لكل منا قوى نفسية وروحية ومشاعر متنوعة تختلف من فرد الى آخر وهي،
تلك القوى، معرضة يومياً للتغيير بما يتناسب والحدث اليومي الذي تمليه
ظروف المجتمع العامة، وفي الحروب تتعرض قوانا هذه الى تهديد قوي على
مدار الساعة أملاً من مستهدفها أن يحاول إغراقنا في وهم خطير يتسبب في
زعزعة مكنوناتها وبالتالي عزل أكبر شريحة منا في الدخول في مواجهته، لم
يكن لجنكيزخان وهولاكو أن يدخلا فاتحين ومسقطين لمدن شتى بما فيها
بغداد، 656هـ، لولا عبقريتهم في إيجاد طرق تجسس وحرب نفسية حينما أشاع
بين الناس أن جيشه بأعداد خرافية وأن طباعهم شرسة وقاسية بغرض إخافة
أعدائهم وخفض مناسيب معنوياتهم الى ادنى مستوياتها فتضعف جبهتهم
الداخلية، ولم يكن لنابليون أن يدخل مصر لو استخدام الخلافات الدينية
والعقائدية أتضحت جلياً في رسالته التي وجهها لشعب مصر آنذاك. ويتحقق
النصر بخدعة بسيطة أساسها إشاعة لا أكثر.
تطورت المفاهيم في هذا المجال وعبر عشرات الحروب التي تنازعت العالم
منذ مئات السنين قد تكون الحربين العالميتين منها قد وضعتا الأسس
الحقيقية لستراتيجية مبادئ الحرب النفسية، ونحن في العراق كانت لدينا
الكثير من المسببات التي دعتنا للتفكير بجدية في حرب الإشاعات ليس
بأخرها ما يحصل اليوم من تشويش متعمد على الرؤية الحقيقية لما يحصل في
جبهات القتال الدائرة رحاه في الوطن.. توضحت كثيراً أمامنا صورة ما
تستهدفه الحرب النفسية في المجتمع من خلال جزئية الإشاعات.
في ظل صور وأخبار وفعاليات إجرامية تعافها الإنسانية، نشرت على
مواقع الأنترنت، كانت أول بوادر الخوف من الإشاعات حيث سبقت دخول
المجاميع الإرهابية في 10 حزيران، وهي المقدمة التي حاولت تلك المجاميع
أن تركز بها الإنطباع عن قسوتها في القتل وقتل الأسرى والتمثيل
بأجسادهم بأبشع الطرق وقطع الرقاب وتهديم المراقد والأضرحة وإغتصاب
النساء وتطويع الأطفال للقتال والتعليق والصلب وأمور أخرى عدة لا تخرج
من نطاق الهمجية المفرطة في الحرب وتحت راية إسلامية، كل ذلك وجه رسالة
لجبهات المواجهة تسببت كثيراً في تفخيم القابليات العسكرية واللوجستية
لهم وسهلت كثيرا وصولها للأهداف بسرعة فائقة في غياب توعية ستراتيجية
في مجال الإشاعة والتدريب المعنوي على طرق تلافيها.
لا مناص من التفكير بأن الخطط الستراتيجية للحرب النفسية قد ضعها
قادة عسكريون كبار حددوا طبيعة المجتمع العراقي ودرسوا نوع الإشاعة
المطلوبة وإمكانية إنتشارها ومدى تأثيرها على مكونات محددة من المجتمع
ومستوى نجاحها ومستوى مقدرة الدولة بمؤسساتها المخابراتية والمعنوية في
القوات المسلحة على تفتيتها بإشاعات مضادة تفوقها قوة وسرعة إنتشار
ودقة في الإستهداف.
لم يتمكن أحد من وضع تعريف للحرب النفسية لكونها لا تعتمد مستو محدد
للإنتشار بل هي واسعة التطبيق في السلم والحرب وقد تستخدم لأغراض
تجارية ربحية أو لأغراض علمية في ثني عزيمة الشركات المتنافسة حينما
تبث الإشاعات في محيط عمل الشركات الأخرى أو حتى بين أوساط الشعب عن
رداءة منتج منافس.. ولكن أشد أنواعها ضراوة تلك التي تستخدم في وقت
الحروب حينما تتمكن الإشاعة من إستهداف شعباً يعيش يومياً المعارك
الطاحنة مع الإرهاب ومهدد يومياً.. ومرت عليه سنوات عجاف كان يأمل
بعدها أن ينال السعادة التي لم يسع الكثيرون الى منحها له بسهولة.
الفساد، شريك كل إنتكاسة في المجتمع فيظهر هنا عنصراً ذا تأثير كبير
يساعد على نمو وإنتشار الإشاعات المهلكة والمدمرة للروح المعنوية..
وحين انبرت هيئة النزاهة قبل أيام لإقامة مؤتمر حول حرمة المال العام؛
كأن لا أحد يعرف أن للمال حرمة في بلد التنوع الديني والقومي والأنبياء
والأولياء والجوامع والكنائس والمرجعيات.. كلها مع التفجيرات اليومية
والإنتهاكات الأمنية الخطيرة جعلت من مجتمعنا وسطاً تقبل الإشاعات
ويؤمن بها وليس بأخرها ما حدث في 10 حزيران، واليوم نرى أن الأعداء قد
أحسنوا تجنيد وسائل الإعلام والمراجع الفقهية والدينية وعلى رأسهم
الطابور الخامس الذي عرفناه في العراق أبان الحرب العراقية الإيرانية
حينما بدأ ببث مختلف الإشاعات واجهتها ىالحكومة بالإشاعات المضادة.
فبإشاعة واحدة، من هذا الطابور، تجمع على أثره المئات من أبناء
شعبنا أمام معامل تعبئة الغاز وارتفع سعر قنينة الغاز الى خمسة
اضعافها.. إشاعة أخرى دفعت الى تخزين المياه وأخرى الى تخزين الطحين..
نتقبلها بسرعة ونبدأ بتجميع ما تمتد اليه إيادينا وتكفله مواردنا مما
يتسبب في أزمة في المواد المهمة وتبدأ بعدها أزمات أخرى تتسبب في خلخلت
الأمن الداخلي في المدن والأقضية.
أزدحم المسافرون على مكاتب الخطوط الجوية التي رفعت بدورها الأسعار
والمسافرون بلا هدف المهم أن طائرة ما تنقلهم من بغداد.. على الرغم من
تزامن الأحداث الأخيرة مع العطلة الصيفية وشهر رمضان المبارك وموجة
الإشاعات عن توقف الإستيرادات الخارجية من تركيا التي لنا معها تبادل
تجاري كبير يصل الى أكثر من 10 مليارات دولار وهي أكبر المستفيدين من
مشاكلنا الإقتصادية والأمنية، كلها إشاعات كانت تحاول النيل من القوى
الروحية للمدن العراقية أُحسن إستغلالها وتوقيت إطلاقها.
لم تكن إشاعات الغاز أو الغذاء ذات أهمية تذكر.. ولكن الإشاعات التي
تروج عن سقوط مدن والمحافظات والإقتراب من العاصمة كانت تستند بكل
تأثيراتها الى الأحداث التي سبق وأن أشرنا لها ـ فما أن يحصل إطلاق نار
حتى يخيل للبعض أن الأعداء قد دخلوا المدينة وإذا به حفل زفاف يشبع
الرجال فيه غريزتهم في إطلاق النار !
اليوم، عرضت الصحف المحلية والمواقع الأخبارية أن بياناً أصدرته
"داعش" يقولون فيه أن تنظيم داعش الإرهابي قرر مغادرة العراق والرحيل
من كامل أراضيه جراء التفوق العسكري الهائل للقوات العراقية ودكها
لأوكاره والقضاء على عناصره في العمليات الأخيرة، وقال التنظيم في بيان
تم تسريبه مؤخراً: "على ضوء ما ورد من استعدادات مكثفة للجيش(الصفوي)
بعد ان وفر له أعوان(الكفر) السلاح المتطور والحديث وفاقوا علينا عدة
وعدداً وبعد أن تباينت مكاظم الغيظ عند رجالنا وتهاوت بعض المعنويات
فإننا أصبحنا أمام خيارين أحلاهما مر فإما الرحيل وإما الموت
اللامبرر". وصرح البيان: "وجدنا أن الاستعداد للرحيل خيارنا الأسلم
خاصة وأن هنالك من يحتاجنا للجهاد في أماكن أخرى من العالم". واختتم
البيان بتوجيه الأمر لعناصر التنظيم ليستعدوا للرحيل قائلاً: "فاستعدوا
للرحيل وانتظروا أمرنا"...
على إستخباراتنا أن تحلل هذا الخبر وتحدد أبعاده فهو ينم عن مكر
كبير.. ففيه توهن عزيمة الجنود العراقيين الأبطال وتتراخى عزيمتهم في
المعركة بعد إنهزام عدوهم وإذا به يباغتهم من جهة لا يتوقعونها
مطلقاً.. تلك هي الخداع البسيطة التي دأبت عليها المجاميع علينا التحسب
لها بكل حكمة وأن لا نترك السلاح مطلقاً وإن كان هناك فردا واحد منهم
يتتمترس خلف أجساد أبناء شعبنا ينشر الضغينة والحقد بين طوائفهم.
نحن بحاجة الى توجيه الإعلام المضاد الذي يستلم الإشارات النفسية
المؤثرة ويحولها الى خلايا أزمة تعمل على التفنيد السريع لها بكل
الوسائل الحكومية المتاحة وأن تحكم سيطرتها على محيطها وتطوقه
بالمعلومات الصحيحة المدعمة بالحقائق الكاملة وأن تبدأ السلطات
التنفيذية من خلال تلك الخلايا بتقديم الدعم المعلوماتي الكامل الذي
يكفل ثبات القوى النفسية والروحية للشعب.. كما إننا بحاجة الى قنوات
إعلامية تكون قريبة من كافة شرائح الشعب وأن تتسم بالثقة الكاملة من
قبلهم وأن يتمتع المتحدثون العسكريون بأرقى درجات القابلية على تفنيد
الإشاعات. حفظ الله العراق.
zzubaidi@gmail.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |