أما إذا تمرّد المجتمع كلّه على الصيام، فأفطرت الحكومات، وأجهزة
الدول، والدوائر، والمدارس، والمستشفيات، والشوارع، والملاهي،
والمقاهي، والمطاعم، والبارات، وحوانيت المرطبات... واستخدمت الأفلام
والفنون، من ليالي رمضان ـ المستحب إحياؤها بالقربات ـ موسماً حافلاً
للتغلغل والنشاط، فاستمرت المقاهي، ومحطات البث، والملاهي، والمواخير،
والحانات، والسينمات. حتى مطلع الفجر... واستنجدت بفتحات السحور،
للتوفير على دعايات الإباحية والانحلال...
أما إذا تواترت في الشوارع، والأندية، والحدائق، والمراكز العامّة،
أسراب الشباب المائع الخليع، وهم يجترون قطع الحلويات والمعلبات أو
ينفثون في لفائف التبغ، ليبرهنوا على شجاعتهم بالتجاهر بالإفطار،
ويعلنوا تقدميتهم بالشذوذ عن النظام، والتمرد على ملزمات الفكر
والعقيدة...
أما إذا أذيعت من الإذاعات (المتأسلمة) ـ عندما يستهل رمضان ـ
مقطوعات غنائية، تسخر من الصوم، وتدعو إلى التشبع من مباهج الحياة...
أما إذا تربَّع خلف كل منضدة حكومية، قرد منتفخ، يحمل بين أنامله
سيجارة تغزل خيوط الدخان، ويستحضر الشاي والماء باستمرار، بلا احتشام
من المراجعين...
أما إذا أرصدت الدوائر المختصة ـ مع بزوغ رمضان ـ بيانات رسمية تندد
بكل من يتصدى للمفطرين بالإنكار، وتهدده بالسجن والإرهاب...
أما إذا تفكهت رؤساء الحكومات (المتأسلمة) في خطاباتها، بنوادر حول
الصائمين، وعلّقت عليهم السخرية الرعناء، تدليلاً على تحررهم من
التقاليد والخرافات...
ونحن نعلم أنّ هؤلاء جميعاً، هزلاء الضمائر، ساقطوا المروءة، ميتوا
الإحساس، لأنَّهم يتحدون الشعور العام، ويجرحون المقدسات، ويتطاولون
على أرقى مظاهر الفكر والنظام، والكرامة الإنسانية، المتمثلة في
الإسلام، دون أن يبالوا بهتك المحيط، أو يكترثوا بالتمرد على الله...
ونحن نعلم أنّ هؤلاء صنايع الاستعمار، وأصابع المستعمرين، الذين
تحركهم الإيحاءات المنفوثة من وراء السياج أو البحار...
ونحن نعلم أنّ هؤلاء يمثلون طغمة الأقزام، المأجورة لنسف الإسلام
وتعبيد الطرق للمستعمرين، وهم الذين تحميهم الدعايات، والحكومات،
والشرطة، والبوليس، والبنادق، والصواريخ...
ونحن نذكر أنّ هذه الحكومات الاستعمارية، التي استخلفت الحكومة
العثمانية ـ في أيامها الأولى ـ عندما كان يلفها إفلاس الأصابع
والصنايع، كان تستكري النساء، ليتجولن سافرات في الشوارع، وكانت تستأجر
الرجال، ليتظاهروا على الإسلام، في سبيل القضاء على هيبته المكينة في
النفوس، واعتياد المعاصي في المجتمع... فلما كثر المائعون المتحللون،
تركت الحكومات أجراءها، وألفت من المتطوعين، حلقات لضرب الإسلام وفصله
عن الحياة... فهم ينفذون إرادة حكومية استعمارية، من حيث يعلمون أو لا
يعلمون...
ولذلك تحميهم السلطات... ويمنحون كافة الحريات... ويسخرون من
الصائمين بوقاحة باسلة، فيما هم أجبن خلق الله في كل مجال، إلاّ في
مجال التطاول على المؤمنين، والاستهتار بالرأي العام، وإرادة السماء...
ولذلك يكون على المسلمين الصادقين، أن يمروا بالعصاة مطأطئين،
ويهضموا السخرية والازدراء، ويكظموا ثوراتهم العارية... لا خوفاً من
بطشة العصاة، لو تركوا والمؤمنين، لما قاوم العصاة ضحية من النّهار...
بل لأنَّ الحكومات تساند العصاة، وتحارب المؤمنين، بالطرق الملتوية
مرة، والسافرة تارات... ولأنَّ المستعمرين ألّبوا القوى الخاضعة
للحكومات الوضعية، من أجل استخدامها ي مطاردة الإسلام، والمتمسكين
بالشعارات الدينية، وجنّدوا حول الزمر التي تتولى حملة الانحلال،
الأقلام والصحف المتاجرة، وجميع أجهزة الدعاية والتأليب.
ولو لم يقم هؤلاء بعمالة الاستعمار، كيف كان للنزق العاهر منهم، أنْ
يتسلق كرامة المسلم الوقور، ولا يكون له رد الاعتداء، وإنْ مثُلا أمام
الحاكم كيف كان له أن يحكم للعاهر على المسلم، مهما كانت الدعوى
والإفادات...
ولو لم تحشد الحكومات إمكاناتها لخدمة الإباحية والاستعمار، كيف
كانت تحمي الخارجين على القوانين الإسلامية، وتدافع عن الذين يؤذون
الشعور العام بوقاحة واستفزاز، وتزدري بالمحافظين على العقيدة والهدوء
والاستقرار...
ولو لم تكن الأجهزة الحكومية، والسائرة في ركاب الحكومات، عميلة
موجهة بتوجيه الاستعمار، القابع في أوكاره العفنة، كيف حقت للأقلام
السليطة، أنْ تثير غضبتها المزعومة، وتنصب نفسها للدفاع عن (ما تسميها)
بالحرية الشخصية، لكل مواطن، إذا منع مسلم إنساناً عن الإفطار، أو عن
أية جريمة محرَّمة، وتنسى الحرية، وتحامي عن الحكومة والنظام، إذا أنكر
مسلم نظام الجمارك والضرائب، والربا والاحتكار، فكأنَّ الحرية المغلوبة
على أمرها لا تعشعش إلاّ في ظل الاستخفاف بالدين، والقيم الروحية...
ولو كانت حكومات البلاد الإسلامية، حرة، كما تتصايح، فكيف تقلد
البلاد (المسماة) بالمتحضرة، في كل تحلل وميوعة، ولا تقلدها في تكوين
(بوليس الآداب) لتعقيب الذين يسيئون إلى الشعور العام...
وإذا كانت هذه الحكومات، توفر الحرية الكاملة لشعوبها، فلماذا
تمنحها للعابثين والمتهجمين على الدين، وتحرمها على كل من يروم التحامل
على اللادينية والمنجرفين...
ونحن لا نطالب الحكومات، بجعل (بوليس الآداب) في البلاد الإسلامية،
لأنّه سيطارد المحافظين، ويشجع العابثين، ولأنَّ الإسلام جعل ضمير كل
مسلم بوليساً قوياً، والحكومات تعمل على خنقه وإلغاء مسؤوليته، فهي
أحرى أنْ لا تكوّن بوليساً خارجاً...
ولا نطالب الحكومات، بفرض الرقابة على النّاس والأقلام، لأنّها فرضت
الرقابة على النّاس والأقلام المؤمنة، فيما هي تهتف بالحرية، فماذا
تصنع، إن هي أعلنت مصادرة الحريات، وفرض الرقابات...
ولا نطالب الحكومات، بحماية الإسلام من العناصر المارقة، لأنّ
الإسلام أمنع من أنْ يتأثر بمروقها، وقد قاوم من هم أشد قوة، وأكثر
آثاراً فما لان ولا استكان، بل زادوه مناعة ورسوخاً، وزادهم لعنة
وفناءً...
ولكنّا نقول للمتسائلين:
إنْ صح أنَّ للصيام هذه الجمة الغفيرة من الفوائد، فلماذا لا يختلف
الجمهور الصائم، عن الجمهور المفطر، رغم تكرر شهور الصيام؟...
نقول لهم:
إنَّ هذا النّوع من شهر رمضان الذي يتسلل برهبة وضمور، إلى هذه
الأجواء والحكومات التي نعيشها، مع ما يألف جمهور الصائمين، في تلك
التي فصلناها قبل حين، لا يطيق إلاّ إنجاز أبعاض مبثوثة من رسالته
الشاملة الكبرى، ولا يُسئل عن هذا العجز والخفوت، ما دام هو لا يتكامل
بنفسه في المجتمع...
* من كتاب حديث رمضان |