بالبناء السليم للاقتصاد، فإن
الإمام الشيرازي، يعطي أولوية للمشاريع بمفهومها العام، ويؤكد سماحته
على شمولها للمجالات كافة، الصناعة والزراعية والتجارية، ويشدد الإمام
الشيرازي على حتمية التقدم الى امام بصورة دائمة في مجال المشاريع،
لتدعيم الاقتصاد، من خلال وضع الخطط الدقيقة، التي تكفل النهوض
بالصناعة والزراعة والتجارة ايضا من خلال برمجة المشاريع العملاقة في
هذه المجالات، حتى تقطف الدولة والشعب ثمار هذه التخطيط الناجح.
لذلك يلقي الإمام الشيرازي المسؤولية كاملة على الاقتصاد، في التصدي
لهذه المهام الجسيمة، وهو يعني بذلك القائمين على الاقتصاد، من خبراء
ومدراء وعقول متخصصة وأيدي عاملة متطورة، فضلا عن التخطيط العلمي
المسبق لانجاز المشاريع الكبيرة، والابتعاد عن صيغ الارتجال والعشوائية
التي تتسبب في إهدار الطاقات والفرص، لأن السبب الرئيس في تدهور
الاقتصاد يكمن في عدم التخطيط، واعتماد القرارات الآنية المتعجلة في
هذا المجال.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي في كتابه هذا، على: (أن الاقتصاد
الإسلامي مسؤول، ليس عن إقامة المشاريع بمفهومها العام فحسب، بل بالسير
إلى الأمام في جميع نواحي الحياة، كالعمران، والزراعة، والصناعة،
والتجارة، والمال، وغيرها).
كذلك ثمة جانب جوهري في هذا المجال، يتعلق بمعالجة الطاقات المعطلة،
وكيفية استثمارها على النحو الأفضل، من خلال زجّها في بعد تصحيحها في
المجالات الإنتاجية المتنوعة، وهناك خطوات ينبغي على الدولة اتخاذها
لكي لا تسهم في تخريب الاقتصاد، إذ يقول الامام الشيرازي في هذا المجال:
(أما فيما يتعلق بالطاقات المعطلة، فإن الدولة يجب أن لا تسهم بتخريب
الاقتصاد، فلا تعطي المال لمن يتمكن من العمل ويكسل ويترهل، لأن هذا
الاجراء يؤدي الى تعطيل الطاقات البشرية، بل تعطي المال للضعفاء
والعجزة، ولمن يقلّ مكسبه عن حاجياته، أما الذين يعانون من البطالة،
فإن القائمين عن الاقتصاد مسؤولون عن توفير تهيئة فرص العمل لهم
والتشجيع عليه).
مقارعة الربا والاحتكار
لقد عانت بعض المجتمعات الإسلامية كثيرا من الربا، حيث يتم استغلال
الفقراء بصورة بشعة، من خلال تقييدهم بشروط مالية قاسية، تزيدهم فقرا
على فقرهم، وهكذا يجد الفقراء الذين يتعاملون بالربا تحت الحاجة،
أنفسهم مكبلين بالديون يوما بعد آخر وسنة بعد أخرى، في حين يزداد صاحب
الأموال الذي يستغل حاجة الفقراء، ثراءً على حساب معاناة الآخرين،
ومعروف للجميع أن الإسلام قد حرّم الربا، ورفض الاحتكار وقاومه، عندما
يكون خارج حاجة الفرد او العائلة، أي عندما يلجأ إليه الأشخاص او
التجار من أجل الاستفادة التجارية، فالربا الذي يقوم على حاجة الناس
وفقرهم، يشكل عاملا خطيرا في تدمير الاقتصاد، وكذا بالنسبة للاحتكار.
وقد أكد علماء الاقتصاد على أن هذه الظواهر الخطيرة، تسهم بصورة
كبيرة في زيادة الفقر والتجهيل، وتساعد على زيادة ظاهرة بطر بعض
الأغنياء الذين لا يتورعون عن استغلال حاجة الفقراء، فيتعاملون معهم
بالربا، ويحتكرون السلع، حتى تتضاعف أرباحهم، في المقابل تتضاعف مجاميع
الفقراء، ويزداد الجهل والمرض، ويصبح الاقتصاد عاجزا عن القيام
بالمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقه، لذلك تعامل الاسلام بحدّية
تامة مع الربا والاحتكار، وسنّ التشريعات الرادعة لمثل هذه الافعال
المدمِّرة.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (أما عدم بطر الغني: فالربا،
والاحتكار، والاستغلال، والفسق، كلها محرمة في شريعة الإسلام، فإذا
أراد الإنسان أن يعمل أياً من هذه الأمور، فالإسلام يوقفه عند حده.
وبعد ذلك فليكن هناك إنسان غني يملك، الكثير من الدنانير، أو الدور أو
ما أشبه).
ولكي نضمن قدرة الاقتصاد الإسلامي على ضمان تطبيق البنود التي سبق
ذكرها، فإن الامام الشيرازي يقترح جملة من الشروط والخطوات الواجب
اتخاذها في هذا الاطار، منها كما يؤكد سماحته في كتابه المذكور نفسه:
(إطلاق جميع الحريات: حرية التجارة، وحرية الصناعة، وحرية الزراعة،
وحرية الثقافة، وحرية العمران، وحرية السفر، وحرية الإقامة، وحرية
الاستفادة من الطاقات الكونية… إلى غيرها من الحريات الإسلامية
الكثيرة). فضلا عن أهمية وحتمية الاستفادة من الثروات الطبيعية، يدعو
الامام الشيرازي الى أهمية: (إستفادة الدولة من الموارد الطبيعية،
واهتمامها في اكتساب المال بكل ما لها من قابلية وإمكانية). |